لجريدة عمان:
2025-02-17@04:11:55 GMT

الكتابة الأولى.. قراءة في الفن الصخري

تاريخ النشر: 22nd, June 2024 GMT

الكتابة الأولى.. قراءة في الفن الصخري

ألقى الفن الصخري ضوءًا ساطعًا على تاريخ إثبات الوثيقة التاريخية، وأصبح من العلوم التي يستند إليها كُتَّاب التاريخ وهو مصدر لتأكيد أو نفي ما ورد في كتب التاريخ. وفي كثير من الأحيان؛ يكون المصدر الأول لبعض الأحداث التي جَازَت على الناس عبر الزمان.

قبل قرنين ونصف تقريبًا، بدأ العالم يتحدث علميا عن اللغة الأولى التي تحدث بها الإنسان الأول، وكان منطلق هذه الفكرة دينيًا صِرْفًا، نبتت من الكتب الدينية، عندما حاول معتنقو الديانتين اليهودية والمسيحية إثبات الأسماء الجغرافية في كتبهم عن الطريق البحث الميداني، وكانت النتيجة ظهور علم جديد يسمى «علم الحضارات» قائم على التنقيب الآثاري .

في بادئ الأمر كان المشتغلون بالتنقيب هم أصحاب الخلفيات الدينية، ممن حاولوا إثبات الخريطة الجغرافية التي سار فيها أنبياء بني إسرائيل. ومن أوائل من عمل على ذلك إدوارد روبيرتس؛ وهو عالم آثار له دور بارز في دراسة واستكشاف الأرض المقدسة في فلسطين. عُرف روبيرتس بدراسته الآثارية لمنطقة الهلال الخصيب وخرجت أعماله في كتاب «أبحاث الكتاب المقدس في فلسطين وجبل سيناء والبتراء العربية»، روبيرتس وزملاؤه الباحثون قدموا فرضيات وفق ما وصلوا إليه من أبحاث ميدانية، من هذه الأبحاث كان عن أصل اللغة.

حتى القرن العشرين كان تلاميذ روبيرتس وأوجست وصامويل كريمر يرون في منطقة هلال الخصيب بداية الحضارة الإنسانية، فمنها بدأت الكتابة والصناعة والرياضيات والفلك وغيرها من العلوم والفنون. النظرية لاقت قبولًا في الوسط العلمي والديني في العالمين العربي والغربي، وصارت تدرس في المؤسسات العلمية، بل إن بعض المؤسسات أصبحت تدفع بتلاميذها إلى تلك المناطق لمواصلة إثبات النظرية والبناء عليها.

إن المدرسة التي تبنت النظرية القائلة بأن العراق وما حوله هو مهد الحضارة، تعرضت لانتقادات واسعة، ولم تعد هذه النظرية إلا محض شك عند كثير من العلماء، والأمر راجع لعدة أسباب، أبرزها وأكثرها تأثيرًا هو العثور على مخزون ضخم من النقوش الصخرية في جبال العالم. هنا الجبال بدأت تنطق، فلاح الفن الصخري في الأفق بكل اقتدار، وبدأ يعيد قراءة النظريات التي تبناها العلماء مدة طويلة. الفن الصخري أعاد كثيرا من النظريات الحضارية إلى الواجهة، ومنها نظرية الكتابة الأولى، وهذه المرة دار سؤال: إذا كان ساكنو منطقة هلال الخصيب ليسوا أصحاب الكتابة الأولى؟ إذا فمَن هم؟ ومن أين بدأت الكتابة؟

إن السؤال عن ماهية الكتابة الأولى؟ وأين بدأت؟ هو في الحقيقة سؤال عن الوعي وكيف تشكل، فالإنسان يكتب ما يعي، ويُراكم هذا الوعي، ويُخرجه بألوان مختلفة، ومن هذه الألوان كان الفن الصخري، إذ دوّن الإنسان وعيه المتراكم على الجبال التي كانت هي مكان حياته وسكناه.

