بعد انتخابات شارك فيها زهاء 370 مليون ناخب لانتخاب البرلمان الأوروبي الجديد أفاقت النخب السياسية الأوروبية على نتائج صادمة تراجعت فيها شعبية اليسار الليبرالي مقابل تقدم كاسح لأحزاب اليمين المتطرف التي صارت المعنية برسم السياسات وصناعة القرار داخل دول الاتحاد، فاتحة بذلك حقبة جديدة أنهت عقودا من الإقصاء لقوى اليمين المتطرف ومنعها من الوصول إلى الحكم.


الثورة /أبو بكر عبدالله

بضربة واحدة قلبت انتخابات البرلمان الأوروبي المعادلات السياسية في دول الاتحاد التي افاقت على نتيجة كاسحة بحصد قوى اليمين المتطرف اغلبية مقاعد البرلمان محدثة هزة سياسية في أكثر دول الاتحاد وخصوصا فرنسا التي اضطر رئيسها ايمانويل ماكرون إلى استباق التغير الكاسح بحل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة تضمن بقاء أحزاب يمين ويسار الوسط والليبراليين في الحكم.
وطبقا للنتائج التي أعلنها البرلمان الأوروبي فقد حصد تكتل حزب الشعب الأوروبي والاشتراكيون والديموقراطيون وتجديد أوروبا 398 مقعدا من أصل 720، موزعة بين لحزب الشعب الأوروبي (181 مقعدا) والاشتراكيون والديموقراطيون (135 مقعدا) و82 مقعدا لتجديد أوروبا، ما أهلها لتشكيل أكبر ائتلاف سياسي سيتحكم بأي تسويات سياسية في البرلمان الأوروبي مستقبلا.
وستضم التشكيلة الجديدة للبرلمان مجموعة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين من يمين الوسط، ومجموعة الهوية والديمقراطية اليمينية المتطرفة، التي حصلت 73 و58 مقعدا على التوالي.
يضاف إليهم حزب الإصلاح الأوروبي والحزب الديمقراطي ومجموعة يسار الوسط المنضوية في التحالف الحر الأوروبي (الخضر/EFA) الذي حصد نحو 53 مقعدًا، ثم الأعضاء غير المنتمين إلى أحزاب سياسية، والذين حصدوا 45 مقعدًا. يليهم اليسار بـ 36 مقعدًا ثم الأعضاء المنتخبون حديثا وغير المنتمين لمجموعات البرلمان المنتهية ولايته على 55 مقعدا.

