د. أحمد جمعة صديق
• المقدمة
لقد ظللنا نردد أن مصير الأمم يبدأ من داخل الفصل الدراسي The destiny of any nations begins in the classroom. والتعليم حق أساسي للإنسان وهو أساسي لتنمية الفرد وتقدم المجتمع. ومع ذلك، في المناطق المتأثرة بالنزاعات مثل السودان، يواجه هذا الحق تحديات كبيرة،ستؤثر على أجيال من الشباب والطلاب.

يهدف هذا المقال إلى فحص حالة التعليم في السودان خلال هذا النزاع ، بكشف التحديات التي واجهها، والتأثير على الطلاب والمجتمعات، والتوصيات لتحسين الوصول إلى حد أدنى من أشكال التعليم في ظل حرب مستعرة.
• التحديات التي تواجه التعليم أثناء الحرب
1. ضرب البنية التحتية وقضايا الوصول: أحد التحديات الرئيسية في عدم توفير التعليم خلال الحرب في السودان هو الضرر البالغ الذي أصاب البنية التحتية. إذ تعرضت المدارس للهجوم والدمار وما سلم منها تم استخدامه لأغراض مدنية لايواء اللاجئين أو تحول الى ثكنات عسكرية، مما أدي إلى تدمير المباني والصفوف الدراسية والموارد التعليمية. وهذا يخلق حاجزاً فعلياً أمام الوصول إلى التعليم للطلاب في مناطق النزاع.
٢.هجرة .المعلمين المؤهلين: أسفر النزاع في السودان عن نقص كبير في عدد المعلمين المؤهلين. إذ فر كثير من المعلمين تجنباً للعنف، بينما تعذر على البعض الآخر مواصلة التدريس بسبب المخاوف من انعدام الأمن أو نقص الحافز المادي والمعنوي. وهذا يفاقم من وجود فرص للتعليم؛ ان كان هناك اصلاً أي نشاط تعليمي يمارس في هذه البيئات، حيث تكبدت المدارس نقص حاد في الكفاءات التعليمية.
3. التهجير والهجرة الداخلية: أدى النزاع المستمر إلى نزوح واسع النطاق داخل السودان، حيث أجبر الملايين من الأشخاص على مغادرة منازلهم. ويعاني السكان المهجرون من صعوبة الوصول إلى التعليم بسبب توقف المدارس القريبة عن نشاطها التربوي والتعليم بسبب العوائق اللغة، والضغوط المالية. يزيد هذا التشويش عن التقليدات المجتمعية، وبخاصة على الأطفال والشباب.
٤.نقص التمويل والموارد: لا تزال المساعدات الإنسانية والتمويل للتعليم في السودان منعدمة، على الرغم من الجهود الدولية. وتحِدُ الفجوة التمويلية من توفر المعلم والكتاب المدرسي والمواد التعليمية والمرافق الأساسية مثل الصفوف والبنية التحتية الصحية. ونتيجة لذلك، لم يتلق الطلاب تعليماً أو حرموا تماماً من فرص التعلم.
• التأثيرات الناتجة عن الحرب على التعليم
١.اضطراب التعليم وفقدان التعلم: أدى النزاع في السودان إلى اضطراب كبير في نظام التعليم، حيث أُغلقت المدارس أو عملت بشكل غير منتظم أو تعطلت بالكامل. وانقطع الطلاب عن تلقي المعلومات والمهارات، وفقان المناهج غير المكتملة، مما سيؤدي إلى نقص في الإنجاز التعليمي وتقليص التحصيل الدراسي مستقبلاً
٢.التأثير النفسي والعاطفي: سيعاني الأطفال والشباب في مناطق النزاع بالسودان من ضغوط نفسية كبيرة نتيجة للتعرض للعنف والتهجير وعدم الأمان. وسيؤثر الخوف والصدمة المرتبطة بالحرب على قدرتهم على التركيز والتعلم بفعالية، والانخراط بشكل إيجابي في البيئات التعليمية. وسيظهر لدى كثير من الطلاب أعراض القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
٣.الاضطراب الاجتماعي والثقافي: يلعب التعليم دوراً حيوياً في التكامل الاجتماعي والحفاظ على التراث الثقافي. ومع ذلك، سيعمل الاضطراب الناجم عن الحرب في السودان على تقويض هذه الجوانب. إذ سيفوت على الطلاب فرص التفاعل الاجتماعي، والعلاقات النظيرية، والتعرض للتراث والقيم الثقافية. وسيسهم هذا الفقدان في استمرار التشظي وأزمات الهوية بين الشباب.