نقش الإنسان القديم لغته بفكرة الأنا، فعند باب الكهف حفر صوت لسانه ووضع حدا بين ما يملك وما لا يملك. فوضع حجر الأساس للكتابة بتزاوج الصوت مع الرمز. إن المعروف لدى الباحثين الأوائل في علميّ الحضارة واللغة بأن الرمز جاء متأخرا مقارنة بالصوت، فلم يدون ما ينطق إلا منذ 7 آلاف سنة، وقبلها كان الإنسان يجيد فنون العيش كالفلاحة والصناعة. أما الفن الصخري فيقول خلاف ذلك،

فتزاوج الصوت بالحرف حدث مبكرًا في تاريخ البشرية، وأن ما نراه في حضارتي العراق ومصر وغيرهما ما هو إلا الصورة الناضجة لهذا التزاوج، ولا يعبّر عن مهد الكتابة ولا الحضارة.

وهنا أضع وجهة نظري عن اللغة، وقد قسمتها إلى شقين:

الأول: اللغة الأولى، وتتمثل في الصوت، الذي لا أعرف كيف آلَ به المآل، هل تطوّر ودخل في أصواتنا اللسانية الحالية، أم أنه اندثر ولم يعد له أثر؟

والثاني: الكتابة الأولى، وتتمثل في الرمز، فهو باقٍ ومنتشر في جبال العالم.

إن رموز هذه الكتابة أتت على شكلين مختلفين ومتعاقبين زمنيًا، وقد ظهرا في العصر الحجري القديم الأسفل. الرمز الأول، عبارة عن كويبات [جمع كويب، تصغير كوب] أو دوائر غائرة حفرت في الصخور، يتراوح قطرها بين 80 إلى 50 مليمترًا، وتأتي في صفوف منتظمة وغير منتظمة. ذكر خزعل الماجدي في كتابه «حضارات ما قبل التاريخ» هذه الكويبات وقال: «يعد الفن الصخري أقدام أنواع الفن في تاريخ الإنسان، ولعل أقدم أنواعه الكويبات، وهي حفر منتظمة ملساء صنعها الإنسان فوق الصخور، تشبه طبعات كرات على الحجر، وقد أعطاها الاسم عالم الآثار روبرت بدنارك. وأقدم هذه الكويبات وجدت في كهف بهيمبتكا في الهند، وتعود إلى العصر الأشولي (500000-200000 ق.م)». من خلال ما كتبه خزعل نستنتج بأن الرمز مرتبط بالبدايات الأولى للإنسان العاقل، الذي بدأ يعرف بأن وجوده لغاية وهدف يدافع عنه في الحياة. الرمز منتشر على مستوى العالم، وقد وقفنا عليه أنا ووالدي بعُمان في عدة أماكن، وقبلنا وقف عليه باحثون اشتغلوا على الفن الصخري؛ منهم الباحث ر. جاكلي، الذي قال عن الرمز: «علامات منقوشة تشبه الكؤوس على صخرة بامتداد يبلغ سنتمترات قليلة، وعمقها يتراوح بين بضعة ملليمترات وسنتمترين، وترتبط أحيانًا بواسطة أخاديد أو قنوات مائية، وهذه الصخرة مائلةٌ ميلًا طفيفًا، وعليها وجوه صخرية، ربما كانت شائعة في عُمان كما كانت شائعة في أوروبا، حيث يتراوح تاريخها بين العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي». بالإضافة إلى ذلك ذكر جاكلي عن أماكن انتشارها في عُمان من خلال الأبحاث الميدانية التي قام بها، وقال: «إنها توجد في وادي بني خروص ووادي السحتن ووادي العين وناح ووادي عندام ووادي رجيم»، كما وقفت عليها مع والدي في أكثر من مكان؛ منها: وادي بهلا، ووادي تنوف بنزوى.

ولجاكلي ثلاثة تفسيرات للرمز:

- يرمز للوحة ألعاب «الحواليس».

- يرمز لرميات المتعبدين «الحج».

- يرمز لطقوس سلوكية «السحر».

