السودان.. لا حل يلوح في الأفق ومعاناة الناس تتعمق
تاريخ النشر: 22nd, June 2024 GMT
تتنامى الأزمة الإنسانية في السودان، فيما يستمر القتال الذي أسفر عن إحدى "أسوأ الأزمات التي عرفها العالم منذ عقود"، بحسب ما تؤكد منظمة أطباء بلا حدود.
ومنذ أبريل 2023 يشهد السودان حربا دامية بين القوات المسلحة النظامية بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، ولا تلوح أي فرص لحل الأزمة، إذ يصر الطرفان المتحاربان على القتال.
أسفرت الحرب في السودان عن مقتل عشرات الآلاف بينهم ما يصل إلى 15 ألف شخص في الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، وفق خبراء الأمم المتحدة.
لكن ما زالت حصيلة قتلى الحرب غير واضحة فيما تشير بعض التقديرات إلى أنها تصل إلى "150 ألفا" وفقا للمبعوث الأميركي الخاص للسودان توم بيرييلو.
كذلك، سجل السودان قرابة عشرة ملايين نازح داخل البلاد وخارجها منذ اندلاع المعارك، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة. ودمرت إلى حد كبير البنية التحتية للبلاد التي بات سكانها مهددين بالمجاعة.
متلازمة الحرب والجوعويحذر مسؤولون أمميون ومنظمات إغاثة من أن متلازمة الحرب والجوع تلاحق السودانيين.
مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، حذر، الخميس، من أن وصول المساعدات الإنسانية في السودان الغارق في حرب منذ أكثر من عام لا يزال "غير كاف"، ما يفاقم من خطر المجاعة بين سكانه.
وفي مقابلة مع وكالة فرانس برس، الأربعاء، قال غراندي إنه على الرغم من أن إيصال المساعدات الإنسانية في السودان "شهد تقدما ضئيلا في الأسابيع القليلة الماضية"، تظل هناك حاجة إلى المزيد من الإجراءات لتحسين ذلك.
وأضاف "نطلب من جميع الأطراف السماح للعاملين في مجال العمل الإنساني بالتحرك، إذ أن تواجد منظمات الإغاثة يعد غير كاف لمساعدة المحتاجين، وخصوصا لتوصيل المواد الغذائية والإمدادات الأخرى الضرورية لمن يواجهون خطر المجاعة".
وقال غراندي خلال زيارته إلى جنوب السودان، والذي شهد تدفقا هائلا للنازحين القادمين من السودان منذ اندلاع المعارك، إن العاملين بمجال الإغاثة تمكنوا من الوصول إلى عدد "أكبر قليلا" مقارنة مع الأشهر السابقة بسبب "الإصرار... من جانب المجتمع الدولي".
وتابع أنه يتعين على المجتمع الدولي مواصلة الضغط من أجل وصول المساعدات، "وإلا فإننا نخاطر بالمزيد من النزوح، والأسوأ من ذلك أننا نخاطر برؤية الناس يموتون من الجوع".
وأعرب عن "قلق بالغ.. لأنني كنت آمل في البداية، مثل العديد من السودانيين، أن يكون هذا الصراع قصير الأمد".
"أسوأ الأزمات"وقال رئيس منظمة "أطباء بلا حدود" الإغاثية، كريستوس كريستو، الخميس، إن السودان يشهد "إحدى أسوأ الأزمات التي عرفها العالم منذ عقود"، فيما أفادت لجان محلية في شمال دارفور عن سقوط 18 قتيلا على الأقل نتيجة قصف مدفعي وجوي.
ونشر حساب المنظمة على موقع إكس نقلا عن كريستو أن السودان يشهد "إحدى أسوأ الأزمات التي عرفها العالم منذ عقود.. إلا ان الاستجابة الإنسانية غير كافية على الإطلاق".
وفي مقطع مصور مقتضب نشرته المنظمة الإغاثية الدولية قالت إن "مستويات المعاناة قياسية في أرجاء البلاد ويوما عن يوم تزداد الحاجات".
وأضافت أن "هناك تعمدا من قبل الحكومة السودانية في عدم منح تصاريح لفرق ومواد الإغاثة الإنسانية تمكنهم من الوصول" إلى مناطق القتال.
ترحيل اللاجئينواتهمت منظمة العفو الدولية، في تقرير الأربعاء، مصر باعتقال جماعي لآلاف اللاجئين الفارين من الحرب في السودان وترحيلهم بشكل غير قانوني.
