يوسف إدريس بين التجديد والتجريب
تاريخ النشر: 22nd, June 2024 GMT
(1)
يتميز مؤرخ الأدب والناقد المثقف عن غيره من المشتغلين بهذا النشاط بشكل تقليدي أو مدرسي، بالإحاطة والشمول والرؤية الكلية للظاهرة الأدبية في تاريخيتها وتطورها النوعي من ناحية، وفي تدفقها الإبداعي المعاصر وتنوعه وتنوع أشكاله الجمالية من ناحية أخرى.
وكل ناقد كبير وأكاديمي رائد فيما أتصور يمتلك هذه القدرات الاستثنائية، ويقدم من خلال أعماله المؤلفة والمترجمة ودراساته وبحوثه ومقالاته ما يشبه المسح الأدبي والنقدي الدقيق لأهم وأبرز علامات النشاط الأدبي (في الرواية والقصة والشعر والمسرحية) فضلا على تناوله لظواهر جزئية أو قضايا موضوعية أو جمالية.
إلخ.
أبرز هؤلاء النقاد والأكاديميين هم الذين صرفوا جهدًا كبيرًا من نشاطهم في الوقوف مليا عند علامات ومحطات الأدب العربي المعاصر خاصة لدى أصحاب الإضافات النوعية والإسهامات الجمالية التي يصح معها أن نقول مثلا إن تاريخ الرواية قبل نجيب محفوظ شيء وبعده شيء آخر، والأمر ذاته يصح -إذا سلمنا بهذا الفرض- مع توفيق الحكيم، فحضور الفن المسرحي قبله في الثقافة العربية كلها شيء، وبعده شيء آخر تماما.
وقياسًا، فإن القصة القصيرة في الأدب العربي المعاصر قبل يوسف إدريس شيء، وبعد يوسف إدريس شيء آخر، ولا أظن أن أحدًا يماري في هذه الحقيقة أو يعترض عليها، فمجموعات يوسف إدريس النوعية شاهدة على الإنجاز والقفزة النوعية التي قفزها هذا الفن على يدي هذا المبدع في الثقافة العربية، ما فتح الباب على مصراعيه أمام الموهوبين في هذا الفن كي يقدموا ما قدموا من إبداعات ونقلات مذهلة على مستوى الشكل والمضمون في نصف القرن الأخير كله.
(2)
في هذا الإطار يأتي هذا الكتاب المرجع القيم للناقد الراحل والأكاديمي القدير جدا الدكتور جابر عصفور، الذي يدور بأكمله حول إبداع يوسف إدريس، وتجديده وتجريبه القصصي والمسرحي على السواء، وذلك بعد أن أفرد عصفور كتابًا كاملًا لعميد الرواية العربية نجيب محفوظ بعنوان "نجيب محفوظ الرمز والقيمة" (صدر عن الدار المصرية اللبنانية عام 2010).
كتاب جابر عصفور الأخير (صدر بعد وفاته في 2024) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويقع في 236 صفحة من القطع المتوسط، بتقديم الكاتب الكبير محمد المخزنجي، وعنوانه "قراءات في كتابة يوسف إدريس".
يضم الكتاب المقالات والدراسات التي كتبها الدكتور جابر عصفور عن يوسف إدريس، وأعماله القصصية والروائية والمسرحية، ودوره التأسيسي في التأصيل لفن القصة المصرية، وجسارته الإبداعية في التجريب القصصي والمسرحي على السواء. فضلًا على الجانب الشخصي والصداقة التي جمعت بين الناقد والقاص منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.
والحقيقة أن هذا الكتاب من أعمق وأشمل ما كتب عن إبداع يوسف إدريس، وأدبه؛ ذلك أن جابر عصفور لم يكن مجرد ناقد يحلل العمل ويفسره ويقيمه ويكتفي بذلك، أو يقدم "قراءة" لمجموعة قصصية أو رواية بمعزل عن غيرها من مجموعات يوسف إدريس القصصية أو رواياته ومسرحياته، أبدًا لا يفعل ذلك جابر عصفور ولا يكتفي به، إنما يظل وطوال ثلاثة عقود تقريبا يراجع ما كتب ويعدله ويحاوره ويضيف إليه وينقحه.. ليقدم في النهاية رؤية كلية وشاملة لكتابة يوسف إدريس، رؤية في العمق تقوم على التحليل العميق والتفسير الموازي وأخيرا التقييم الشامل.