أما أنجلو فوساتي فيقول عن الرمز: «تم إنشاء هذه التجاويف واستخدامها في الفن الصخري على مر التاريخ لخدمة العديد من الأغراض، مثل: الأوعية الطقسية للعروض السائلة لوضع الأدوية أو طحن الحبوب، بطريقة مماثلة لاستخدام الهاون. ويقترح آخرون؛ أنه يمكن تفسيرها على أنها نجوم أو تمثيل للقرى». وأيضًا؛ من التفسيرات التي أخذتها مباشرةً عن هذا الرمز كانت من باحث اللغات القديمة الليبي عبدالمنعم المحجوب، الذي زارنا في شتاء 2019م، في زيارة بحثية حضارية، وفي زيارتنا بصحبة والدي لمنطقة بني صلت الواقعة ما بين ولايتي الحمراء وبهلا وقفنا على ذات الرمز وأخبرنا المحجوب بأنه قديم جدًا، ويرمز لكتابة حسابية قديمة عرفها الإنسان.

أما الرمز الثاني؛ فعبارة عن تخطيطات شحذت على أسطح الصخور، نجدها داخل الكهف أو قرب واجهته. تسمى في الوسط العلمي «بالبوليسوار»، ويقدر الباحثون أن عمرها يتراوح بين 300 ألف و77 ألف سنة. ولهذا الرمز مكانة خاصة عند العلماء لانتشاره العالمي، إلا أنهم يقفون عاجزين عن الاستفاضة في تفسيره، والأمر راجع إلى صغر حجم هذه التخطيطات، مما يجعل تفسيرنا لاستخدامها من قبل الإنسان القديم مبهمًا. ومن القلائل الذين حاولوا تفسيرها أنجلو فوساتي الذي استنتج تفسيره أثناء عمله على دراسة الفن الصخري في جبال عمان، وذهب إلى أن الرمز تشكل نتيجة ضغط طرف السكين على الصخرة، وأنشأ علامات غير منتظمة، وبرأيه أن هذه التقنية شائعة عند الكتابة بالأبجدية العربية على سطح صلب.

أغلب التفسيرات التي قدمها الباحثون للرمزين: الكويبات والتخطيطات قائمة على الطبيعة الجغرافية للمكان، وهذا أمر طبيعي، إذ إن الباحث في علم الحضارة والآثار يحاول بناء أفكاره على الأشياء المادية الملموسة، بيد أن هناك رموزًا تجريدية الشكل عميقة المعنى، لا يمكن وضع تفسير مادي لها. وحتى تتضح الفكرة، أقول: ماذا لو كُتِبَ للغُتنا الحالية أن تنقرض، وبعد ألوف السنين عثر باحث على رموز كتابتها؟ لطرأت عليه تفسيرات كثيرة، ولربما انحصرت في التفسير المادي. هذا ما حصل لدى ثُلّة من علماء اليوم؛ إذ أُعلي من شأن التفسيرات المادية على المعنوية، حتى ظنّ البعض أن الإنسان الذي نفخ الله فيه الوعي لا يعي إلا الأكل والشرب والتناسل. بيد أنه يتضح لنا يومًا بعد يوم من خلال الكشوفات الأثرية القابعة تحت الأرض أو الظاهرة على جبالها، أن الإنسان عرف اللغة ورموزها وتواصل بها منذُ ألوف السنين. وهذا ما ذهبت إليه في هذين الرمزين، بأنهما يعبران عن رموز للغة قديمة عرفتها البشرية. قد تكون هذه كتابة عبارة عن مقاطع بسيطة بفهمنا اليوم، ولكنها منتشرة من الصين شرقًا إلى أمريكا غربًا.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الکتابة الأولى

إقرأ أيضاً:

في حضرةِ سبأ: قراءةٌ تاريخيّةٌ في جذورِ الأزمةِ اليمنيّةِ المُعاصرة (2-2)