وذكرت المنظمة الحقوقية أنها وثقت 12 واقعة رحلت فيها السلطات المصرية ما يقدر بنحو 800 سوداني بين يناير ومارس من العام الجاري دون منحهم فرصة لطلب اللجوء أو الطعن على قرارات الترحيل.
وأضافت أيضا أنها وثقت بالتفصيل حالات اعتقال 27 لاجئا سودانيا بين أكتوبر 2023 ومارس 2024، ومن بينهم 26 انضموا للمرحلين بشكل جماعي.
وأوضحت أن اللاجئين يحتجزون في ظروف قاسية وغير إنسانية قبل ترحيلهم.
والعدد الإجمالي لعمليات الاعتقال والترحيل غير واضح بسبب غياب الإحصاءات المتاحة.
وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن مصر رحلت آلاف اللاجئين في أواخر العام الماضي، كثير منهم سودانيون.
ولم ترد الهيئة العامة للاستعلامات في مصر على طلب للتعليق.
وأثار هذا التقرير تساؤلات بشأن مدى قانونية اعتقال وترحيل مصر اللاجئين الفارين من الحرب، وكيفية تنظيم القانون الدولي لأوضاع اللاجئين في الدول المستقبلة لهم.
وذكرت منظمة العفو الدولية أن المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر نفى النتائج التي توصلت إليها بشأن ارتفاع عدد عمليات الاعتقال والترحيل للاجئين السودانيين، وأكد في رده على المنظمة أن السلطات المصرية تحترم القانون الدولي.
وأضافت المنظمة أن الاعتقالات جزء من حملة بدأت في سبتمبر 2023 يقوم خلالها أفراد من الشرطة بملابس مدنية بعمليات تفتيش عشوائية على السود واعتقال من لا يحملون وثائق هوية سارية أو تصاريح إقامة.
وتجرى عمليات التفتيش بشكل متكرر في العاصمة القاهرة ومحافظة الجيزة حيث تستقر أعداد كبيرة من السودانيين، وكذلك في مدينة أسوان بجنوب مصر حيث يتوقف العديد من اللاجئين السودانيين في طريقهم إلى الشمال.
وتقول المنظمة الدولية للهجرة إن أكثر من 500 ألف شخص، أو نحو 24 في المئة من إجمالي الذين غادروا السودان، عبروا إلى مصر.
وبعد أقل من شهرين على بدء الحرب، علقت مصر التزامها بموجب معاهدة بإعفاء النساء والأطفال والرجال السودانيين الذين تزيد أعمارهم عن 49 عاما من الحصول على تأشيرة مما أدى إلى تباطؤ الدخول.
ويثير وصول الوافدين توترات من حين لآخر، ويحمل بعض المصريين مسؤولية رفع أسعار الإيجارات للسودانيين وغيرهم من الأجانب. ويشير مذيعو التلفزيون المصري إلى ما يشكله ملايين المهاجرين من "عبء" في وقت يرتفع فيه التضخم والضغوط الاقتصادية، بحسب رويترز.
وقال محامون وشهود إن السلطات ألقت القبض على العديد من الأفارقة بعد تفاقم أزمة نقص العملة الأجنبية في مصر العام الماضي لعدم حيازتهم أوراقا رسمية واحتجزتهم في ظروف مزرية وطلبت منهم دفع رسوم بالدولار لتجنب الترحيل.
وترى الدول الأوروبية أن مصر تلعب دورا مهما في منع الهجرة الجماعية عبر البحر المتوسط.
وأعلنت مصر والاتحاد الأوروبي في مارس عن شراكة استراتيجية مدعومة بتمويل قدره 7.4 مليار يورو، وهو اتفاق ينظر إليه على نطاق واسع على أنه مدفوع بمخاوف الدول الأوروبية من الهجرة.
استمرار القتال في الفاشروفي العاصمة السودانية، أفادت "أطباء بلا حدود" عن تعرض مستشفى "النو" بأم درمان جنوب الخرطوم والذي تدعمه المنظمة "للقصف الأربعاء، وسط قصف عنيف في محيط المدينة، ما أدى إلى مقتل ثلاثة أشخاص، من بينهم متطوع محلي" ووقوع 27 جريحا.
وفي إقليم دارفور غرب السودان أفادت لجنة طوارئ مخيم أبو شوك للنازحين في ولاية شمال دارفور المتاخم لمدينة الفاشر العاصمة، في بيان الأربعاء عن وقوع "موجة جديد من القصف المدفعي من قبل الدعم السريع تسببت في مقتل 14 شخصا وجرح 25 من سكان المخيم بينهم أطفال ونساء".
