د. محمد بن خلفان العاصمي
"يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (البقرة: 269).
والحكمة كما عرفها العلماء هي: كُلُّ ما منع من الجهلِ، وزَجَر عن القبيحِ وهي رأس المعرفة وهي زينة الرجال وسمتهم ومنتهى خصالهم، فقد كانت قبائل العرب تتفاخر بحكمائهما، وفي التاريخ نماذج لا تحصى من القصص والروايات التي تُبين حكمة العقلاء وحسن تدبيرهم وصلاح رأيهم، وسداد بصيرتهم، ولما كان هذا الأمر مصدر فخر بين العرب جاء الإسلام ليُعزز هذه القيمة بين النَّاس ويُرسخها لما لها من توافق مع قيم الإسلام والأخلاق الكريمة التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها.
وربما لا يفوت أي مسلم الموقف الذي حضرت فيه حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اختلفت قبائل قريش فيمن يضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة المشرفة، تلك الحكمة التي جنّبت قبائل قريش صراعاً ومعركة كانت تلوح في الأفق لولا أن أرسل الله تعالى نبيه الكريم ليضع بحكمته وفطنته حلًا أرضى جميع الأطراف ونزع فتيل حرب كادت أن تعصف بأهل مكة، لا لشيء سوى النعرات التي جعلت كل قبيلة تتمسك بهذا الشرف حتى تنال الرفعة بين القبائل، وهذا أمر مُعتاد في زمن الجاهلية حيث طغى التفاخر والتسابق في إثبات علو قبيلة عن غيرها وما داحس والغبراء إلا نموذج، وما المُعلقات إلا شاهد على ذلك.
لا ينبغى أن تتغلب النعرات والتعصبات على صوت الحكمة والعقل؛ ففي هذا الميزان صلاح وهلاك أي أمة، وإن كان من أمر محمود للتعصب فيجب أن يكون للوطن لا لغيره، وأن يكون الانتصار لصوت العقل الذي هو وحده فقط من يقدر على وضع الأمور في نصابها الصحيح، وهنا يأتي دور العقلاء والحكماء الذين يقودون المجتمع للطريق الصحيح، مجنبين المجتمع أسباب الخلاف والشقاق، مقدمين المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وهذه من خصال القيادة الحكيمة والرئاسة المستحقة.
وفي مجتمعنا العُماني اعتدنا كثيرًا على أن يكون صوت الحكمة حاضرًا في كل قضية وحدث، وكان ولا زال منهاج إصلاح ذات البين والمناصحة واحتواء الأزمات ديدن أبناء سلطنة عُمان الكرام، وقد غرس السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- بذور الحكمة والتعقُّل في نفوس أبناء هذا الوطن، بالفعل قبل القول ومد يد السلام والتسامح، ونثر مبادئ الحكمة على جنبات هذا الوطن المترامي الأطراف، وهو النهج الذي يسير عليه حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المُعظم- أعزه الله- وهو الذي عرف بحكمته ونظرته الصائبة.
ولأن الفتن تبدأ من مُستصغَر الشرر وينفخ في نارها الشيطان لتستعر وتحرق وتهلك الحرث والنسل، فإنه ينبغي علينا ألّا نفتح هذا الباب حتى لا يؤتى الوطن من قبل أيٍّ منَّا؛ فالمتربصون كُثُر والحاقدون لا يتركون سانحة إلّا استفادوا منها لتحقيق مآربهم وغاياتهم، فكيف وقد وجدوا الفرصة لذلك على طبق من ذهب عندما يتقاذف أبناء الوطن الواحد الاتهامات ويتبادلون الشعارات المُثيرة للفتن، عندها يجدون مبتغاهم ويحققون مطامعهم في تفتيت لحمة أبناء الوطن وزرع الشقاق بينهم، ولعل الأهم من ذلك عدم إدراك الكثيرين ممن تحركهم مشاعرهم وتعصباتهم إن ما يحدث ما هو إلا مخطط يراد به إضعاف الأمة وخلق صراعات بين أبناء الشعب الواحد.
إن ما يميز أبناء هذا الوطن العزيز هو حسن الخلق والاحترام والتقدير الذي يحمله الصغير للكبير، ووجود قيادات وعقلاء من أبناء المجتمع تعيد الأمور إلى نصابها بعون الله. وهو ما ينبغي أن يكون دائمًا، فالقائد الناجح هو من يجنب جماعته الصراعات والمشاحنات والتجاذبات التي لا فائدة ترجى منها سوى اتساع هوة الخلاف، وهو من تقع عليه مسؤولية احتواء المواقف التي قد تصدر من جماعته، وفي هذا التوجه سلامة المجتمع وحفظًا لوحدته وتماسكه وترابطه، ولعل الشاهد من ذلك كله هو تغليب صوت العقل والحكمة ونبذ التعصب المبني على منطلقات قبلية ومذهبية وطائفية والتي حتمًا لا خير فيها.
ومن هنا كان لا بُد من أن يقوم العقلاء بدورهم؛ فالدولة الحقيقية لا تقف عاجزة أمام مثل هذه التعصُّبات؛ بل إنها تتعامل معها فورًا حتى لا تنتقل بين مكونات الدولة فتفسدها، وعلى الأفراد أن يدركوا أن رفعتهم وعزتهم لا تتحقق إلا برفعة وعزة دولتهم ووطنهم، فالذين يظنون أن ممارسة الحرية مناط بتفسيرهم لهذا المفهوم فهم بلاشك لم يصلوا إلى حقيقة الحرية وممارساتها الصحيحة، واكتفوا بالقشور منها معتقدين أن المقياس الذي يضعونه هم هو ما يجب أن يكون حتى وإن كان على حساب الآخرين من اخوانهم.