٤.العواقب الاقتصادية: الأثر الاقتصادي طويل الأمد للتعليم المضطرب في السودان كبير. وبدون وصول إلى التعليم ذو الجودة، سيتعذر على الطلاب اكتساب المهارات الأساسية والكفاءات اللازمة للتوظيف والإنتاجية الاقتصادية. وهذا سيعزز دورات الفقر ويحد من الفرص للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق المتضررة من النزاع، كما سيعطل دورة التداول في احلال الاجيال الشابة مكان من دخل او قارب سن المعاش او سد الفراغ الوظيفي الناجم عن التقاعد او الوفاة؛ مما سيتسبب في فحوة عظيمة في توارث الخبرات في مجالات العمل المختلفة في جميع نواخي الاقتصاد.
• جهود لوصول الخدمات الى ضحايا الصراع
. 1 المساعدات الإنسانية والتمويل: تلعب الأمم المتحدة ووكالاتها، جنباً إلى جنب مع المانحين الدوليين، دوراً حيوياً في توفير المساعدات الإنسانية والتمويل للتعليم في السودان. إن الدعم المالي المستمر ضروري لإعادة بناء وإعادة تأهيل البنية التحتية التعليمية، وتوفير التدريب المعلمي، وتوفير المواد التعليمية اللازمة. ولكن صعب الوصول الى هذه الخدمات بسبب تعنت الاطراف المتصارعة مما يفاقم الوضع الانساتي في السودان.
٢. حماية المدارس والبيئات التعليمية الآمنة: تؤكد الأمم المتحدة على ضرورة حماية المدارس كمناطق آمنة للتعليم، خالية من الاستخدام العسكري والهجمات. وتعزيز الأطر القانونية وتعزيز القانون الإنساني الدولي خطوات أساسية لحماية المنشآت التعليمية وضمان التعلم غير المنقطع للأطفال والشباب في مناطق النزاع.
٣. تدريب المعلمين وبناء القدرات: ستتضمن الجهود لمعالجة نقص المعلمين المؤهلين برامج تدريب، وتحفيزات لجذب المعلمين إلى المناطق المتضررة من النزاع، ودعم للتطوير المهني المستمر. إن الاستثمار في المعلمين أمر حيوي لتحسين جودة التعليم وتعزيز بيئة التعلم المواتية.
٤. الدعم النفسي الاجتماعي وخدمات الصحة النفسية: تؤكد الأمم المتحدة على أهمية تقديم الدعم النفسي الاجتماعي وخدمات الصحة النفسية للطلاب المتأثرين بالنزاع في السودان. يتضمن ذلك الإرشاد النفسي، والرعاية الموجهة للمصابين بالصدمة، والمبادرات لتعزيز المرونة والرفاهية بين الأطفال والشباب المعرضين للعنف والتهجير.
٥. تعزيز التعليم شامل الجميع والمتساوي: تأمل الأمم المتحدة في السودان في ضمان وصول التعليم شاملاً ومتساوياً، مع التركيز على الوصول إلى الفئات المهمشة، بما في ذلك الفتيات، والأطفال ذوي الإعاقة، والأشخاص النازحين داخلياً، لضمان لهم فرص متساوية للتعلم والنجاح الأكاديمي.
يسلط تقييم الأمم المتحدة للتعليم في السودان خلال فترات الحرب الضوء على التحديات الكبيرة، والتأثيرات العميقة على الطلاب والمجتمعات، والتوصيات الحيوية للتحسين. ويتطلب معالجة هذه التحديات التزاماً مستداماً وتعاوناً بين الأطراف المعنية، والأولوية للتعليم كحق أساسي للإنسان ومحرك رئيسي للتنمية. من خلال الاستثمار في التعليم، وحماية المدارس، وتقديم الدعم النفسي، وتعزيز بيئات التعلم الشاملة، يمكننا التخفيف من التأثيرات الكارثية للنزاع على التعليم وفتح الطريق نحو مستقبل أفضل للأطفال والشباب السودانيين.