كما أفادت "لجنة مقاومة بلدة كتم" شمال الفاشر عن "مقتل أربعة مدنيين إثر قصف طائرة مقاتلة" الأربعاء.
والأسبوع الماضي أعلنت أطباء بلا حدود مقتل 226 شخصا في الفاشر منذ بدء القتال فيها في العاشر من مايو.
ولكن من المرجح أن تكون حصيلة القتلى أعلى بكثير فيما يصعب التأكد في ظل انقطاع خدمات الاتصالات وصعوبة إيصال مواد الإغاثة والمساعدات.
كما طالب مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي بإنهاء "حصار" الفاشر من جانب قوات الدعم السريع في السودان، ووضع حد للمعارك حول هذه المدينة الكبيرة في إقليم دارفور وحيث يحتجز مئات آلاف المدنيين.
وأعرب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان عن "قلقه البالغ" ازاء العنف في إقليم دارفور الشاسع غرب السودان، وحث الشهود هناك على ارسال أدلة إلى مكتبه تساعده في التحقيق في ارتكاب جرائم على المستوى الدولي.
وتعد الفاشر مركزا رئيسيا للمساعدات في الإقليم الواقع في غرب السودان حيث يقطن ربع سكان البلاد البالغ عددهم 48 مليون نسمة.
ومن جهة أخرى أفاد شهود عيان وكالة فرانس برس عن شن قوات الدعم السريع هجوما على مدينة الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان والقريبة من حقول إنتاج النفط، ووقوع اشتباكات مع الجيش على أطرافها.
ودانت حكومة الولاية في بيان "الاعتداء الغاشم الخميس من قبل ميلشيا دقلو الإرهابية وهي تعتدي على مدينة الفولة والمؤسسات الرسمية ونهب أسواق المدينة، والمدنيين العزل".
وأفادت قوات الدعم السريع من جهتها عبر حسابها على منصة إكس عن سيطرتها على مقر اللواء 91 التابع للجيش بغرب كردفان.
ووسط عدم وجود أي محادثات أو مفاوضات تفضي إلى وقف القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، وقع صدام بين السودان والإمارات في مجلس الأمن الدولي الثلاثاء بشأن اتهامات من الحكومة السودانية المتحالفة مع الجيش بأن الإمارات تقدم السلاح والدعم لقوات الدعم السريع في الصراع المستمر بالسودان منذ 14 شهرا.
وبدون تسمية أي دولة، أقر مجلس الأمن قرارا الأسبوع الماضي يحث الدول على "الامتناع عن التدخل الخارجي الذي يسعى إلى تأجيج الصراع وعدم الاستقرار" وأعاد تذكير "الدول الأعضاء التي تسهل نقل الأسلحة والمواد العسكرية إلى دارفور بالتزاماتها بالامتثال لتدابير حظر الأسلحة".
وتقول الولايات المتحدة إن الطرفين المتحاربين ارتكبا جرائم حرب، كما ارتكبت قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها جرائم ضد الإنسانية ونفذت عمليات تطهير عرقي.
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الحرب فی السودان أطباء بلا حدود السودان یشهد مجلس الأمن فی مصر
إقرأ أيضاً:
مقتل النور: عندما تخلى العالم عن السودان للإبادة الجماعية لمدة عامين كاملين
نعت لجان مقاومة شمال دارفور زميلتهم وبطلتنا، الدكتورة هنادي النور، التي أسلمت روحها لباريها بعد أن اخترقت رصاصات ميليشيا قوات الدعم السريع جسدها الغض، عند اقتحامهم مخيم زمزم للنازحين، الواقع على بُعد 15 كيلومترًا من مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور. كانت هنادي، ابنة أوائل العشرينات، قد تخرجت حديثًا من كلية الطب قبيل اندلاع الحرب، لكنها اختارت البقاء في معية النازحين في زمزم، واختارت أن تصمد وتخدم، بدلاً من البحث عن سُبل الخلاص الفردي. اختارت هنادي أن تكون (جميلة بوحيرد السودان) لتعمل بين أهلنا الذين افترشوا مضارب النزوح في المخيم، تُطبب الجرحى، وتُداوي المرضى، وتذود بجسدها الغض عمن طحنتهم آلة الحرب، وتدفع ما استطاعت من عمرها فداءً لأبناء وبنات شعبنا الذين هجّرتهم جحافل الدعم السريع، وشرّدتهم من ديارهم.