تستند فكرة الدولة الوطنية الحديثة، في الأساس، إلى منظومةٍ من المؤسّسات السياسية والقانونية والإدارية التي تعمل ضمن إطارٍ موحَّد، بما يضمن سيادة القانون ووحدة القرار السياسي. لكن في السياق اليمني، تُواجِه هذه الفكرة تحدّياتٍ بنيوية مرتبطة بإرثٍ تاريخيٍّ واجتماعيٍّ متداخلٍ ومعقّدٍ، امتدَّ تأثيرُه إلى يومنا هذا. ولعلَّ أبرز سمات هذا الإرث ما يتعلَّق بطبيعة العلاقات القبلية والمرجعية الدينية، إلى جانب خبراتٍ متباينةٍ ولّدتها حقب الإمامة في الشمال، والاستعمار والسياسات الاشتراكية في الجنوب. وقد أدّى هذا الخليط إلى التأسيس لبيئاتٍ متنافرةٍ في رؤيتها للشكل الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة، ومن ثَمَّ ولَّد إشكالية جوهرية في صياغة مفهوم الدولة الوطنية المعاصرة.

على مرِّ التاريخ اليمني، ظلَّ الولاء القبلي والديني يتقدّم، في أحيانٍ كثيرة، على ولاء المواطن للدولة المركزية. فعلى الرغم من تأسيس حكوماتٍ متعاقبةٍ سعت -في الخطاب على الأقل- إلى تعزيز مؤسسات دولةٍ حديثةٍ تقوم على الدستور والقانون، لم تتجذّر هذه المؤسّسات في الواقع الاجتماعي بقدر ما بقيت نخبوية في بعض المناطق، وحَسَر تأثيرُها في الأخرى. فمثلا، تسلّلت بعض مقوّمات الإمامة وامتداداتها الدينية والقبلية إلى بنية النظام الجمهوري في الشمال بعد 1962، ما أفرز طبقة سياسية ذات صلاتٍ متينةٍ بزعاماتٍ قبليةٍ ودينيةٍ ظلّت قادرة على تحريك المشهد من وراء الكواليس. وفي الجنوب، ورغم قيام نظامٍ اشتراكيٍّ عقب الاستقلال عن بريطانيا، فإنّ المركزية القوية التي تبنّتها الحكومات الجنوبية ظلت بدورها متأثرة بنزعاتٍ مناطقيةٍ أو قبلية، وظلّت رهينة الولاءات الداخلية والانقسامات الحزبية التي ظهرت لاحقا.

تقتصر التحدّيات على العوامل الداخلية؛ فقد كان للدول الإقليمية والدولية مصالحُ في اليمن بحكم موقعه الاستراتيجي وممرّاته المائية
بعبارةٍ أخرى، واجه مشروع بناء الدولة المعاصرة في اليمن معضلة ثنائية: فمن جهةٍ، تسعى الدولة المركزية إلى بسط سيادتها عبر مؤسّساتٍ عصريةٍ (كالقوات النظامية، والوزارات، والقضاء الموحد)، ومن جهةٍ أخرى تواجه رفضا -أو على الأقل تحفّظا- من قِبل نخبٍ محلّيةٍ ترتكز في قوتها على الشرعية التاريخية أو الدينية أو العرفية، وترى في التوسُّع المؤسّسي تهديدا لنفوذها. وقد جاء مفهوم اللامركزية كحلٍّ وسيطٍ في بعض المراحل، غير أنّه اصطدم ببنيةٍ قانونيةٍ هشّةٍ وبنزاعاتٍ سياسيةٍ حالت دون ترجمته إلى واقعٍ إداريٍّ ناجح.

مثَّلت الوحدة اليمنية عام 1990 حدثا مفصليا ضخَّ آمالا بتأسيس دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ تجمع بين مكتسبات النظامين السابقين، لكن تلك الوحدة جرت في ظروفٍ إقليميةٍ ودوليةٍ معقَّدةٍ؛ إذ تزامنت مع نهاية الحرب الباردة، وتغيّراتٍ جذريةٍ في الخريطة الجيوسياسية للمنطقة. وبالرغم من الحماس الذي رافق إعلان الوحدة، برزت سريعا معضلاتٌ مرتبطةٌ باختلاف الرؤى بين القيادتين الشمالية والجنوبية حول نظام الحكم وسبل دمج المؤسّسات. كما أنّ الشروخ التاريخية من حيث اختلاف الخلفيات القبلية في الشمال والتركيبة الاجتماعية في الجنوب أثَّرت مباشرة على فاعلية الدولة الجديدة.

