الكتابة الأولى.. قراءة في الفن الصخري
تاريخ النشر: 22nd, June 2024 GMT
ألقى الفن الصخري ضوءًا ساطعًا على تاريخ إثبات الوثيقة التاريخية، وأصبح من العلوم التي يستند إليها كُتَّاب التاريخ وهو مصدر لتأكيد أو نفي ما ورد في كتب التاريخ. وفي كثير من الأحيان؛ يكون المصدر الأول لبعض الأحداث التي جَازَت على الناس عبر الزمان.
قبل قرنين ونصف تقريبًا، بدأ العالم يتحدث علميا عن اللغة الأولى التي تحدث بها الإنسان الأول، وكان منطلق هذه الفكرة دينيًا صِرْفًا، نبتت من الكتب الدينية، عندما حاول معتنقو الديانتين اليهودية والمسيحية إثبات الأسماء الجغرافية في كتبهم عن الطريق البحث الميداني، وكانت النتيجة ظهور علم جديد يسمى «علم الحضارات» قائم على التنقيب الآثاري .
في بادئ الأمر كان المشتغلون بالتنقيب هم أصحاب الخلفيات الدينية، ممن حاولوا إثبات الخريطة الجغرافية التي سار فيها أنبياء بني إسرائيل. ومن أوائل من عمل على ذلك إدوارد روبيرتس؛ وهو عالم آثار له دور بارز في دراسة واستكشاف الأرض المقدسة في فلسطين. عُرف روبيرتس بدراسته الآثارية لمنطقة الهلال الخصيب وخرجت أعماله في كتاب «أبحاث الكتاب المقدس في فلسطين وجبل سيناء والبتراء العربية»، روبيرتس وزملاؤه الباحثون قدموا فرضيات وفق ما وصلوا إليه من أبحاث ميدانية، من هذه الأبحاث كان عن أصل اللغة.
حتى القرن العشرين كان تلاميذ روبيرتس وأوجست وصامويل كريمر يرون في منطقة هلال الخصيب بداية الحضارة الإنسانية، فمنها بدأت الكتابة والصناعة والرياضيات والفلك وغيرها من العلوم والفنون. النظرية لاقت قبولًا في الوسط العلمي والديني في العالمين العربي والغربي، وصارت تدرس في المؤسسات العلمية، بل إن بعض المؤسسات أصبحت تدفع بتلاميذها إلى تلك المناطق لمواصلة إثبات النظرية والبناء عليها.
إن المدرسة التي تبنت النظرية القائلة بأن العراق وما حوله هو مهد الحضارة، تعرضت لانتقادات واسعة، ولم تعد هذه النظرية إلا محض شك عند كثير من العلماء، والأمر راجع لعدة أسباب، أبرزها وأكثرها تأثيرًا هو العثور على مخزون ضخم من النقوش الصخرية في جبال العالم. هنا الجبال بدأت تنطق، فلاح الفن الصخري في الأفق بكل اقتدار، وبدأ يعيد قراءة النظريات التي تبناها العلماء مدة طويلة. الفن الصخري أعاد كثيرا من النظريات الحضارية إلى الواجهة، ومنها نظرية الكتابة الأولى، وهذه المرة دار سؤال: إذا كان ساكنو منطقة هلال الخصيب ليسوا أصحاب الكتابة الأولى؟ إذا فمَن هم؟ ومن أين بدأت الكتابة؟
إن السؤال عن ماهية الكتابة الأولى؟ وأين بدأت؟ هو في الحقيقة سؤال عن الوعي وكيف تشكل، فالإنسان يكتب ما يعي، ويُراكم هذا الوعي، ويُخرجه بألوان مختلفة، ومن هذه الألوان كان الفن الصخري، إذ دوّن الإنسان وعيه المتراكم على الجبال التي كانت هي مكان حياته وسكناه.