رحلت هنادي عن عالمنا قبل يومين من دخول حرب السودان الملعونة إلى عامها الثالث، عندما اجتاحت جحافل ميليشيا قوات الدعم السريع مخيم زمزم للنازحين في يوم 13 أبريل 2025. صمد مخيم زمزم لأكثر من عام، في وجه الحصار الوحشي الذي فرضته ميليشيا قوات الدعم السريع، ولاحقًا انضم إليها حلفاؤها في تحالف تأسيس على الفاشر ومخيمات النازحين المحيطة به، ومن ضمنها زمزم وأبو شوك. أدى ذلك الحصار الخانق إلى مأساة إنسانية غير مسبوقة. تم إعلان المجاعة من المستوى الخامس (المستوى الكارثي) في مخيم زمزم في أغسطس 2024، وأفادت تقارير المنظمات الدولية، ومن بينها أطباء بلا حدود، أن طفلًا واحدًا على الأقل يقضي نحبه جراء الجوع والمرض كل ساعتين نتيجة لنقص الغذاء والدواء.
بعد الخسائر المتتالية التي أصابت ميليشيا قوات الدعم السريع، ونجاح الجيش السوداني في تحرير العاصمة الخرطوم، كثّفت الميليشيا وحلفاؤها هجماتهم على الفاشر وزمزم وأبو شوك وبقية المناطق التي ظلّت صامدة خارج سيطرتها. أدى ذلك إلى إعلان منظمة “أطباء بلا حدود” تعليق جميع أنشطتها في مخيم زمزم في 24 فبراير 2025، بسبب تصاعد العنف والهجمات المتكررة، حفاظًا على سلامة طواقمها. وبعد يومين، في 26 فبراير 2025، أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة تعليق أعماله في مخيم زمزم، نتيجة لتدهور الوضع الأمني وتصاعد القتال، وقام بإجلاء الموظفين من أجل سلامتهم. لم يبق من عمال الإغاثة الإنسانية في زمزم – والذي يأوي حوالي مليون نازح من المدنيين الذين هجّرتهم الحرب – غير منظمة ريليف إنترناشيونال Relief International وثلة من المؤمنين بشعبهم وبقدسية الحياة مثل هنادي ورفاقها.
لكن لم يسلم أحدهم من بطش آلة العنف الهمجية التي أطلقتها ميليشيا الدعم السريع وحلفاؤها. أعلنت ريليف إنترناشيونال أن الميليشيا قتلت تسعة من كوادر العناية الطبية بعد الاجتياح الدموي، في العيادة الأخيرة في المخيم، والتي كانت تديرها المنظمة، ثم أعلنت جمعية الأطباء السودانيين الأمريكيين عن مقتل الأستاذ أحمد محمد صالح سيدنا، والذي كان يدير مركز الأطفال الذي ترعاه الجمعية في المخيم، على يد جحافل التتر الجنجويدية التي اجتاحت المخيم. لم تكن هنادي وحدها إذن، بل كان الموت بكل عنفوانه الوحشي يحصد بمنجله الدموي رُسل الحياة والإنسانية. أو كما قالت نقابة أطباء السودان في نعيها لهنادي: “يد الغدر المتوحشة لم تفرّق بين من يقتل ومن ينقذ، فاغتالت النور”.
أعادت الصور والفيديوهات التي تسربت من الهجوم ذكريات ما حدث في الإقليم في أوائل الألفية. مشاهد جنود الدعم السريع على ظهور جيادهم وهم يطاردون النازحين الذين يحاولون الفرار من هذا الجحيم، مشاهد حرق المخيم وشهادات القتل والاستهداف الإثني، كلها تكررت لتقول للعالم بأقسى طريقة ممكنة إن تفاحة الدعم السريع وحلفاءها لم تسقط بعيدًا عن شجرة الجنجويد.
مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، يتجلى عجز العالم أمام المأساة في أبهى صوره: تواطؤ تزينه لغة دبلوماسية متخشبة، ومجاملات جوفاء لا تقوى على ملامسة الحقيقة المروعة لهذه الحرب – الحقيقة التي تقول إننا نشاهد واحدة من أفظع الكوارث الإنسانية التي صنعها الإنسان في القرن الحادي والعشرين، لا بفعل الكوارث الطبيعية، بل بإرادة القتل والعنف والفناء.