أسباب الصعود
على أن انتخابات البرلمان الأوربي 2024 هي العاشرة منذ أول انتخابات مباشرة، فقد قال نحو 370 مليون ناخب هذه المرة كلمتهم الفصل باختيار التيارات السياسية القومية المتطرفة، مدفوعين بتنامي النزعات العرقية لدى شعوب الدول الأوروبية والتي لعبت دورا حاسما في تجاوز كل المساعي التي بذلتها الحكومات الأوروبية طوال العقود الماضية لإبقاء اليمين المتطرف خارج دائرة الحكم.
والأسباب الثانوية التي انتجت هذا المشهد تكاد تكون متشابهة في سائر دول الاتحاد، وفي المقدمة تآكل الثقة في الأحزاب التقليدية التاريخية الأوروبية باتجاهاتها المختلفة والأزمات الاقتصادية وتفاقم معاناة الشارع الأوروبي من أزمة تكلفة المعيشة وكلفة التحول إلى الطاقة المتجددة، والخلل الحاص في تقاسُم الثروة داخل المجتمعات الأوروبية في ظل ارتفاع معدلات البطالة في صفوف الشباب.
يضاف إلى ذلك الاضطرابات والمخاوف التي خلفتها السياسات الأوروبية تجاه ملف الهجرة واللجوء، وتراجع دور الاتحاد الأوروبي تجاه الأزمات الدولية بما إشاعته من مخاوف نتيجة تصاعد التوترات الجيوسياسية والخلافات الحاصلة في ملف الدعم الأوروبي للحرب الدائرة في أوكرانيا فضلا عن الانقسامات السياسية الداخلية التي سببتها الحرب الإسرائيلية الوحشية في قطاع غزة.
وثمة شبه اتفاق لدى أكثر الأوروبيين بأن الأحزاب التقليدية الحاكمة في دول الاتحاد فشلت خلال السنوات الماضية في حل المشاكل والتحديات الداخلية مثل البطالة والصحة والتعليم والهجرة واللجوء، والتي ساعدت أحزاب اليمين المتطرف على تقديم نفسها كبديل جديد قادر على مواجهة كل هذه التحديات.
هذه التحديات ساعدت أحزاب اليمين المتطرف على استقطاب أصوات شرائح واسعة من المجتمع الأوروبي ولا سيما في أوساط المزارعين والعمال الذين يحمّلون سياسات الاتحاد الأوروبي مسؤولية تدهور أوضاعهم المعيشية، فضلا عن استقطابها أصوات الناخبين القلقين من مشكلة ارتفاع تكاليف المعيشة.
والملف الأخير كان حاسما في شعبية أحزاب اليمين المتطرف التي استغلت تصاعد أعداد اللاجئين والمهاجرين كقضية أساسية في برامجها الانتخابية في ظل تراجع مستوى الرفاهية الأوروبية نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بصورة كبيرة فضلا عن تبني أحزاب اليمين الشعبوية قضايا الحرب الثقافية كالإجهاض وحقوق المثليين.

تغيرات متوقعة
فوز اليمين المتطرف بحصة الأسد في البرلمان الأوروبي جاءت بعد تحقيقه فوزا كبيرا في الانتخابات المحلية داخل الدول الأوروبية والتي خرج منها منتصرا بما مهد له الفوز بالنصيب الأكبر من مقاعد البرلمان الأوروبي للخمس السنوات القادمة.
والمؤكد أن حصول الأحزاب اليمينية الشعبوية على الأغلبية في مقاعد البرلمان الأوروبي، سينتج تغييرات جوهرية ليس فقط على مستوى البرلمان الذي ستقود فيه أحزاب اليمين صياغة التشريعات، وإنما على مستوى حكومات الدول الأوروبية وقراراتها وتوجهاتها السياسية.
وفقا لذلك ينتظر كثيرون إعادة تشكيل الخارطة السياسية الأوروبية بما يعني ذلك من تغيير كبير في التوجهات العامة لسياسات دول الاتحاد في قضايا استراتيجية على شاكلة الوحدة الأوروبية والدفاع والأمن الأوروبي في ظل مناهضة بعض أحزاب اليمين المتطرف للوحدة الأوروبية ومعارضتها زيادة الإنفاق على البنية التحتية العسكرية الأوروبية ردا على التوجهات الأوروبية بزيادة الإنفاق الدفاعي الموجه لأوكرانيا.
يشمل ذلك الحضور الأوروبي في أزمة الحرب المندلعة بين روسيا وأوكرانيا وأزمة الشرق الأوسط، والعلاقات مع الولايات المتحدة ومع الصين، فضلا عن العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي نفسها.
وعلى المستوى الداخلي فإن التغيرات مرجحة أيضا في الكثير من الملفات الداخلية ولا سيما القيود المفروضة على اللاجئين، والمطالب بتقليص أعدادهم، فضلا عن قضايا الفقر والبطالة وتدهور مستوى المعيشية والرفاهية الأوروبية وارتفاع الأسعار والتي قد تفرض توجهات سياسية جديدة مع روسيا والصين ودول الشرق الأوسط.