لقد أخذ موضوع هلال شهر ذي الحجة بُعدًا أكبر مما ينبغى ووصل الحال إلى مرحلة لا تليق بأبناء سلطنة عُمان الذين عُرِفُوا بأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم وسمتهم، ووجد المُرجِفون الفرصة لتأجيج الفتنة وإشعال فتيلها بين ابناء الوطن الواحد، لكن هيهات؛ فالعُماني ليس كغيره، وعندما يصل الحال إلى حياض الوطن يتوحّد الصف وتذوب الخلافات وتتوقف كل التوجهات والاتجاهات ويتوجه الجميع نحو الدفاع عن هذا الوطن الغالي، والشواهد كثيرة لا حصر لها.
لكل من يعتقد أن مثل هذه الحوادث سوف تجد آذانًا صاغية فهذا مُحال، ولن يفت لحمة هذا الوطن مثل هذه الأحداث العابرة؛ فالدول العريقة ذات الإرث العظيم لا تُحرِّكها الأمواج ولا تتلاعب بها هبوب الحقد والغل الذي تمتلئ به نفوس الحاقدين الحاسدين الذين ساءتهم مواقفنا الثابتة ورسوخنا على قيمنا النبيلة والتفافنا حول قيادتنا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كيف يكون النداء على الناس يوم القيامة بأبائهم أم أمهاتهم؟.. الإفتاء تكشف
قالت دار الإفتاء المصرية إن عموم الأحاديث والآثار الصحيحة يفيد أن النداء على الناس يوم القيامة يكون من جهة الآباء لا من جهة الأمهات، ولا يقوى في معارضتها ما ورد من أن النداء يكون من جهة الأمهات؛ فإنها إما أن تكون أحاديث ضعيفة، أو مؤولة حملها العلماء على استحباب نسبة الميت من جهة أمه عند التلقين.
النداء على الناس يوم القيامة يكون بأسماء آبائهم أو أمهاتهمورد في السنَّة النبوية المُشرَّفة وأقوال جمهرة علماء الأمة رضوان الله عليهم ما يُفيد أن الناس يُدْعَون يوم القيامة بآبائهم؛ ومن ذلك: ما أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري عن ابن عمر رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْغَادِرَ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»، وقد بوَّب له الإمام البخاري في "صحيحه": باب ما يُدعى الناس بآبائهم، وساق تحته الحديث.
وما رواه أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَحَسِّنُوا أَسْمَاءَكُمْ».
قال الشيخ ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" (13/ 198، ط. دار الكتب العلمية): [وفي هذا الحديث رد على من قال: إن الناس يوم القيامة إنما يدعون بأمهاتهم لا آبائهم. وقد ترجم البخاري في صحيحه لذلك فقال: باب ما يدعى الناس بآبائهم. وذكر فيه حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الغادِرُ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، يُقالُ: هذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بنِ فُلَانٍ»] اهـ.
وقال الإمام بدر الدين العيني الحنفي في "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" (22/ 201، ط. دار إحياء التراث): [قَوْله: ((هَذِه غدرة فلَان)) يَعْنِي: باسمه الْمَخْصُوص وباسم أَبِيه، كَذَلِك قَالَ ابْن بطال: الدُّعَاء بالآباء أَشد فِي التَّعْرِيف وأبلغ فِي التَّمْيِيز.. وَفِي حَدِيث الْبَاب رد لقَوْل من يزْعم أَنه لَا يدعى النَّاس يَوْم الْقِيَامَة إلَّا بأمهاتهم؛ لِأَن فِي ذَلِك سترًا على آبَائِهِم] اهـ.
وأوضحت الإفتاء أن الدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز؛ قال الإمام ابن الملقن الشافعي في "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (28/ 594، ط. دار النوادر): [والدعاء بالآباء أشد في التعريف وأبلغ في التمييز، وبذلك نطق الكتاب والسنة.. ودل عموم هذا الحديث على أنه إنما يدعى الناس بالآباء، ولا يلزم داعيهم البحث عن حقيقة أمورهم والتنقيب عنهم] اهـ.
قال العلامة ابن عجيبة في تفسيره المسمى "البحر المديد" (3/ 219، بتصرف): [قال محمد بن كعب القرظي: بأسماء أمهاتهم، فيكون جمع "أم"، كخف وخفاف.. ولعل ما قاله القرظي مخصوص بأولاد الزنا.. وقال أبو الحسن الصغير: قيل لأبي عمران: هل يدعى الناس بأمهاتهم يوم القيامة أو بآبائهم؟ قال: قد جاء في ذلك شيء أنهم يدعون بأمهاتهم فلا يفتضحوا] اهـ.
وقال الإمام البيضاوي في تفسيره المسمى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل" (3/ 262، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقيل: "بأمهاتهم" جمع أم كخف وخفاف، والحكمة في ذلك: إجلال عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا] اهـ.
وقال الإمام الزمخشري في "الكشاف" (2/ 682، ط. دار الكتاب العربي) تعليقًا على هذا القول: [ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع أمٍّ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟] اهـ.
واستحب فقهاء المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة أن يَنْسُبَ الملقِّنُ الميتَ إلى جهة أمه عند التلقين في القبر؛ قال العلامة ميارة المالكي في "الدر الثمين" (ص: 318، ط. دار الحديث، القاهرة): [وأحوج ما يكون العبد إلى التذكير بالله عند سؤال الملائكة، فيجلس إنسان عند رأس الميت عقب دفنه، فيقول: يا فلان ابن فلانة، أو يا عبد الله، أو يا أمة الله] اهـ.