نقش الإنسان القديم لغته بفكرة الأنا، فعند باب الكهف حفر صوت لسانه ووضع حدا بين ما يملك وما لا يملك. فوضع حجر الأساس للكتابة بتزاوج الصوت مع الرمز. إن المعروف لدى الباحثين الأوائل في علميّ الحضارة واللغة بأن الرمز جاء متأخرا مقارنة بالصوت، فلم يدون ما ينطق إلا منذ 7 آلاف سنة، وقبلها كان الإنسان يجيد فنون العيش كالفلاحة والصناعة. أما الفن الصخري فيقول خلاف ذلك،
فتزاوج الصوت بالحرف حدث مبكرًا في تاريخ البشرية، وأن ما نراه في حضارتي العراق ومصر وغيرهما ما هو إلا الصورة الناضجة لهذا التزاوج، ولا يعبّر عن مهد الكتابة ولا الحضارة.
وهنا أضع وجهة نظري عن اللغة، وقد قسمتها إلى شقين:
الأول: اللغة الأولى، وتتمثل في الصوت، الذي لا أعرف كيف آلَ به المآل، هل تطوّر ودخل في أصواتنا اللسانية الحالية، أم أنه اندثر ولم يعد له أثر؟
والثاني: الكتابة الأولى، وتتمثل في الرمز، فهو باقٍ ومنتشر في جبال العالم.
إن رموز هذه الكتابة أتت على شكلين مختلفين ومتعاقبين زمنيًا، وقد ظهرا في العصر الحجري القديم الأسفل. الرمز الأول، عبارة عن كويبات [جمع كويب، تصغير كوب] أو دوائر غائرة حفرت في الصخور، يتراوح قطرها بين 80 إلى 50 مليمترًا، وتأتي في صفوف منتظمة وغير منتظمة. ذكر خزعل الماجدي في كتابه «حضارات ما قبل التاريخ» هذه الكويبات وقال: «يعد الفن الصخري أقدام أنواع الفن في تاريخ الإنسان، ولعل أقدم أنواعه الكويبات، وهي حفر منتظمة ملساء صنعها الإنسان فوق الصخور، تشبه طبعات كرات على الحجر، وقد أعطاها الاسم عالم الآثار روبرت بدنارك. وأقدم هذه الكويبات وجدت في كهف بهيمبتكا في الهند، وتعود إلى العصر الأشولي (500000-200000 ق.م)». من خلال ما كتبه خزعل نستنتج بأن الرمز مرتبط بالبدايات الأولى للإنسان العاقل، الذي بدأ يعرف بأن وجوده لغاية وهدف يدافع عنه في الحياة. الرمز منتشر على مستوى العالم، وقد وقفنا عليه أنا ووالدي بعُمان في عدة أماكن، وقبلنا وقف عليه باحثون اشتغلوا على الفن الصخري؛ منهم الباحث ر. جاكلي، الذي قال عن الرمز: «علامات منقوشة تشبه الكؤوس على صخرة بامتداد يبلغ سنتمترات قليلة، وعمقها يتراوح بين بضعة ملليمترات وسنتمترين، وترتبط أحيانًا بواسطة أخاديد أو قنوات مائية، وهذه الصخرة مائلةٌ ميلًا طفيفًا، وعليها وجوه صخرية، ربما كانت شائعة في عُمان كما كانت شائعة في أوروبا، حيث يتراوح تاريخها بين العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي». بالإضافة إلى ذلك ذكر جاكلي عن أماكن انتشارها في عُمان من خلال الأبحاث الميدانية التي قام بها، وقال: «إنها توجد في وادي بني خروص ووادي السحتن ووادي العين وناح ووادي عندام ووادي رجيم»، كما وقفت عليها مع والدي في أكثر من مكان؛ منها: وادي بهلا، ووادي تنوف بنزوى.
ولجاكلي ثلاثة تفسيرات للرمز:
- يرمز للوحة ألعاب «الحواليس».
- يرمز لرميات المتعبدين «الحج».
- يرمز لطقوس سلوكية «السحر».
أما أنجلو فوساتي فيقول عن الرمز: «تم إنشاء هذه التجاويف واستخدامها في الفن الصخري على مر التاريخ لخدمة العديد من الأغراض، مثل: الأوعية الطقسية للعروض السائلة لوضع الأدوية أو طحن الحبوب، بطريقة مماثلة لاستخدام الهاون. ويقترح آخرون؛ أنه يمكن تفسيرها على أنها نجوم أو تمثيل للقرى». وأيضًا؛ من التفسيرات التي أخذتها مباشرةً عن هذا الرمز كانت من باحث اللغات القديمة الليبي عبدالمنعم المحجوب، الذي زارنا في شتاء 2019م، في زيارة بحثية حضارية، وفي زيارتنا بصحبة والدي لمنطقة بني صلت الواقعة ما بين ولايتي الحمراء وبهلا وقفنا على ذات الرمز وأخبرنا المحجوب بأنه قديم جدًا، ويرمز لكتابة حسابية قديمة عرفها الإنسان.