القضية الفلسطينية
أكثر ما يهم الشارع العربي من هيمنة اليمين المتطرف على البرلمان الأوروبي قضيتان أساسيتان هما قضية اللجوء والهجرة والقضية الفلسطينية، وسط مخاوف من أن الخارطة السياسية الجديدة للبرلمان الأوروبي ستلقي بآثار على التوجهات الأوروبية حيال هذه القضايا.
ومع تزايد التعاطف الدولي مع الشعب الفلسطيني وحقه بإعلان دولته المستقلة والتي أفضت مؤخرا إلى تظاهرات تندد بالمجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، والتوجهات السياسية التي أعلنتها دول أوروبية عدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، فإن صعود اليمين المتطرف سيقود إلى مواجهة هذا الزخم الشعبي والتقليل من زيادة فرص التأييد للقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة.
وتراهن إسرائيل على صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية للتقليل من الضغط الدولي المتصاعد ضدها بسبب جرائم الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزة، بعد أن أبدت بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة مواقف مؤيدة لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.
ورغم أن الأحزاب المحافظة في أوروبا وخاصة في فرنسا وألمانيا أبدت دعما لإسرائيل في حربها على قطاع غزة تحت مبرر الحق في الحماية والدفاع عن النفس، إلا أن أحزاب اليمين المتطرف ذهبت إلى اعتبار إسرائيل القاعدة المتقدمة لمواجهة ما سيمونه خطر “الجماعات الإرهابية” كما تبنت مواقف ترفض منح الشعب الفلسطيني الحق في إقامة دولته المستقلة على أساس حل الدولتين.
والتوافق بين حكومة الكيان وأحزاب اليمين المتطرف الأوروبية ظهر للعلن بعد مشاركة وزير الشتات ومعاداة السامية في حكومة نتنياهو أميشكاي شيكلي في قمة الأحزاب المتطرفة في مدريد.
وعلى أن إسرائيل لعبت في السنوات الماضية دورا مهما في التأثير على قرارات المفوضية الأوروبية، فإن العديد من التقارير كشفت أن الموساد الإسرائيلي كان حاضرا بقوة في الانتخابات الأوروبية من خلال تحريكه اللوبيات الصهيونية التي دعمت أحزاب اليمين المتطرف لمساعدتها في تحقيق تقدم في هذه الانتخابات الأوروبية كونها تخدم مصالح إسرائيل.

الهجرة واللاجئون
القضايا التي اثارت مخاوف المهاجرين في الدول الأوروبية من جراء الصعود السياسي الكبير لليمين المتطرف، قضية الهجرة واللاجئين في ظل التوجهات المعلنة للأحزاب اليمينية تجاه فرض مزيد من القيود على استقبال المهاجرين واللاجئين، وتنامي المشاعر العدائية تجاه الجاليات العربية والمسلمة والتي كانت هدفا رئيسيا في الحملات الانتخابية لأحزاب اليمين المتطرف التي رفعت شعارات متطرفة تجاه اللاجئين وصلت إلى حد الدعوة إلى إعادة كل المهاجرين غير الحاصلين على وثائق لجوء إلى بلدانهم بصورة فورية وتنبي إجراءات الصارمة لمراقبة الحدود وتخفيض اعداد المهاجرين الطالبين اللجوء إلى الحد الأدنى.
وعلى الرغم من تبنى البرلمان الأوروبي السابق، تدابير واسعة لتعديل سياسات اللجوء في الاتحاد الأوروبي، تشدد الضوابط الحدودية على المهاجرين غير النظاميين، واعتماد إجراءات تجبر جميع دول التكتل على تقاسم المسؤولية، إلا أن ما تتبناه الأحزاب اليمنية المتطرفة يتجاوز ذلك بكثير.
وهذا الأمر برز إلى الواجهة بوضوح في الخطابات السياسية والبرامج الانتخابية التي أعلنتها الأحزاب اليمنية المتطرفة والتي حملت الكثير من الخطاب عنصري ضد اللاجئين بما فيها الملاحقات والاعتقال وإشاعة الأجواء السلبية التي ينتظر أن تطال آثارها مئات الآلاف من المهاجرين العرب والأفارقة ولا سيما في دول مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا.