لابد ان ندرك حجم الكارثة التي حلت بالبلاد والعباد. فقد فقدت آلاف الارواح وهجرت الملايين من دورهم وديارهم وتفرقت السبل بملايين أخرى في حرب عبثية لا يمتلك أي من الفريقين المتصارعين أدوات النصر الحاسم فيها، وإن كان المنتصر نفسه خاسر أيضاً لأن الوطن هو الخاسر الأكبر.
وعدو آخر يسعى لاستمرار الحرب إنتقاماً من شعب عبر بالملايين عن إرادته في الإنتعاق من قبضة ثلاثين عجاف وتطلعاً للحرية والعدالة والسلام. لك الله يا وطن


aahmedgumaa@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الأمم المتحدة على الطلاب الوصول إلى فی السودان

إقرأ أيضاً:

وقفات مع ذكريات ومذكرات الامين أبو منقة 2 / 2

في معرض حديثه في بداية الفصل الاول من كتابه، عن الخلفية الاجتماعية والثقافية للأسرة التي ولد فيها، يخبرنا المؤلف بعدم وجود علاقة قرابة رحمية مباشرة بين والده ووالدته، رغم ان أسلافهما كانوا ينتمون لعرقية واحدة هي عرقية الفولاني، ولفضاء جغرافي واحد، هو فضاء دولة الخلافة الصكتية التي كانت قائمة في شمال نيجيريا، طوال القرن التاسع عشر الميلادي تقريبا.
ولعل مما قد يتبادر إلى الذهن هاهنا، ملاحظة ذات طابع انثربولوجي وثقافي، مفادها بصفة عامة، ان الزواج بين الاقارب داخل العشيرة الواحدة، او في اطار الاسرة الممتدة، خصوصاً فيما يلي المجتمعات السودانية، يوشك ان يكون عادة او ثقافة تميز العرب والمستعربين دون سواهم من القبائل والإثنيات الاخرى. ذلك بان الزيجة المثالية بحسب مقتضيات ثقافة اولئك العرب والمستعربين، هي زواج الفتى من بنت عمه والعكس صحيح. وقد غنى المطرب الكبير الراحل الاستاذ صلاح بن البادية في اغنية " السيرة " الشهيرة " الليلة سار يا عشايا "، تأكيداً لهذا المعنى فقال:
الليلة سار لى بتّ عمو
البندورا ليه !!
ولعمري ان بيت القصيد الثقافي والأنثربولوجي في هذا السياق هو قوله: " البندورا ليه " هذه، فإنها تستبطن وتجسد جماع فلسفة المجتمع وثقافته، ورؤيته الكونية لمؤسسة الزواج بصفة عامة. فهو ليس شأنا خاصاً فحسب، وانما هو فعل كأنما يمارسه المجتمع ككل.
وفي المقابل، يندر ان لم ينعدم تماما، وجود زواج الاقارب في سائر المجموعات الافريقية، ربما حتى تلك العريقة منها في الاسلام كالفولاني. وفي هذا السياق يقال ان افراد بعض القبايل غير العربية والمستعربة، في جنوب السودان وجبال النوبة مثلاً، ربما تندروا وسخروا من العرب، وعيروهم سرا بانهم يتزوجون أخواتهم، اي بنات أعمامهم وبنات أخوالهم، وهو ضرب من ضروب التنميط بلا ريب .
ويبدو ان النفور من زواج الاقارب هذا، ليس عادة " إفريقية " فحسب، وانما ربما توجد عليها شواهد حتى في المجتمعات الغربية، وهي ثقافات تأثر بها حتى ابناء وبنات الاجيال الجديدة من السودانيين المقيمين لفترات متطاولة في الغرب عموما. فهولاء قد ولدوا وترعرعوا وشبوا عن الطوق في الغرب، واشربوا ثقافته إلى حد كبير، وورثوا منه حالته الذهنية والشعورية، بما في ذلك الاشمئزاز والنفور من زواج الاقارب داخل الاسرة الممتدة، مما يجعل كثيرا من أولياء امورهم الذين لم يتغيروا كثيراً غالباً، يضيقون بهم ذرعا، ويقفون حيارى امام رفض واستبشاع أبنائهم وبناتهم، لمجرد فكرة ان يعرض على احدهم ان يرتبط في نطاق العمومة او الخؤولة مثلا.