أما الرمز الثاني؛ فعبارة عن تخطيطات شحذت على أسطح الصخور، نجدها داخل الكهف أو قرب واجهته. تسمى في الوسط العلمي «بالبوليسوار»، ويقدر الباحثون أن عمرها يتراوح بين 300 ألف و77 ألف سنة. ولهذا الرمز مكانة خاصة عند العلماء لانتشاره العالمي، إلا أنهم يقفون عاجزين عن الاستفاضة في تفسيره، والأمر راجع إلى صغر حجم هذه التخطيطات، مما يجعل تفسيرنا لاستخدامها من قبل الإنسان القديم مبهمًا. ومن القلائل الذين حاولوا تفسيرها أنجلو فوساتي الذي استنتج تفسيره أثناء عمله على دراسة الفن الصخري في جبال عمان، وذهب إلى أن الرمز تشكل نتيجة ضغط طرف السكين على الصخرة، وأنشأ علامات غير منتظمة، وبرأيه أن هذه التقنية شائعة عند الكتابة بالأبجدية العربية على سطح صلب.
أغلب التفسيرات التي قدمها الباحثون للرمزين: الكويبات والتخطيطات قائمة على الطبيعة الجغرافية للمكان، وهذا أمر طبيعي، إذ إن الباحث في علم الحضارة والآثار يحاول بناء أفكاره على الأشياء المادية الملموسة، بيد أن هناك رموزًا تجريدية الشكل عميقة المعنى، لا يمكن وضع تفسير مادي لها. وحتى تتضح الفكرة، أقول: ماذا لو كُتِبَ للغُتنا الحالية أن تنقرض، وبعد ألوف السنين عثر باحث على رموز كتابتها؟ لطرأت عليه تفسيرات كثيرة، ولربما انحصرت في التفسير المادي. هذا ما حصل لدى ثُلّة من علماء اليوم؛ إذ أُعلي من شأن التفسيرات المادية على المعنوية، حتى ظنّ البعض أن الإنسان الذي نفخ الله فيه الوعي لا يعي إلا الأكل والشرب والتناسل. بيد أنه يتضح لنا يومًا بعد يوم من خلال الكشوفات الأثرية القابعة تحت الأرض أو الظاهرة على جبالها، أن الإنسان عرف اللغة ورموزها وتواصل بها منذُ ألوف السنين. وهذا ما ذهبت إليه في هذين الرمزين، بأنهما يعبران عن رموز للغة قديمة عرفتها البشرية. قد تكون هذه كتابة عبارة عن مقاطع بسيطة بفهمنا اليوم، ولكنها منتشرة من الصين شرقًا إلى أمريكا غربًا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکتابة الأولى
إقرأ أيضاً:
من مفهوم التجديد الإسلامي إلى نقد تجاربه ومؤسساته.. قراءة في كتاب
الكتاب: التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر: تجربة مشروع إسلامية المعرفةالكاتب: فتحي ملكاوي
الناشر: المعهد العالمي للفكر الإسلامي ـ الطبعة الأولى 2025
عدد الصفحات: 362
منذ زمن مبكر، وضع العلماء مسافة كبيرة بين نصوص الوحي الثابتة وبين الاجتهاد البشري، سواء تمثل في صورة تأمل، أو قواعد تستثمر لفهم النصوص، أو علوم آلة يستعان بها في فهم لغة النص، أو علوم شرعية، نشأت مع الخبرة العلمية التي تراكمت تاريخيا، إلى أن تأصلت العلوم المنهجية (مصطلح الحديث، علم أصول الفقه)، فصار التمييز واضحا بين النصوص وبين الأنظار المختلفة، سواء كانت فقهية، أو كلامية، أو فلسفية.