تحولات منتظرة
الثابت أن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة أنهت رسميا الجهود الطويلة الأمد التي بذلتها الحكومات الأوروبية من يسار الوسط والليبراليون لإبقاء الأحزاب اليمينية المتطرفة خارج السلطة بما عُرف أوروبيا بـ “الطوق الصحي” أو “جدار الحماية” إلا أن ما يخشى منه الساسة الأوروبيون هو أن تقود إلى المزيد من التأييد لهذه الأحزاب في بقية دول الاتحاد ولا سيما فنلندا وسلوفاكيا والمجر والسويد وجمهورية التشيك، التي تنشط فيها أحزاب يمينية متطرفة.
وحتى وقت قريب كانت أفكار وتوجهات اليمين المتطرف شاذة ومرفوضة من أكثر الحكومات اليسارية والليبرالية الأوروبية، كونها تعتمد فكرا عنصريا شعبويا يدعو إلى استخدام التدخل القسري والعنف لحماية الثقافة والتقاليد ونقاء العرق والطيف الديني الواحد داخل المجتمع، غير أن نتائج الانتخابات وضعت هذه الأحزاب وتوجهاتها في موقع متقدم لرسم السياسات الأوروبية، بما يضع جميع الدول الأوروبية امام نقطة فاصلة في تاريخها.
وعلى أن أحزاب اليمين المتطرف تشارك حاليا في 5 حكومات في الاتحاد الأوروبي، فإن المتوقع أن يتوسع اليمين في حكومات أخرى بعد أن تمكن من تحقيق مكاسب كبيرة في ألمانيا وفرنسا وغيرها من دول الاتحاد.
وفي ظل التوقعات التي تشير إلى أن هذا الحضور لليمين في البرلمان الأوروبي سيقود إلى تغيرات كبيرة على السياسات الداخلية والخارجية للدول الأوروبيةـ إلا أن ما يقلل من ذلك هو أنها ليست موحدة تجاه العديد من القضايا وفي المقدمة قضايا الأمن الأوروبي والهجرة واللجوء والبطالة ومستوى المعيشة والمناخ والخصوصيات الاجتماعية.
وعلى المستوى السياسي والأمني فإن المرجح أن تفرض المعادلة السياسية الجديدة في البرلمان الأوروبي مواجهة دول الاتحاد تحديات طويلة المدى، مثل الحرب الأوكرانية والمنافسة الممنهجة بين أمريكا والصين وتصاعد الأزمة الاقتصادية العالمية، والتحولات التكنولوجية وتغيرات المناخ.
وقد تمتد المواجهة إلى السياسات المتبعة تجاه الحرب في أوكرانيا بعد أن واجهت سياسات الاتحاد الأوروبي معارضة شديدة من أحزاب اليمين الشعبوي وخصوصا في الدعم المالي والعسكري الذي قدمته حكومات دول الاتحاد لأوكرانيا.
يضاف لذلك العلاقات مع الولايات المتحدة والصين في ظل التأثيرات التي تخلفها الانتخابات الأميركية وما يتبناه المرشحون الفائزون من مواقف متباينة كليا تمس بصورة مباشرة الأمن الأوروبي، وكذلك التأثيرات التي يخلفها انعدام التوازن التجاري بين الصين وأوروبا.
وتبقى قضية الهجرة واللجوء من أهم الملفات التي يُنتظر أن تشهد تغيرات كبيرة، قد تتجاوز السياسات المشددة التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي مؤخرا تجاه إجراءات الهجرة بتسريع عمليات إعادة المهاجرين الذين لا يستوفون شروط اللجوء أو الحماية الخاصة، بعد أن تبين أنها لم تكن مؤثرة على صوت الناخبين الأوروبيين الذين رأوا في توجهات أحزاب اليمين المتطرف ترجمة حرفية لمطالبهم.