يوقفنا المؤلف على مفهوم وممارسة ثقافية وسلوكية مميزة ومثيرة للانتباه، ترتبط باثنية الفولاني بالتحديد فيما يبدو، هي ما يسمى بمفهوم " بولاكو " Pulaaku , وهي مجموعة من القواعد والأعراف السلوكية والاجتماعية، والمفاهيم الاعتقادية التي تمخضت عنها ثقافة الفولاني منذ ان وجدوا، والتي من اهم مرتكزاتها الحياء من أشياء محددة بحسب مفهومهم بالطبع.
ولقد استوقفني بشدة في تلك الثقافة، انه لا ينبغي للوالدين ان يظهرا اي نوع من الاهتمام او العاطفة الظاهرة على مولودهما البكر، بل ان عليهما بموجب تلك الثقافة ان يبديا بالأحرى، نوعا من الإهمال وعدم الاكتراث له، بما في ذلك امر تربيته وتنشئته الاولى، وهو الامر الذي وقع ضحيته الكاتب نفسه،، الذي صادف انه كان المولود الاول بالنسبة لوالديه، ولذلك كان نصيبه ان نشأ وتربى في بيت عمه كما قال.
ويزيدنا الكاتب انه في سياق تلك المعتقدات والمفاهيم التقليدية المتوارثة، فان الام لا تنطق اسم ولدها البكر، ولا تناديه به مطلقا. وهنا لعلنا نلاحظ نوعا من التشابه إلى حد ما، مع بعض العادات والتقاليد القديمة في وسط وشمال السودان، والتي بدات تنحسر وتزول منذ عقود، مثل عدم ذكر المرأة اسم زوجها صراحة، والكناية عنه بمسميات اخرى مثل أبونا، او ابو وليداتي، او ابو فلان، او الاشارة اليه بمهنته مثل؛ الحكيم، الناظر، الأسطى الخ. ويدخل في ذلك انه الى عهد دراستنا بالمرحلة الابتدائية بارياف كردفان في اواخر الستينيات واوائل السبعينيات من القرن الماضي، ان الاولاد كانوا يستعرون من ذكر اسماء امهاتهم وأخواتهم امام رفاقهم، ويرون ذلك عيبا كبيرا. وبلغنا ان ثقافة البجة بشرق السودان اكثر تشددا حيال هذا الأمر من سائر ارجاء السودان الاخرى.
ومن التقاليد والممارسات السلوكية التقليدية التي كانت سائدة في معظم انحاء السودان في السابق، ان الحماة، اي ام الزوجة، تمارس أقصى درجات الحشمة امام زوج ابنتها، حتى أنها لا تاكل معه في مائدة واحدة الخ.
استوقفني ايضا استخدام المؤلف لمصطلح " الحُرّارة "، وهي البهيمة التي تذبح فور وضع المرأة الحامل لمولودها، حمدا لله على سلامتها. ولحم هذه الحرارة بمقتضى الثقافة السودانية ، قاصر أكله على النساء فقط ، ولا ينبغي على الذكور ان يقربوه حتى الأطفال منهم. والحرارة هي غير العقيقة او " السماية " التي تذبح لتسمية المولود بعد مرور اسبوع من ولادته. وهذه يطعم منها الجميع ذكورا وإناثا.
والشاهد هو ان مصطلح " الحُرّارة " بحاء مضمومة تليها راء مشددة مفتوحة، ويقال الحُلاّلة ايضا باللام بنفس المعنى، هو مصطلح من بحبوحة الثقافة السودانية العتيدة، وقد ورد في مقطع من ملحمة" اولاد فتر " الفرسان المشهورين في التركية.
فقد وصفوا بانهم
اولاد فتر الشطارة
الما بياكلوا الحُرّارة
الا مِرّاً في الحلوق يتجارى .. الخ
وعليه أرجح ان تكون مجموعة الفولاني المعنية، المهاجرة إلى السودان في مطلع القرن العشرين فقط ، قد تبنت هذا اللفظ والمفهوم معاً، من قبيل التأثر الثقافي بالبيئة الجديدة، وذاك شئ طبيعي.
وكما تأثر فولانيو مايرنو بعادة ذبح الحرارة بعد " خلاص " المرأة الحامل، بسبب احتكاكهم باهل المنطقة الأصليين كما نفترض، فان بوسعنا ان نفترض ايضا انهم قد تأثروا بهم كذلك في اطلاق صيحات الروراي بواسطة الرجال، والزغاريد بواسطة النساء عند رؤية السلطان قادماً في وسط حاشيته لباحة صلاة العيد في خمسينيات القرن الماضي كما ذكر البروف ابو منقة في مذكراته، ذلك بان كلا الروراي والزغاريد ليستا من ثقافة الفولاني في بلدهم الأصلي فيما نظن.