ففي حين تمسّك الجنوبيون بمطلب بناء دولةٍ مدنيةٍ أكثر تحرّرا من التقليد القَبَلي والديني، ظلَّ جزءٌ كبيرٌ من النخب الشمالية ميّالا إلى إشراك البُعد العشائري والديني في صياغة السياسات، ممّا خلق فجوة دائمة في بنية النظام. وبمرور الوقت، لم تُؤدِّ سياسات الدمج -مثل توحيد الجيش والأمن- إلّا إلى تفجير صراعاتٍ مسلّحةٍ توّجتها حرب عام 1994، والتي أنهت فعليا نموذج الشراكة المتكافئة في إطار الوحدة، ليظهر بدلا عنه شكلٌ من التغليب العسكري-السياسي لقوى الشمال.

لم تقتصر التحدّيات على العوامل الداخلية؛ فقد كان للدول الإقليمية والدولية مصالحُ في اليمن بحكم موقعه الاستراتيجي وممرّاته المائية. ومع اندلاع الأزمات الأمنية -بدءا من حرب صيف 1994 وحتى الحرب الحالية- تزايد انخراط اللاعبين الإقليميين في الشأن اليمني، مُستغلّين نوافذَ تاريخية وعرقية ومذهبية لتقوية الأطراف الموالية لهم. من منظور بناء الدولة، أسهم هذا العامل الخارجي في عرقلة الجهود الوطنية لتشكيل حكومةٍ جامعةٍ؛ إذ غالبا ما دخلت الأطراف الداخلية في تحالفاتٍ مع قوى إقليميةٍ ودوليةٍ لتعزيز مكاسبها السياسية على حساب السعي نحو بنيةٍ وطنيةٍ موحّدة.

وإذا نظرنا إلى الأدبيات الحديثة في العلوم السياسية ودراسات بناء السلام (State-building)، فسنجد أنّ التدخلات الخارجية في البيئات المنقسمة اجتماعيا ومؤسّسيا قد تُسهم في إضعاف الدولة بدلا من تقويتها، لا سيما عندما تفتقر الدولة المركزية إلى القدرات المؤسّسية وضمانات الوحدة الوطنية. وهكذا، أصبح اليمن مسرحا تتقاطع فيه مصالحُ متضاربةٌ، فانتقل من أزمةٍ داخليةٍ بالأساس إلى صراعٍ مركّبٍ تتشابك خيوطه على المستويين الإقليمي والعالمي.

باتت الدولة الوطنية اليمنية المعاصرة أمام امتحانٍ وجوديٍّ: هل بمقدورها صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يجعل مؤسساتها فوق اعتبارات الولاء القبلي أو الديني أو المناطقي؟ وهل يمكنها إعادة توظيف التنوّع الجغرافي-الاجتماعي في إطارٍ مؤسّسيٍّ عادلٍ وفعّال؟ تزداد صعوبة هذه الأسئلة حينما نتذكّر أنّ التكوين التاريخي للبلاد -إذ حمل ثقل الإمامة في الشمال والاستعمار والاشتراكية في الجنوب- أنتج صيغة سياسية متناقضة في مرجعياتها، فلا الشرق التاريخي (بتقاليده الدينية والقبلية) ولا الغرب الاستعماري (بمؤسساته الإدارية والقانونية) انصهرا في بوتقةٍ واحدةٍ ومستقرّة.

إنّ امتداد الماضي في حاضر اليمن المضطرب يتجلّى في عجز السياسات المركزية عن استيعاب القوى الفاعلة محليا، في الوقت الذي تتنامى فيه المشاعر المناطقية والتطلعات الانفصالية لدى بعض المكوّنات. وفي حال عدم توفير رؤيةٍ وطنيةٍ شاملةٍ تُراعي الخصوصيات التاريخية والاجتماعية لكلّ طرف، وتعالج مظالم الماضي، فإنّ هذه الامتدادات ستواصل تغذية الدورات المتعاقبة من الصراع وعدم الاستقرار.