وإذا كان هذا التمييز هو جزء من القناعات التي حملها العقل المسلم منذ بداية الاشتباك المعرفي مع النصوص الشرعية، فإن لحظة الاصطدام مع الغرب، واكتشاف تخلف الأمة، أعاد استدعاء هذا التمييز ضمن مشروع تعددت اتجاهاته، أطلق عليه، تجديد الفكر الإسلامي، ذلك التجديد، الذي طال النظر الأصولي، والنظر الفقهي، والنظر الكلامي، والنظر الفلسفي، ومختلف الأنظار التي تنطلق من مرجعية نصوص الوحي، بل طال حتى الفكر الإسلامي المعاصر، الذي حمل مشروع الانتظام في المرجعية الإسلامية، ونقد التحيز في المنظومة الفكرية والمنهجية الغربية، والتأسيس لإمكان إعادة بناء علوم الأمة سواء في بعدها الشرعي (العلوم الشرعية)، أو الإنساني (العلوم الاجتماعية)، فيما بات يطلق عليه علوم الوحي، وعلوم العمران.
يندرج كتاب الدكتور فتحي الملكاوي: "التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر تجربة مشروع إسلامية المعرفة" ضمن هذا السياق العام، لكنه يحمل معه سياقه الخاص، بحكم انتظامه المبكر في مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الذي حملت مشروع: "إسلامية المعرفة"، إذ جمع الكتاب جهد التنظير العام، الذي يتناول قضية تجديد الفكر الإسلامي بمفاهيمها ومترتباتها النظرية، وبين جهد تقييمي نقدي، تناول تجربة الرواد الأوائل في مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي في التأصيل لمشروع إسلامية المعرفة (الفاروقي، طه جابر العلواني، وعبد الحميد أبو سليمان).
ويكتسب هذا الكتاب أهيمته أيضا بالنظر إلى السياق العام والخاص، فالدكتور فتحي الملكاوي، كتب عددا مهما من الدراسات والكتب حول الفكر الإسلامي، وقضية الإصلاح الفكري، وقضية التكامل المعرفي، وقدم إسهامات مهمة في تقييم التراث التربوي الإسلامي، سواء منه التاريخي أو المعاصر، وانخرط معرفيا في فك الاشتباك المفاهيمي بين القيم والمقاصد من خلال كتابه: "منظومة القيم المقاصدية"، ونظم ما لا يحصى من المؤتمرات والملتقيات العلمية التي تركزت اهتماماتها على قضايا تجديد الفكر الإسلامي في مختلف مستوياته، ثم، إنه يعتبر من قيادات مدرسة المعهد، أو ربما ما تبقى من الجيل الأول منه، ممن يحتفظ بالسردية التاريخية لمشروع إسلامية المعرفة في كل محطاتها ومنعرجاتها وتحولاتها، إذ عاصر رواد هذه المدرسة، واشتغل معهم في مستويات مختلفة، وظل يمثل المدير الإقليمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بالأردن، الفرع الأكثر نشاطا وتنظيما للملتقيات والمؤتمرات العلمية.
ولذلك، سيكون لهذا الكتاب، كما كان لكتابه السابق حول "مقالات في إسلامية المعرفة"، أهمية كبيرة، سواء بالاعتبار النظري المفاهيمي، أو بالنظر التاريخي، إذ يقدم الكتاب في البعد المفاهيمي، تدقيقات مهمة لموقع الفكر بين التراث والعلم والعاطفة، وتحديد مفهوم تجديد الفكر الإسلامي ومرجعياته، فضلا عن تحديد أولوياته واتجاهاته ومعوقاته، كما يقدم في البعد التاريخي تقييمه لتجربة المعهد العالمي للفكر الإسلامي :"إسلامية المعرفة" من خلال الرواد الثلاثة الأوائل (الفاروقي والعلواني وأبو سليمان) هذا فضلا عن تقييم آخر، حرص على تقديمه لكتابات أخرى حول إسلامية المغرفة.