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

هل تصل «الفوضى الهلاكة» إلى أوروبا؟

#سواليف

هل تصل « #الفوضى_الهلاكة » إلى #أوروبا؟

د. #فيصل_القاسم

مقالات ذات صلة إلى من تخطى الخمسين لا تقل فات الأوان 2024/06/28

هل سمعتم في التاريخ الأوروبي الحديث منذ الحرب العالمية الثانية زعيماً أوروبياً يحذر من اندلاع حرب أهلية في بلاده؟
قد يخطر اسم يوغسلافيا السابقة على بالكم، لكن يوغسلافيا كانت تابعة لأوروبا الشرقية المنضوية وقتها تحت لواء حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفياتي، الذي هو نفسه انهار فيما بعد وتفكك. أما الحركات الانفصالية في إسبانيا وإيرلندا فهذا موضوع آخر، وأسبابه مختلفة تماماً عما ذكره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام، فقد حذر ولأول مرة في التاريخ الفرنسي الحديث من إمكانية سقوط فرنسا في براثن الحرب الأهلية. وقال حرفياً إن برنامجي اليمين واليسار المتطرفين يؤديان فعلياً إلى «حرب أهلية». وأضاف بأن «الحلول التي قدمها اليمين المتطرف تصنف الناس من حيث دينهم أو أصولهم، وهذا هو السبب في أنها تؤدي إلى الفرقة وإلى الحرب الأهلية». ونحن هنا لا نتحدث عن دولة أوروبية هامشية، بل عن ركن أساسي في الاتحاد الأوروبي. إنها فرنسا وما أدراك ما فرنسا. هل كان تحذير الرئيس الفرنسي يا ترى مجرد مناورة سياسية ضد خصومه، أم إن السيل قد بلغ الزبى، وإن أوروبا كلها باتت على كف عفريت بسبب صعود أسهم الأحزاب اليمينية المتطرفة في الانتخابات؟ الواضح أن اليمين كما أظهرت نتائج الانتخابات في كل الدول الأوروبية لم يتقدم فقط في فرنسا، بل في معظم الدول الأوربية، بما فيها ألمانيا حاملة مشعل الاتحاد الأوروبي. وهذا لا يعني أن الغالبية العظمى من الأوروبيين قد ضاقوا ذرعاً بموجات اللاجئين والأجانب فحسب، بل باتوا ينشدون الاستقلال عن الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني بالضرورة تفكك الاتحاد فيما لو استمرت موجة صعود اليمين المتطرف في صناديق الاقتراع. ربما لأول مرة منذ عقود نسمع أصواتاً داخل ألمانيا تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي. وهذه نغمة غير معهودة مطلقاً في الإعلام الألماني، خاصة وأن ألمانيا هي التي تحمي الاتحاد من الانهيار وذلك من خلال دعم الدول المتدهورة اقتصادياً كاليونان وغيرها. ومعلوم أن ألمانيا اشترت اليونان تقريباً وباتت المتحكم الرئيسي بسياساتها وحكوماتها. لكن الأحزاب المتطرفة فيها بدأت اليوم تطالب بتفكيك الاتحاد والانطواء على الذات.

اليمين كما أظهرت نتائج الانتخابات في كل الدول الأوروبية لم يتقدم فقط في فرنسا، بل في معظم الدول الأوربية، بما فيها ألمانيا حاملة مشعل الاتحاد الأوروبي