يستوجب الخروج من إشكالية الدولة المعاصرة في اليمن إعادة بناء المؤسسات، وتحديث القوانين، وضمان حيادية الأجهزة الأمنية، والانطلاق في عمليةٍ سياسيةٍ شفّافةٍ تشمل الجميع. وفي ظلّ صراعٍ معقّدٍ يضرب أطنابه في المجتمع، يواجه اليمنيون تحدّي بلورة مشروعٍ وطنيٍّ تكون فيه الدولة مظلة دستورية تشمل المكوّنات القبلية والمناطقية، مع خلق آلياتٍ ديمقراطيةٍ تضمن تمثيلا عادلا لمختلف الأطراف. ورغم صعوبة المهمة، تبقى دروس التاريخ وسياسات الواقع دليلا على أنّ أيَّ حلٍّ جذريٍّ يتطلّب معالجة منهجية للإرث السياسي والاجتماعي، وتفكيك الشبكات الموازية للسلطة المركزية، وإرساء عقدٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يستند إلى المواطنة المتساوية وحكم القانون. بغير ذلك، سيظلّ الحاضر اليمني أسيرا لامتدادات الماضي، مغلقا باب التحوّل الحقيقي نحو دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ ومستقرّة.

تمثّل العودة إلى عمق التاريخ اليمني، بدءا من ممالك سبأ ومرورا بحقبة الإمامة فالاستعمار البريطاني وصولا إلى نشأة الدولة الوطنية المعاصرة، خطوة ضرورية لتفكيك البنية التاريخية والذهنية التي صاغت حاضر اليمن الملتبس. إنّ هذا الماضي لا يعيش فقط في بطون الكتب والآثار، بل يمتدّ راسخا في الذاكرة الجمعية، يشكّلها وينعكس في سلوك القوى السياسية والقبلية والمجتمعية إلى اليوم. وإذا كان اسم سبأ يلوح في الأذهان كرمزٍ لعصرٍ ازدهر فيه الاقتصاد وازدهرت فيه طرق التجارة، فإنّ الاستقصاء يكشف عن موروثٍ أعمق من مجرّد التفوّق التجاري والعمراني، إذ أرسى السبئيون تقاليد حكمٍ مركزيةٍ تحالفت مع القبائل، وعرفوا كيف ينظّمون المياه والسدود والطرق التجارية لخدمة دولتهم.

غابت سبأ كدولة، لكنّ أنماط التحالفات السياسية واستراتيجيات السيطرة على الموارد ورمزية السلطة المركزية استمرّت لاحقا في مختلف الكيانات اليمنية المتعاقبة، لا سيما الإمامة في الشمال التي استندت بدورها إلى شرعيةٍ دينيةٍ-قبليةٍ، ما مكّنها من الصمود قرونا في بيئةٍ جغرافيةٍ صعبةٍ ودينامياتٍ قبليةٍ لا تقلّ صعوبة.

ولم تقتصر هذه الامتدادات التاريخية على جانب الحكم، إذ رافقها تداخلٌ وثيقٌ بين العامل الجغرافي والعامل الاجتماعي؛ فالجبال العالية منحت القبائل استقلالية ومنعة دفاعية، فيما أغدقت الموانئ الساحلية على اليمن فرصة التواصل الاقتصادي مع العالم، الأمر الذي أدّى دائما إلى بروز قوى محليةٍ مختلفةٍ المصالح والتوجهات. وقد انعكس هذا التنوّع في التشكيل المجتمعي على طبيعة الصراعات؛ إذ لم يكن الصراع محصورا في السلطة المركزية، بل امتدّ أحيانا إلى التنافس على منافذ التجارة، والسيطرة على الوديان الخصبة، والتحكّم بسدود المياه والموارد النادرة.