في مفهوم تجديد الفكر الإسلامي المعاصر
يميل الدكتور فتحي الملكاوي إلى استعمال مفهوم دقيق لتجديد الفكر الإسلامي، ينطلق من تمييز النصوص الثابتة عن الفكر البشري النسبي، فيدخل ضمن الفكر الإسلامي، كل الاجتهاد الفكري البشري الذي يشتبك مع النصوص الشرعية، سواء كان مجرد تأمل فردي، أو قواعد لتأطير النظر الشرعي، أو علوم مستقلة، استحدثت في سياق تراكم قواعد النظر في فهم النصوص الشرعية. وهكذا، تعتبر كل علوم الأمة، سواء منها الشرعية، أو الاجتماعية، موضوعات للتجديد، بما في ذلك علم الفقه والأصول وعلم المصطلح والجرح والتعديل وعلم العقيدة والسلوك، أو العلوم التي تأصلت بفعل الاحتكاك مع الثقافات الأخرى، سواء كانت كلامية، أو فلسفية، أو عرفانية، أو علوما اجتماعية معاصرة.
وهكذا اختار ملكاوي بجرأة، أن يوسع مفهوم تجديد الفكر الإسلامي، ليشمل تجديد كل العلوم، بهدف إسهام العالم المسلم والباحث المسلم والمفكر المسلم، كل في مجال اختصاصه واهتمامه وخبرته، في تجديد فهم كل علم من العلوم، والتعامل معها، والإسهام في نموها وتطويرها.
يستقرئ المؤلف، مسايرة لمجهوده في كتابه "البناء الفكري"، مفهوم ودلالة الفكر بجميع مشتقاتها في القرآن، ويميز بينها وبين مفهوم التفكر، ويعدد أربعة مستويات تتميز به عملية التفكر عن مجرد الفكر (القصدية في عملية التفكر، تكرار الانشغال بالهم الفكري، تركز التفكر حول موضوع محدد، ونتيجة التفكر بالإجابة عن سؤال أو حل مشكلة أو بيان رأي أ اتخاذ موقف) وينطلق من طبيعة الفكر البشرية ليرتب عنها اختلاف الفكر من مفكر لآخر، واختلاف الاجتهاد البشري من زمن لآخر، ليخلص في نهاية المطاف إلى أن مفهوم التجديد الفكري مرتبط بالأساس بالنظر في الواقع الفكري القائم، لإجراء ما يلزم من تغيير فيه، بسقف التطلع نحو المستقبل. أما التجديد الفكري في الرؤية الإسلامية، فلا بد أن يضيف إلى العملية السابقة، قضية النظر إلى جدل الثابت والمتغير، فإذا كان من السهل تصور التجديد في المتغير، فإن ثمة إمكانية تتضمن تطوير فهم الثابت، بالنحو الذي تستنطق فيه المقاصد العليا للدين، وتستشرف فيه حضوره الفاعل في ساحة العالم المعاصر، ومشاركة الأمة بصورة مشهودة في بناء هذه الساحة وتوظيف عناصرها.
يسجل د فتحي ملكاوي مفارق كبيرة في المشاريع التربوية، إذ في الوقت الذي تعير فيه اهماما كبيرا للتربية الأخلاقية، تهمل بشكل كبير قضية التربية الفكرية، مع أنها تمثل العماد الأقوى لتجديد الفكر الإسلامي.
يطرح المؤلف أسئلة إشكالية حول دواعي التجديد (داخلية أم خارجية) وطبيعته (فردية أم جماعية مؤسسية) ومستوياته (هل يختص بمجال أم يسري في كل الحقول المعرفية)، وعلاقة الفكر بالعلم، وجدل الفكر والتراث، وعلاقة الفكر بالعاطفة، ويخلص في تركيب جامع، إلى أن مهمة تجديد الفكر الإسلامي بما هي الانتقال من الحاضر إلى المستقبل، تقتضي أن يكون التجديد جهدا ذاتيا للأمة، يطال كل المستويات، وتتنوع فيه المقاربات، بين الجهد الفردي والمؤسسي، مع إعطاء الأهمية للأبعاد الجماعية في الاجتهاد الفكري، ولجهود التعاون والتكامل، وتتمايز فيه الاجتهادات البشرية التاريخية (التراث) عن نصوص القرآن والحديث (المرجعية الإسلامية)، بحيث تنتفي صفة القداسة عن التراث، ويتم التعامل معه بوصفة كسبا بشريا خاضها ضرورة للمراجعة واستئناف النظر.