وفي صفحة 19 من الكتاب، يوقفنا المؤلف على فصل باذخ الثراء من المباحث الفولكلورية واللغوية المقارنة، ابتدرها بتقريره الصائب ان معظم ألعاب الأطفال في افريقيا، هي ألعاب عابرة للشعوب كما وصفها. وقد مثل لتلك الألعاب العابرة للشعوب بلعبة " شدّت " السودانية، التي قال انها هي نفسها تمارس بين أطفال الفولاني والهوسا تحت مسمى " لنقا " linga .
والحق هو ان كثيرا من ألعاب الأطفال البسيطة خاصة، هي من المشترك فعلاً بين الأطفال في كافة انحاء العالم. ولعل من اشهر تلك الألعاب، هي لعبة " الاختباء او التخفي والعثور "، التي تعرف في انحاء السودان بمسميات مختلفة منها " الدسوسية " و " غمّيتو " وكذلك " غمدت لبدت " ، وهي لعمري نفسها Hide and seek الأنجلوساكسونية ، وCache cache الفرانكفونية.
ومما يحمد للمؤلف في هذا السياق، اعترافه صراحة في صفحة 20 ، في معرض إشارته إلى ديناميات التفاعل الثقافي في منطقة مايرنو بقوله: " ومن الألعاب التي جاءتنا من المجتمعات المحلية في السودان لعبة شليل".
وبهذه المناسبة، لقد طال ما كان لدي احساس بان لعبة القرقور، ذلك النوع من القواقع المخروطية الشكل، ربما وردت إلى السودان من غرب أفريقيا ومن بلاد هوسا بالتحديد. ذلك بان بعض مصطلحات هذه اللعبة تنم بالفعل عن لغة الهوسا، وليس اجدر من بروفيسور الامين ان يفتينا في هذا الامر. فمن بين تلك المصطلحات ذات الصلة بلعبة القرقور، والتي كنا نرددها دون ان نتساءل عن تخريجها اللغوي قولهم مثلاً " سورو جاري " و كذلك " قرني كبنكا ". والغريبة ان القرقور نفسه يسمى " سورو " في عربية تشاد المجاورة.
وختاماً، استوقفني مليّاً ما أورده المولف عن ذكرياته في الفصل الثاني من الكتاب، الذي جاء تحت عنوان: " مدرسة مايرنو الصغرى: بداية الطريق "، ذلك بانه قد اثار في نفسي شجوناً شخصية، وانطباعات عامة حول واقع السودان التعليمي الذي كان سائداً قبل مقدم سبعينيات القرن العشرين. أما الشجون الشخصية، فلكوني أنا نفسي قد بدات مسيرتي التعليمية بمدرسة صغرى كان يديرها والدي عليه رحمة الله. والمدارس الصغرى هي كما ذكر المؤلف، مدارس تتالف من ثلاثة فصول فقط ، اول وثاني وثالث من بداية سن الدراسة للأطفال. وتسمى تلك المدارس بالمدارس المجلسية بمعنى ان تمويلها والإشراف عليها اداريا وفنيا وماليا، يتم عن طريق المجالس الريفية، وليس مركزيا من قبل وزارة التربية والتعليم، مثلها مثل المدرسة الاولية ذات الفصول الأربعة في السابق. وقد كان لزاما على تلاميذ الفصل الثالث من عدة مدارس مجلسية او صغرى، ان يجلسوا لامتحان لكي يصفى منهم نحو أربعين تلميذا لكي يقبلوا بمدرسة اولية ما ،،تسمى ذات الراسين على نحو ما أوضحه الكاتب، توطئة للجلوس للامتحان المؤهل للدخول للمدرسة الوسطى. وفي اثناء ذلك المشوار المضنى، يفقد عشرات الالاف من التلاميذ المساكين النجباء، حظهم في الترقي في مدارج التعليم، بسبب ضيق الفرص أمامهم لعشرات السنين، وهكذا ظل السودان يهدر موارد بشرية معتبرة، كان من شأنها ان تساهم في تنميته وتطوره بكل تاكيد. او كما قال الشاعر التيجاني يوسف بشير
يا بلادي وأنتِ أضيقُ من رزقي مجالاً ودون أخرات أذني

ولعل مما يحمد لسلطة مايو 1969 -1985م ، انها قد عمدت في قرار ثوري محمود وبعيد الاثر الايجابي حقا، إلى الغاء المدارس المجلسية، وإدماجها مع المدراس الاولية في سلك موحد، تحت مسمى واحد جديد هو " المدارس الابتدائية "!ذات الست سنوات، وذلك منذ العام 1970م.