إنّ قراءة الفترات اللاحقة، من حكم الأئمة مرورا بالاستعمار البريطاني في الجنوب، تؤكّد كيف تُحفر الصراعات في الجغرافيا اليمنية وتُعاد صياغتها وفق موجاتٍ متلاحقةٍ من الشرعية الدينية أو المستندة إلى الإمامة، أو بدافعٍ من نُظُمٍ استعماريةٍ أدخلت مفهوم الدولة المؤسّسية الحديثة، لكنها اصطدمت بكياناتٍ اجتماعيةٍ تمتلك قوى تاريخية متجذرة.

في ظلّ هذا النسيج، لم تشهد الدولة الوطنية الحديثة نشأتها المعهودة كما في دولٍ أخرى، بل ظهرت محاولاتٌ للنهوض بمؤسّساتٍ جمهوريةٍ أو اشتراكيةٍ أو اتحادية، غير أنّها غالبا ما عجزت عن تفكيك الموروث التاريخي وتطويعه في مشروعٍ جامع. وهنا تتجلّى المعضلة؛ فالذاكرة اليمنية، بكلّ ما فيها من شظايا حقبٍ متباينةٍ وولاءاتٍ مركّبة، تفرض نفسها على كلّ مشروعٍ سياسيٍّ جديد، وتعيد إحياء الاصطفافات التاريخية والمناطقية والدينية كلما ضعفت سلطة الدولة. وقد تجلّى هذا بوضوحٍ بعد إعلان الوحدة عام 1990، حين فشلت الصيغة المشتركة للدولة في دمج رؤى شماليةٍ متأثرةٍ بتاريخٍ قبليٍّ ودينيٍّ وإرثٍ إمامي، مع جنوبٍ يحمل آثارا استعمارية واشتراكية فرضت عليه نموذجا إداريا مختلفا. وسرعان ما اندلعت صراعاتٌ عسكريةٌ وسياسيةٌ عكست عمق التضارب بين هذه الرؤى.

قدرة اليمن على تجاوز محنته الحالية مرهونةٌ بالقدرة على تفكيك تلك التراكمات التاريخية ونزع صواعق التوتّر. وفي الوقت ذاته، تبقى فرصه في إعادة الإعمار وبناء السلام متوقفة على الوعي بأنّ التنوّع الجغرافي والبشري ليس مصدرا للتفرقة ما لم يُستخدم وقودا في الصراع، بل يمكن توظيفه كركيزةٍ لاقتصادٍ تعدّديٍّ ومرنٍ ونظامٍ إداريٍّ فاعلٍ ومتعدّد الأقاليم في إطار وحدةٍ وطنيةٍ سيادية
إنّ تجاوز هذه الحلقة المفرغة لا يقتصر على توقيع اتفاقياتٍ سياسيةٍ أو إبرام تحالفاتٍ ظرفيةٍ مع قوىٍ خارجيةٍ أو إقليمية، بل يتطلّب معالجة جذرية للذاكرة اليمنية نفسها، عبر ترسيخ مفهومٍ حديثٍ للدولة بوصفها المرجعية الحاضنة لمكوّنات المجتمع، لا خصما لها. وهذا يقتضي إعادة تعريف دور القبيلة والمرجعية الدينية والجهوية في إطارٍ وطنيٍّ متكاملٍ، يمزج عوامل القوة التقليدية بالمؤسّسات الحديثة. كما يفرض مراجعة شاملة للسياسات التنموية والإدارية، تضمن توزيعا عادلا للموارد، وبناء آلياتٍ تشاركيةٍ لمعالجة الاختلافات العميقة في التكوين الاقتصادي والاجتماعي. ففي بلدٍ متنوّعٍ مثل اليمن، لا يمكن فصل السياسة عن الواقع الجغرافي والتاريخي ولا عزل التنمية عن بناها الثقافية والاجتماعية.