والغريب في الأمر أن بعض الأحزاب اليمينية صارت تحظى بأصوات نسبة لا بأس بها من الناخبين الألمان والفرنسيين وغيرهم. وكلها تعارض سياسات الأحزاب الحاكمة ومؤيديها، وهذا يعني بالضرورة أن الغالبية العظمى من الأوروبيين باتوا منقسمين على أنفسهم بشكل خطير ربما لأول مرة في التاريخ الحديث، وما حذر منه إيمانويل ماكرون في فرنسا قد يتردد صداه عاجلاً أو آجلاً في بقية دول الاتحاد الأوروبي، وهذا قد يزيد من الشروخ المتصاعدة داخل الجسم الأوروبي بمستوياته السياسية والشعبية.
ما الذي أدى يا ترى إلى هذه المخاطر المحدقة بالاتحاد الأوروبي وبشعوبه؟ لماذا بدأ التفكك يضرب مفاصل الدول الأوروبية؟ هل وصلت أنظمة التحكم الإعلامي والسياسي والثقافي والاجتماعي والديني إلى نهايتها؟ لماذا بدأت القواعد الشعبية تخرج عن السيطرة بالرغم من أن أنظمة التحكم والسيطرة الأوروبية لا مثيل لها عبر التاريخ في تطويع الشعوب وإخضاعها وترويضها، مع ذلك نجد اليوم قطاعات كبيرة من الشارع الأوروبي وقد بدأت تخرج عن القطيع. هل أفلست الأنظمة الأوروبية يا ترى، ولم تعد قادرة على تجميع شعوبها تحت مظلة واحدة؟ هل تبنت سياسات خاطئة ستؤدي بالضرورة إلى اضطرابات داخلية لا تحمد عقباها؟ وما هو الدور الخارجي في إذكاء نار التفكك والتصدع داخل المجتمعات الأوروبية؟
لقد وجه الغرب مرات عديدة أصابع الاتهام إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحملته مسؤولية دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة في عموم أوروبا؟ لكن هل يا ترى أن روسيا لوحدها تتحمل مسؤولية صعود نجم الأحزاب اليمينية، أم إن أمريكا نفسها لعبت ومازالت تلعب دوراً تخريبياً داخل القارة العجوز؟ ألم يصبح الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب والمرشح الحالي للرئاسة الأمريكية مثلاً يحتذى بالنسبة للعديد من الأحزاب والشخصيات السياسية الأوروبية؟ هل تعمل أمريكا على نشر الفوضى الهلاكة حتى داخل الديار الأوروبية نفسها؟ من الذي دعم مظاهرات «الستر الصفراء» في فرنسا لفترة طويلة؟ هل يمكن تبرئة الأمريكيين أصلاً من إشعال نار الحرب في أوكرانيا وأثرها المدمر على المجتمعات الأوروبية على كل الأصعدة؟
أليس من الغريب والملفت معاً أن أوروبا هي التي خاضت واحدة من أكبر الحروب في التاريخ للقضاء على الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، وخاصة ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية؟ فما الذي دهاها اليوم يا ترى لأن تنفخ من جديد في نار الفاشية والتطرف وتدفع بأحزاب متطرفة مشابهة إلى سدة الحكم في أكثر من بلد أوروبي؟ هل موجة التطرف التي بدأت تطل برأسها في عموم أوروبا ظاهرة عابرة يا ترى، أم إنها خطيرة جداً، ولو لم تكن بتلك الخطورة التاريخية، لما خرج الرئيس الفرنسي ليحذر الفرنسيين بلغة واضحة من أن بلدهم معرض لفوضى قاتلة ستكون أول تجلياتها الحرب الأهلية؟

كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

مقالات مشابهة

  • فرنسا تستعد اليوم لانتخابات تشريعية حاسمة
  • اليمين الأوروبي المتطرف بين روسيا وأمريكا
  • هل تصل «الفوضى الهلاكة» إلى أوروبا؟
  • الكرملين: آفاق تطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي لم تشهد أي تحسن بعد تغيير قيادات التكتل
  • الكرملين: تطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي لم تشهد أي تحسن بعد تغيير قيادات التكتل
  • الكرملين: آفاق تطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي لم تتحسن بعد تغيير قيادات التكتل
  • قادة فرنسيون يشاركون في مناظرة تلفزيونية قبل الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة
  • السياسي والاستراتيجي في حسابات صعود اليمين المتطرف في أوروبا
  • زعماء الاتحاد الأوروبي يستعدون لتأييد فون دير لاين وكوستا وكالاس لتولي المناصب العليا في الكتلة
  • أوروبا وخطر عودة الشموليات إلى السلطة والحكم