جابر عصفور لم يكن من الكتاب والنقاد الذين يكتبون ولا يعاودن قراءة ما كتبوه، إنما هو ينتمي إلى مدرسة المراجعة والسؤال والتنقيح والتجويد، ظل طوال عمره ينتمي لمن لا يغلقون قوس ما يكتبون أبدًا ويرجئ دائما وضع النقطة الأخيرة في ختام السطر حتى رحيله (في ديسمبر 2021).
(3)
استهل جابر عصفور كتابته الفاحصة لتجربة يوسف إدريس ككل، وإضاءة نصوصه القصصية والروائية مع مطالع التسعينيات، وظل يعاود القراءة والكتابة في العقد الأول من الألفية الثالثة، وحتى رحيله كان يخص يوسف إدريس بمزيدٍ من الاهتمام والقراءة واستعادة الذكريات، وليس أدل على ذلك من مقالاته الثلاث الأخيرة التي نشرها في مجلة العربي الكويتية قبل أشهر قليلة من رحيله في 2021.
لذا فلم يكن مستغربًا أن يأتي تقسيم الكتاب وتبويبه موافقا لهذا التطور الزمني في الكتابة؛ فجاء في قسمين مترابطين ومتساوقين؛ يسبقهما "تأسيس" بمثابة إطار عام أو المدخل إلى عالم يوسف إدريس، وأصالته وعالميته، عن الدور "التأسيسي" الذي لعبه يوسف إدريس في ترسيخ وتأصيل فن قصة مصري.
يأتي القسم الأول (قراءة أولى في كتابة يوسف إدريس 1991) ليضم الكتابات التي استهلها جابر عصفور عام 1991 عن يوسف إدريس بتحليل قصته "هل يموت الزمار؟" في مجموعته "اقتلها"، ويضم هذا القسم تحليلاتٍ مستفيضة وقراءات وافية عن نصوص إدريس القصصية، وموقعها من تطور القصة القصيرة في مصر، وبعض أعماله الروائية (البيضاء تحديدًا) فضلا على رصد مشكلات وقضايا تتعلق بالوعي بالهوية وهوية الكتابة وتحولاتها في أدب يوسف إدريس..
ويعقب هذا القسم، القسم الثاني، بعنوان (قراءة ثانية في يوسف إدريس 1998-2000). وقد نشط جابر عصفور في هذه الفترة في إعادة قراءة بعض أعمال يوسف إدريس القصصية والروائية المتصلة بما أطلق عليه "جسارة الكتابة.. وكتابة المقموعين"، ويضم المقالات والكتابات التي دارت حول تحليل نصوص إبداعية مختارة تتصل بالسجن، والقمع، والتطرف الديني، فتوقف جابر عصفور تفصيلًا أمام قصة يوسف إدريس الشهيرة "اقتلها"، ورصد لأول مرة بروز شخصية المتطرف الديني في الأدب القصصي والروائي المعاصر، وتوقف طويلًا أمام رواية "العسكري الأسود"، ثم عالج مسرحية "الفرافير" و"المخططين" في إطار كشفه عما أسماه "جسارة التجريب" في إبداع يوسف إدريس المسرحي، وطموحه الإبداعي في كتابة مسرحية "مصرية" مغايرة لتقاليد الكتابة المسرحية "الغربية".
كان جابر عصفور معنيا في تلك الفترة بقراءة الأعمال التي واجهت القمع والإرهاب عمومًا، وقد حاول أن يؤصل لها "تراثيا" بدراسته الشهيرة "بلاغة المقموعين"، ثم أراد أن يستكمل استجلاء الفكرة في نصوص ونماذج روائية حديثة، وقد توقف عن نصين ليوسف إدريس عدهما من أهم ما كتب في هذه الدائرة؛ هما "العسكري الأسود" التي أفردها بتحليل نافذ مفصل، ثم قصته الطويلة "اقتلها" في المجموعة التي حملت عنوان القصة ذاتها.
وقد استغرق هذا الجزء من الكتاب كل ما كتبه ونشره جابر عصفور عن يوسف إدريس منذ العام 1998 وحتى السنوات الأولى بعد سنة 2000.
(4)
ويأتي القسم الثالث والأخير بعنوان (قراءة أخيرة في كتابة يوسف إدريس 2021).