تحوّل شعار “إيقاف الحرب” إلى لافتة باهتة يرفعها بعض الساسة الذين يتوسلون شرعية من الخارج الدولي على ركام الوطن. راية مهترئة يحملها من يسعون لتجميل وجه الفاشية، والبحث عن معادلات لتقاسم السلطة عبر إضفاء الشرعية على آلة الاستبداد والنهب والاغتصاب والقتل الجماعي، فقط لأنهم يتطلعون إلى نصيب من سلطة عرجاء، أو خدمةً لمصالح إقليمية ودولية لا ترى في السودان سوى رقعة نفوذ وأداة صراع.
في ذروة هذا النزيف، عقدت بريطانيا مؤتمرًا وزاريًا لمناقشة الأزمة السودانية في يوم الذكرى الثانية لانفجارها – مؤتمر بدا كعرض مسرحي ناقص، غاب عنه السودانيون أنفسهم: لا حضور رسمي يمثل الدولة، ولا صوت شعبي يعكس صرخة الشعب الموجوع. لم تكترث الحكومة البريطانية للآلاف من أبناء وبنات السودان الذين احتشدوا غاضبين أمام مقر المؤتمر في لندن، رافعين أصواتهم بالرفض والاحتجاج. احتجوا على حضور دول ما تزال – حتى اللحظة – تموّل وتسند حملة الإرهاب الدموي التي تشنها ميليشيا الدعم السريع على أهلهم العزّل في بلادهم، حملة تغرق المدن والقرى في الدم والرماد، بينما العالم يختبئ خلف التجاهل المتغطرس عن مواجهة الحقيقة.
ويتزامن كل ذلك مع استمرار التجريدة المتوحشة للهجمات التي تشنها – في نفس الأيام – قوات الدعم السريع على الفاشر والمخيمات المحيطة بها، بين القصف المتواصل على المناطق المدنية، ومنع الإغاثة الإنسانية والغذاء والدواء من الوصول إلى أكثر من مليونين من المواطنين المدنيين المحاصرين لقرابة العام.
ولكن أمام إشراقة ثغرِ هنادي الوضّاء، يقف الوجودُ كلّه متواضعًا ليسائله ضميرَهُ المستتر…
ما الطغيان؟
إن لم يكن أن يرسل أميرٌ من أمراء الخراب، جحافل بطشه وسلاحه المسنون، لتغتال شابة أو زهرة يانعة لم تعرف من الدنيا إلا نشوة الفرح حين تضمّد جراح طفلٍ نازف، أو تزرع الدفء في قلب أمّ مكلومة، وتخفف عن ذويها وجع التشريد ومرارة النزوح.
وما التدليس؟
إن لم يكن أن يصطف نفرٌ من المتأنقين، أرباب الكلام المنمّق وربطات العنق الحريرية ومرتدي السترات المبطّنة كضمائرهم، ليداروا نزيف جراح أوطانهم خلف حذلقة السياسة، ويغزلوا للمجرمين أقمشة من التعقيد تستر عورات جرمهم، هربًا من مواجهة الشمس الساطعة للحقيقة.
وما التواطؤ والخيانة؟
إن لم تكن أن يُغلق البعض أعينهم عن رؤية دموع الأمهات، ويصمّوا آذانهم عن صراخ الأطفال، بينما يبيعون صمتهم الجبان وكلماتهم الكاذبة للجلاد بثمن بخسٍ من مكاسب السياسة أو وهم السلطة أو دراهم يهوذا؟
وما الاستبسال والشهادة؟
إن لم تكن أن تُزهَر مثل هذه الأرواح الباسلة على عتبة الصدق، في وجه رصاص الظلم، لتهزّ عروش الجبابرة الطغاة وتصدح بالنشيد، أن الحق لا يُهزم، وإن قُتل عشّاقه؟
وأما الوطنية، والإقدام، والشجاعة،
فما عادت اليوم رايات تُرفع في خطب البلاغة، ولا أناشيد تُردَّد في دهاليز الساسة، بل صارت وجهًا واحدًا لا يُشبهه أي وجه، واسمًا واحدًا لا يخطئه القلب: اسم هنادي ورسمها، هي ورفاقها الراحلين. هي رايتها وعنوانها في كل أرضٍ تنبت فيها الكرامة من دم الشهداء، هي سيرة من لا يتراجعون، ولا يساومون، ويهبون الحياة لمعنى الوطن، ثم يرحلون عنه… واقفين.
أمجد فريد الطيب
إنضم لقناة النيلين على واتساب