ومن هذا المنظور، يظلّ المخرج الحقيقي رهن إدراك الجميع أنّ بقاء هذا البلد واستقراره لا يتحققان بتناسي الماضي أو القفز عليه، بل بتوظيفه لإثراء الهوية الوطنية المشتركة. فسبأ والإمامة والاستعمار ليست مجرد مراحل انتهت، بل هي تجارب حيّة ما زالت تتسرّب في الخطاب السياسي والاجتماعي، ولا سبيل إلى تجاوز تبعاتها إلّا بأن تكون أساسا لدروسٍ بنّاءةٍ تُسهم في إعادة صياغة العقد الاجتماعي، لا عبر استعادتها كأدوات صراعٍ أيديولوجيٍّ أو مذهبيٍّ أو مناطقي. في الوقت نفسه، إنّ اليمن بحاجةٍ إلى رؤيةٍ مستقبليةٍ جريئةٍ تُوازن بين العناصر المحلية القوية -القبيلة والعشيرة والنظام العرفي- وبين مشروعٍ للدولة يكون ممثلا للطموحات الجمعية ويعترف بحق الجميع في المشاركة والقرار. وهذا يتطلّب استقرارا سياسيا ودورا مسؤولا للنخب والقيادات، يضمن تحويل التحدّيات إلى فرصٍ للنهوض بمقومات الوحدة والاستقلالية الاقتصادية والتكامل الاجتماعي.

إنّ قدرة اليمن على تجاوز محنته الحالية مرهونةٌ بالقدرة على تفكيك تلك التراكمات التاريخية ونزع صواعق التوتّر. وفي الوقت ذاته، تبقى فرصه في إعادة الإعمار وبناء السلام متوقفة على الوعي بأنّ التنوّع الجغرافي والبشري ليس مصدرا للتفرقة ما لم يُستخدم وقودا في الصراع، بل يمكن توظيفه كركيزةٍ لاقتصادٍ تعدّديٍّ ومرنٍ ونظامٍ إداريٍّ فاعلٍ ومتعدّد الأقاليم في إطار وحدةٍ وطنيةٍ سيادية.

ويصبّ هذا الفهم في مصلحة الجميع، لأنّه يمثّل شرطا لإنهاء دوامة العنف التي تستمدّ طاقتها من ظلال الماضي والذكريات المنقسمة. وليس اليمن بعاجزٍ عن ذلك، فقد تجاوز سابقا تحدّياتٍ تاريخيةٍ كبرى، وعاش لحظاتٍ من الازدهار والتعايش، وهو قادرٌ على صنع ربيعٍ جديدٍ يشترك فيه سائر اليمنيين، إذا ما استلهموا خبرات أجدادهم ومزجوها بالطاقات المعاصرة، وصولا إلى بناء عقدٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ يتجاوز التعصّبات الضيقة وينبثق من الإرادة الحقيقية لتأسيس مستقبلٍ أفضل. وهنا يرتسم الخطّ الواصل بين الذاكرة والتجاوز: ذاكرةٌ يُعاد النظر فيها بعين التقدير والنقد معا، وتجاوزٌ يقود إلى دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ تستمدّ شرعيتها من القدرة على تلبية احتياجات مواطنيها وحماية هويتهم الجامعة.

مقالات مشابهة

  • الأزهر للفتوى: عدم قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية لا يبطلها
  • «النبأ» والتحريض على «طالبان».. قراءة في خطاب «داعش» التعبوي
  • في حضرةِ سبأ: قراءةٌ تاريخيّةٌ في جذورِ الأزمةِ اليمنيّةِ المُعاصرة (2-2)
  • الدائرة صغيرة والمربع عجوز .. اعرف الفرق بين أختام اللحوم
  • ورشة فنون الكتابة الإبداعية تنمّي مواهب الأطفال بمعرض جازان للكتاب2025
  • ترامب يضع صورته الجنائية التي التقطت له بعد اعتقال في 2023 بـ مكتبه .. فيديو
  • بعد القدس الدور على مكة.. قراءة في كتاب العودة إلى مكة
  • الإفتاء تكشف عن كيفية الاستفادة من ليلة النصف من شعبان
  • وزير الخارجية: نتطلع للاستفادة من التقدم الاستوني في التنقيب عن النفط الصخري
  • فضل قراءة سورة يس في النصف من شعبان.. نفحات ربانية من «قلب القرآن»