يستعرض ملكاوي طريقة تعامل العقل المسلم مع العلوم، وكيف، حصل الفصام بين مسارين مختلفين، مسار العلوم الإسلامية، المتصلة بمعارف الوحي، والعلوم التي تم اكتسابها من الخبرة الإنسانية، لاسيما العلوم الحقة والاجتماعية التي نضجت في الغرب، ويرى أن المسارين معا يحتاجان إلى استئناف نظر وتقييم علمي يأخذ بعين الاعتبار أن تدرس بمعايير خاصة بكل مسار على حدة، بل وبكل علم من علوم المسارين على حدة، وأن تدرس في ضوء ثنائية (الأفكار الحية التي ينبغي أن تستلهم ويبنى عليها، والأفكار الميتة والمميتة التي ينبغي أن تطهر) ليعاد تنزيل فهم معارف الوحي وفق مقاصد الأفكار الحية من المسارين معا.
اختار ملكاوي بجرأة، أن يوسع مفهوم تجديد الفكر الإسلامي، ليشمل تجديد كل العلوم، بهدف إسهام العالم المسلم والباحث المسلم والمفكر المسلم، كل في مجال اختصاصه واهتمامه وخبرته، في تجديد فهم كل علم من العلوم، والتعامل معها، والإسهام في نموها وتطويرها.ويحرر المؤلف العلاقة ين الفكر والعاطفة، ويستعين بتطور العلوم النفسية والطبية والاجتماعية في فهم العلاقة بين الحواس ووظائفها، أو بين وظيفة الحواس والأعصاب، كما يستعين بموارد لفظة القلب في القرآن، ويخلص بأن وظيفة القلب في معارف الوحي، ترتبط دائما بالتعقل باعتباره وظيفة، ويخلص المؤلف إلى أن الفهم المعتاد الذي يربط القلب بالعاطفة يحتاج إلى تصحيح، وأن الذي يقره النص القرآني، أن القلب مرتبط أكثر بوظيفة الاعتقاد والتصميم والقرار وتعقل الوقائع وتقييمها، بما يحقق التكامل بين وظيفة العقل (إعمال الفكر في الأمر وجمع ما يلوم من معلومات وبيانات)، وظيفة القلب بإحكام الأمر واتخاذ القرار ومراجعته، ذلك التكامل الذي يجعل الفكر والعاطفة، يحققان قصد الاطمئنان والانسجام بين المعرفة وبين سكينة النفس وارتياحها للمتخذ من القرارات.
في مرجعية الفكر الإسلامي
يلاحظ المؤلف أن مفهوم التجديد كان واضحا عند المحتفين به (بحجة طلب الضبط والإضافة) والمعارضين له من المؤلفين (بحجة التزام فهم السلف والتحذير من البدع)، ويرى أن مفهوم التجديد في التراث الإسلامي كان في ثلاث فئات: تجديد فهم الدين على ما ورد في حديث "يبعث الله على رأس مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها"، ثم ما ورد في معنى التجديد بمعنى المراجعة والاستدراك والرد والاعتراض، ثم ما ورد في موضوع لاجتهاد الذي هو وسيلة إلى الاجتهاد، ويسجل المؤلف ملاحظة أخرى تتعلق بعدم استعمال الشافعي للفظة التجديد في كتابه "الرسالة"، وهو المعتمد في أول جهود تجديد علم أصول الفقه وتأصيله.
ويستعرض المؤلف بعض المظان التراثية التي ذكرت مفهوم التجديد، فيلاحظ على الجملة أن كتب التراث اهتمت بالاجتهاد أكثر من اهتمامها بلفظة التجديد، فيشير في هذا السياق إلى السيوطي في كتابه: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" ويستقرئ بعض نصوصهن ليخلص بأنه كان يطابق بين مفهوم التجديد ومفهوم الاجتهاد، ويعتبر أن التجديد هو عملية دائمة في كل عصر.
ينطلق المؤلف من هذا التحديد، ومن حديث المجددين، ومن تحولات الواقع، وما حصل للأمة في القرون الماضية من تخلف، ليؤكد بأن إطلاق لفظ المجدد على المجتهد في المذهب لم يعد يناسب هذا العصر، وأن الاجتهاد، بعد استلهام التراث الفقهي المذهبي، أضحى متجاوزا لهذا المفهوم، لما هو أبعد مما هو مرتبط بفهم النصوص التأسيسية، والمقاصد الكلية للشريعة، كما أن التجديد الإسلامي في الواقع المعاصر، لم يعد حكرا على فئة الفقهاء، وإنما صار ممتدا لكل الحقول المعرفية، وفي كل التخصصات.
