الفن الفلسطيني من المسافة صفر.. سينما غزة داخل مخيمات النزوح
تاريخ النشر: 21st, June 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
"الجميلات قرابين الإله ونحن قرابين العصر"، كلمات للراوئية الفلسطينية ديانا الشناوي، تعبر فيها عن حال فلسطين فتشبهها وكأنها قربان للعالم أجمع، على غرار هذه الكلمات نفذ المخرج الفلسطيني الفيلم الوثائقي "قرابين" يتناول موروثا قديما عن ذبح الأكثر جمالًا وتقديمها للآلهة حتى تخلصهم من اللعنات، وتوضيح المعاناة التي يعشيها شعب فلسطين.
فبرغم ما يحدث يصر فنانو ومبدعو فلسطين على تقديم الحقائق، فإذا اغتال المستعمر الأجساد، تظل الصورة و الكلمة والفن بشتى أنواعه والإعلام شاهدين على الظلم، ومرجع لمعرفة الحقائق.
المخرج مصطفى نبيهوفي ذلك يقول المخرج الفلسطيني مصطفى نبيه ، والذي يتواجد في خيمة غرب مدينة رفح بعدما نزح من حي النصر بغزة ثم إلى خانيونس، أن غزة تنتصر بالفن والإعلام بكل أشكاله ، فبدونهما من الصعب أن يصل صوت الشعب الفلسطيني للعالم، ، ودورنا كفنانين أن نقدم الصورة التي تعبر عن قضيانا وعن انسانيتنا، قائلا غزة والسينما من المسافة صفر،مشيرًا إلى أن الاحتلال يحارب الفن والدليل على ذلك قتل الفنانين و المخرجين و الصحفيين واعتقالهم .
فذكرت تقارير أن من الفنانين الفلسطينين الذين استشهدوا في غزة منذ عملية «طوفان الأقصى» الفنانة «إيناس السقا» هي وأطفالها الثلاثة بعد قصف الاحتلال لمنزلها ، والممثّل «غازى طالب» مع عائلته، والإعلامى الفلسطينى على نسمان في غارات من الاحتلال
واستشهدت أيضا الفنانة التشكيلية حليمة عبد الكريم الكحلوت لي المتواصل على قطاع غزة والفنانة والمحاضرة الأكاديمية بجامعة الأقصى نسمة أبو شعيرة، الكاتبة والشاعرة هبة كمال أبو ندى نتيجة العدوان المستمر على شعب غزة.
بينما اعتقلت قوات الاحتلال المطربة دلال أبو آمنة بسبب تدوينة على فيس بوك قالت فيها: «ولا غالب إلا الله» بجوارها علم فلسطين، والممثلة وميساء عبد الهادى لنشرها تدوينات على السوشيال ميديا تدعم فيها المقاومة.
نبيه: قرابين فيلم يوضح أن العالم يتعامل مع فلسطين كقرابين للآلهة
واستكمل "نبيه حديثه إلى "البوابة"، قائلًا أنه من خلال فيلم "قرابين"، حاولت توضيح فكرة أن العالم يتعامل معنا كأننا قرابين للآلهه ، فشبهت القرابين وهي الفتاة الجميلة بالشعب الفلسطيني والذي نحاول التعبير عنه ، وصورت الواقع الذي نعيشه واقع النزوح وانتقالنا من منازلنا والامان الذي كنا فيه والان اصبحنا نعيش بالخيام ، فنحن انتقلنا من الحياه المرفهه للحياه البدائية، بأدوات قديمة جدا نستعين بالنار وكل شئ له علاقة بالتكنولوجيا ينسحب من حياتك ،.
وتابع "نبيه"، من خلال الفيلم قمت بتوصيل رسالة تعبر عن واقعنا فنحن كفلسطنينن لسنا مجرد أرقام تموت ولكننا كباقي العالم لنا ذكريات ومنازل ونحب ونكره ونتعلم، ونمتلئ ونتدفق بالمشاعر ونحب الحياة، فالكثير يحاول تصوير الفلسطيني انه لا يرغب بالحياة وعلى عكس ذلك "فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة كما قال الشاعر محمود درويش، موضحًا أن فليم قرابين عرض مع 20فيلم لعدد 20 مخرج من فلسطين في مهرجان كان ، فهو رسالة للعالم بسبب رفضهم الحديث عن فلسطين في المهرجان، وفكرة وجود خيمة في المهرجان يعد إنجازعظيم لنا وحتى يشعر العالم أننا غير بعيدين وأننا جزء منه وجزء من هذا الكون.