واختتم هذا القسم بما يمكن أن نعتبره بابًا مستقلًا -في إطاره- بعنوان (*من رمزيات يوسف إدريس*) والذي يضم الدراسات والمقالات الأخيرة التي كتبها ونشرها عصفور قبل رحيله مباشرة (في مقاله الشهري "أوراق أدبية" بمجلة العربي الكويتية، 2020-2021) وفيها قراءات معمقة وتحليلات ممتازة لبعض نصوص إدريس المهمة التي عاود جابر عصفور قراءتها وتأملها مجددًا في هذه المرحلة من العمر، منها قصته الشهيرة (أكان لا بد يا لي لي أن تضيئي النور؟) التي تحولت إلى فيلم سينمائي، وكذلك روايته الأشهر "الحرام" التي تحولت بدورها إلى فيلم سينمائي من كلاسيكيات السينما المصرية، ثم روايته "العيب"، وأخيرًا معالجة موضوع "ثنائية القرية والمدينة" في أدب يوسف إدريس.
هذا كتاب -فيما أتصور- لا غنى عنه لمن أراد أن يتعمق ويتعرف على عالم يوسف إدريس الثري والزاخر والعجيب والمدهش في آن، وأيضا كتابُ لا غنى عنه لمن أراد أن يبحث عن درسٍ تطبيقي بارع في قراءة النصوص الأدبية وتحليلها واستنطاق مكنونها، والقدرة الفذة على طرح رؤية تفسيرية مكتملة من واقع تحليل دوال العمل الأدبي، وجمالياته وعناصره التشكيلية، فضلًا على استخلاص الدلالات الاجتماعية والثقافية لهذه النصوص، وربطها بالسياق الذي كتبت فيه أو أنتجت خلاله، وقراءتها في ضوء هذه النظرة الكلية والشمولية الجمالية والنصية والاجتماعية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: جابر عصفور فی کتابة فی هذه
إقرأ أيضاً:
إنبي يضم موهبة جديدة من مشروع "كابيتانو مصر"
شهدت الساعات القليلة الماضية تعاد قطاع الناشئين بنادي إنبي مع اللاعب إسماعيل يحيي مواليد 2008، نجم مشروع "كابيتانو مصر" الذي تنظمه الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية بالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة، وذلك ضمن خطة النادي لدعم المواهب الشابة وصقل مهاراتهم.
أهلي جدة بالقوة الضاربة أمام الشرطة العراقي بـ أبطال اَسياوجرت مراسم توقيع العقد صباح اليوم في مقر نادي إنبي بالكيلو 17، بحضور رئيس قطاع الناشئين كابتن عماد جابر، ونائبه كابتن أحمد سمير بيبو، والمدير الفني لقطاع الناشئين كابتن سامى ندا، إضافة إلى الدكتور محمود سعد المدير الفني لمشروع "كابيتانو مصر"، وقيادات من وزارة الشباب والرياضة.
إنبيوأشاد كابتن عماد جابر، رئيس قطاع الناشئين، بالدور الكبير الذي تلعبه الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية في دعم ورعاية المواهب في مختلف المجالات، مشيرًا إلى أن التعاقد مع اللاعب إسماعيل يحيي يعد مجرد بداية، وأن النادي في صدد التوقيع مع نجوم آخرين من مشروع "كابيتانو مصر" خلال المرحلة المقبلة.
وأكد جابر أن هذا التعاقد يأتي في إطار استراتيجية مجلس إدارة نادي إنبي، برئاسة الأستاذ أيمن الشريعي، لدعم قطاع الناشئين بالنادي وإعداد جيل قوي من اللاعبين قادر على تحقيق إنجازات مستقبلية مضيفاً أن المجلس يبذل جهودًا كبيرة لتطوير البنية التحتية للنادي، وتوفير كافة الإمكانيات اللازمة لتأهيل اللاعبين على أعلى مستوى، بما يساهم في تحقيق أهداف النادي في المنافسات الرياضية المختلفة.
ويأتي هذا التعاقد ليؤكد التزام نادي إنبي بتقديم الدعم الكامل للمواهب الرياضية الشابة، من خلال التعاون المستمر مع مشروعات تهدف إلى تنمية المهارات، مثل مشروع "كابيتانو مصر"، الذي يعد أحد المبادرات الرائدة في اكتشاف ورعاية المواهب المصرية الشابة، مما يعزز من دور الرياضة في بناء مستقبل مشرق للكرة المصرية.