يعلل المؤلف الخلاصة التي انتهى إليها بواقع الممارسة التجديدية في الخبرة التاريخية للأمة، وكيف نشأت المذاهب، وكيف تأصلت العلوم الإسلامية، وتخصصت وتفرعت وتكاملت، وأن ذلك كله، كان بوحي من فكرة التجديد في فهم معارف الوحي. فالتجديد في نظر المؤلف، ليس مهمة جديدة، أو شيئا متعلقا بالواقع المعاصر، ولا هو مقصور على موضوع من الموضوعات، أو أمة من الأمم، بل هو سؤال الفكر الإنساني في سعيه إلى اكتساب المعرفة والخبرة في سائر ميادين حياته.
يحدد المؤلف ثلاثة مصادر في تعريف مفهوم التجديد الإسلامي: أولها ما حدده العلماء في فهمهم لحديث تجديد الدين، والثاني ما بسطه العلماء من مقاصد التجديد في الدين (مع خلاف في الحصر بين سبعة مقاصد وثمانية مقاصد)، ويخلص من تتبع هذا المفهوم في النصوص الشرعية إلى التلازم بين مفهوم التجديد والاجتهاد، وأنهما ينصرفان إلى إعمال العقل المسلم في فهم النصوص الإسلامية وفهم الواقع الذي يعيش فيه المسلمون وفهم تنزيل النصوص على هذا الواقع، وأن التجديد يكون في دين الأمة، أي تدينها، وفهمها وتطبيقها له، وأن عملية التجديد متواصلة ومفتوحة على المدى الزمني، وأن التجديد يتم في العلوم والممارسات العملية للعلوم، وأنه يقع من الفرد كما يقع من الجماعة والمؤسسة، وأن الفكر البشري قابل للتجديد والمراجعة، بما يعني ذلك إعادة تأصيل المفاهيم وتجديد العلوم.
وينتهي فتحي ملكاوي من ذلك كله إلى أن التجديد سعي مفتوح لا سقف له، وأنه يمثل في الواقع حالة من الاستعداد الدائم لبذل الجهد والاستجابة للحاجة المتجددة، وأن الأصل في التجديد هو هذا المسعى للتطلع نحو المستقبل بأمل وتفاؤل في التحسين والتجويد.
حول أولويات التجديد واتجاهاته ومعوقاته
تناول المؤلف في الفصل الثالث من كتابه أولويات التجديد واتجاهاته ومعوقاته. وقد اقتصر في مجالات التجديد على المجال التربوي ومجال التعليم الديني والمجال السياسي، تقديرا منه بأن هذه المجالات تحكم غيرها من المجالات، بحكم الدور المركزي لكل من التربية والتعليم، والسياسية في الإصلاح.
تناول المؤلف مفهوم "إسلامية المعرفة: كما تبلور في هذا المشروع منذ بالبدايات التأسيسية، وقدم سردية وافية حول نشأة هذا المشروع، والتوجهات الكبرى التي انتظمته، وكيف قدم تجربة حوارية متميزة حول مسائل جوهرية تتصل بالعلوم والمناهج والمعارف، لاسيما العلوم الاجتماعية والإنسانية، وبحث تحيزاتها الغربية، وكيف استطاع أن ينقل هذه الموضوعات إلى قضية فكرية محورية للأمةوقد ميز المؤلف بين ثلاثة اتجاهات في جهود التجديد: التجديد من مواقع المرجعية الإسلامية، والتجديد من خارجها، والتجديد من خارجها رغم الادعاء بأنه ينطلق من أرضها، ثم عرض إلى معوقات التجديد، فأشار إلى ما يتعلق بالتجربة التاريخية الإسلامية، من مثل عدم الوعي بضرورة التجديد بضرورة التجديد، والتشكيك في أهمية الجديد بالقياس إلى قيمة القيم، وإيثار القادرين على التجديد السلامة من سوء الظن باجتهاداتهم التجديدية، وقدم المؤلف بعض المقترحات حول ما يلزم من معالجة هذه المعوقات، لاسيما ضرورة الوعي بأهمية التجديد في ضوء ما أخذ يتردد في الثقافة المعاصرة عن المجالات المتخصصة بالوعي الفكري، والحاجة إلى الجرأة في مواجهة بعض عناصر الثقافة السائدة التي تميل إلى الكسل الفكري وإيثار السلامة من سوء الظن بالتجديد وممارسته.