ولكن ماذا يفعل بنظار ومدرسي تلك المدارس المجلسية، وهم يعدون بالآلاف على نطاق السودان كله ، خصوصا وان تعليمهم وتأهيلهم نفسه كان محدوداً ، اذ لم يتجاوز معظمهم المرحلة الاولية، بل كان اقل من مستويات تلاميذهم المفترضين في الصفين الخامس والسادس مثلا. ؟؟.
لحل ذلك الإشكال - وكان ما يزال هنالك إداريون وعلماء وتربويون أفذاذ -.عمد المسؤولون فرتبوا لدورات تدريبية طويلة الأمد، لنظار ومدرسي المدارس المجلسية، عقدت بمعاهد التربية التي كانت في البلاد انئذ، مثل بخت الرضا وشندي والفاشر والدلنج وكسلًا ومروي ومريدي وغيرها، وأخضعوهم لعملية تأهيل ورفع قدرات مكثفة، أعقبتها امتحانات تقويمية، فمن اجتازوا تلك الامتحانات مثل الوالد بفضل الله، فقد تم الإبقاء عليهم واستيعابهم في مواضعهم بالمدارس الابتدائية المستحدثة، اما الذين لم يحالفهم التوفيق من أعمامنا، فلم يتم الاستغناء عنهم هكذا مرة واحدة ، فقد كان الناس وحكومتهم ايضا، ما يزالون ذوي فضل ولين جانب، ورفق وحس إنساني شفيف، ولذلك فقد جرى استيعابهم جميعا في وظايف محلية ككتبة في المجالس، ومكاتب التعليم، وأسواق المحاصيل وغير ذلك من المصالح الحكومية، خصوصا وانهم كانوا كبارا في السن، ولهم اسر يعولونها.
ولعل مما يمكن استخلاصه من الكيفية التي عالجت بها سلطة مايو مسالة تصفية المدارس المجلسية ، سوى إتاحتها الفرصة امام عشرات الالاف من التلاميذ السودانيين ولو نظريا، للارتقاء نحو المدارج المتقدمة من التعليم، وكذلك مراعاتها لاوضاع من تضرروا من ذلك القرار ، هو ان اية تدابير تنموية اصلاحية او ادارية، لا تستصحب الأبعاد الانسانية والأخلاقية، لا خير فيها ولا بركة على الاطلاق.
ومهما يكن من امر في الختام، فان البروفيسور الامين ابو منقة قد وضع بين أيدينا سفرا باذخ الثراء والدسامة، ويقيني ان كل قارئ سوف يجد فيه ضالته، من حيث اهتمامته، ومستواه التعليمي والثقافي والفكري، فهنيئا له وللقراء الكرام بهذا السفر، وله منا عاطر الثناء والتقدير.

   

مقالات مشابهة

  • وكيل مديرية التربية والتعليم بالقاهرة تتابع انتظام العملية التعليمية
  • مدير تعليم الأقصر يتفقد عدداً من المدارس لمتابعة سير العملية التعليمية
  • التعليم العالي: نسعى لتقديم الدعم لأبنائنا الطلاب من خلال منظومة شاملة ومتكاملة لتأهيلهم لسوق العمل
  • وكيل وزارة التعليم بأسيوط يتفقد مدارس ساحل سليم التعليمية
  • مدير تعليم بورسعيد يتفقد انتظام سير العملية التعليمية بجميع المدارس
  • أزمة التعليم تتفاقم في اليمن مع استمرار إضراب المدارس
  • تفقد أنشطة الدورات الصيفية في عدد من المدارس بريمة
  • مدير تعليم الإسكندرية يجري جولة تفقدية علي المدارس لمتابعة انتظام سير العملية التعليمية بها
  • وقفات مع ذكريات ومذكرات الامين أبو منقة 2 / 2
  • التعليم في السودان.. تداعيات كارثية للنزاع ودعم إماراتي متواصل