حول إسلامية المعرفة.. الفكرة والرسالة والتجربة والرواد
في الفصل الرابع، حاول فتحي الملكاوي أن يستحضر تجربة نوعية من تجارب التجديد المؤسسية، اضطلع بها المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والتي انطلقت بمشروع "إسلامية المعرفة". وقد تناول المؤلف مفهوم "إسلامية المعرفة: كما تبلور في هذا المشروع منذ بالبدايات التأسيسية، وقدم سردية وافية حول نشأة هذا المشروع، والتوجهات الكبرى التي انتظمته، وكيف قدم تجربة حوارية متميزة حول مسائل جوهرية تتصل بالعلوم والمناهج والمعارف، لاسيما العلوم الاجتماعية والإنسانية، وبحث تحيزاتها الغربية، وكيف استطاع أن ينقل هذه الموضوعات إلى قضية فكرية محورية للأمة، وقدم المؤلف في هذا الصدد ثلاثة نماذج للرواد المؤسسين، من خلال نظراتهم الفكرية والمنهجية وبعض أعمالهم المؤسسة (إسماعيل راجي الفاروقي، وطه جابر العلواني، وعبد الحميد، أبو سليمان)، وتوقف على خصوصيات منهج كل واحد من هؤلاء والمشتركات التي ظلوا يتقاسمونها مع اختلاف في تخصصاتهم الشرعية والاجتماعية (علم الأديان المقارن بالنسبة للفاروقي، وعلم ألأصول بالنسبة للعلواني والعلوم السياسية بالنسبة إلى عبد الحميد أبو سليمان).
وعلى غرار ما فعله في كتابه" مقالات في إسلامية المعرفة"، عرج فتحي الملكاوي في الفصل الخامس والأخير من كتابه على مدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي في مرآة الآخرين، وكيف تم تناول مخرجاتها الفكرية (الإصدارات والأعمال) وحاول تقديم عينة مهمة من الكتابات عن تطبيقات إسلامية المعرفة في مجال التعليم، وختم بالكتابات التي انعطفت إلى قضية منهجية التكامل المعرفي، مبرزا في هذا السياق كيف تطور النظر داخل مدرسة المعهد من فكرة "إسلامية المعرفة" إلى فكرة "التكامل المعرفي".
وقد استوعب المؤلف في ذكره لكتابات الغير حتى الكتابات النقدية القاسية التي كانت تعتبر أن مشروع إسلامية المعرفة، هو مشروع أزمة وليس مشروع حل، والذين كانوا يعتبرون أن هذا المشروع إيديولوجي بأهداف سياسية يخدم جماعة من جماعات الإسلام السياسي، وذلك في معرض تأطير الإشعاع الذي خلقته فكرة إسلامية المعرفة، والتداعيات المختلفة التي أثارتها سواء داخل أوساط المفكرين الذين ينطلقون في تفكيرهم من أرضية المرجعية الإسلامية أو الذين ينطلقون من مرجعيات أخرى.
وعلى العموم، فقد نجح المؤلف في أن يضع مشروع المعهد ورسالته بكل الانفتاح والحوارية التي تميز بها ضمن جهود التجديد المؤسسي داخل الأمة، بما يعنيه القابلية للنقد والتطور والمراجعة، وهو ما أثبتته كتابات المعهد نفسها، وما مارسه الرواد المؤسسون مع كتابات بعضهم البعض، إذ شكلت كتابات المعهد بكل مستوياتها وتخصصاتها وأعلامها علامة ومؤشرا قويا على الطابع التجديدي المنفتح الذي يفترض أن تؤسس على منواله وغراره تجارب أخرى، تفتح هذا الأفق غير المسقوف للتجديد الإسلامي.