وأشار المخرج الفلسطيني، أنه نفذ فيلم "ولنا حكاية اخرى" مع ثلاث فنانين مطربة و فنان تشكيلي وممثل محترف والفنان التشكيلي كان حاصل على جوائز عالمية يدعى محمد الديري، قدمت من خلاله الحياه قبل الحرب وبعده وكيف نتأقلم مع الواقع الآن ، مشيرًا إلى أن الفنان في غزة كأي مواطن فلسطيني يتدفق حب ومشاعر فمن الطبيعي أن يعبرعن شعبه وقضيته وبيته وهمه وحياته وواقعه، فلولا الفن والسينما والمسرح والإعلام ما علم عنا العالم شئ، فلا نملك سوى توضيح الرؤية للعالم من خلال الفن.
خارج سياق الحياة
وبعبارات حزينة تدمي القلب استطرد "نبيه"، قائلًا لدي ثلاثة أبناء، محمد الفتى المتفوق والذي كان لديه أحلام كبيرة لكنه الآن مريض و محبط هو طريح الفراش، أما ابني الأكبرأحمد، مصاب بمرض الكبد الوبائي، وابني محمود نسى نفسه وانشغل بالبحث عن الحطب والماء ليساهم بمساندة العائلة، بينما الصغير يوسف يحب الرسم ويرسم رسومات تعبر عن غزة وما حدث لشعبها.
واختتم إن لم نمت من الحرب فربما يتسبب التلوث للمياه والطعام في انهاء حياتنا، فتحولت المنازل إلى ركام وامتلأت الشوارع بالجثث، إلى جانب التغيرات المناخية التي طرأت على النازحين، فنحن خارج سياق الحياة.
صعوبات وتحديات لتصوير الأفلام
سعود مهنا: اطلقنا مهرجان العودة السينمائي من الخيام بعدما دمر الاحتلال المقر في غزة
قال سعود مهنا مخرج سينمائي ومؤسس ورئيس مهرجان العودة السينمائي الدولي ورئيس ملتقى الفيلم الفلسطيني، بكل صدق بدأنا بمشروع من تحت الركام وهو مشروع لإنتاج افلام وثائقية وروائية عن الحرب على غزه، وعن حياة النزوح والخيام فى ظل الدمار والقتل والإبادة الجماعيه، انتجنا فيلم وثائقى اسمه (تحدى) وهو من إخراجى وزميلى المخرج يوسف خطاب، والذي يتحدث عن كيفيه إطلاق مهرجان العودة السينمائي ونحن فى الخيام بعد أن دمر الإحتلال الإسرائيلي مقر مهرجان العودة السينمائي فى مدينه غزة، وكيف نتواصل مع المخرجين من دول عديده ونستقبل أفلامهم ونحن نفتقر لأسباب الحياه فهناك صعوبة فى الحصول على الانترنت والكهرباء، ووسائل المواصلات معدومه، ولكننا نظهر من خلال الفيلم التحدى الذى نواجهه حتى نطلق المهرجان.
صعوبة وصول الممثلين والمصورين من غزة إلى المخيمات بسبب الاحتلال
وأضاف "مهنا" في تصريحات لـ"البوابة"، أخرجت فيلما روائيا قصيرا باسم (يافا)، وهو يحكى قصة عائله مهجرة فى خيام النزوح، نزح أبآئهم يافا عام ١٩٤٨، وكيف يقضون يوم عيد الفطر في خيام النزوح ويتذكرون شهدائهم فى هذه الحرب، فيلم يافا يركز على أن الإنسان الفلسطينى مهما طالت به السنون لن ينسى المدينه التى طرد منها بقوه السلاح عام ١٩٤٨ ويحن للرجوع اليها ويؤكد على حق العودة دائما.
وذكر المخرج سعود، أن هناك العديد من التحديات التي واجهتهم أثناء تصوير الفيلم، فهو بإنتاج صفر فلا يوجد تمويل للإنتاج، و بعض الممثلين يسكنون مدينه غزه والجيش الإسرائيلي قسم القطاع، فلا يستطيعون القدوم إلى مكان التصوير، وهذا ينطبق على بعض المصورين ومهندسي الإضاءه والصوت، كما عانينا من قله المواصلات فهي صعبة جدًا لكى نتنقل إلى مواقع التصوير فأحيانا نسيرعلى أقدامنا لساعات طويلة، أو نركب عربات يجرها حمار، إلى جانب أن التواصل عبر الموبايل صعب للغاية والذي أثرعلى عملية التواصل مع طاقم العمل وأيضًا عدم وجود انترنت وكهرباء سبب شلل للطاقم أثناء التصوير.
التصوير داخل المخيمات
واستطرد حديثه، "أثناء التصوير فى المخيمات نحزن لسماع مئات القصص من النازحين، هناك من استشهدت معظم عائلته وهناك عائلات تفرقت ولا تستطيع التواصل والحياة فى الخيام صعبه جدًا بدون ماء وكهرباء،ويفترش الجميع الأرض، وسمعنا آلاف القصص التى تصلح أن تكون افلام، مشيرًا إلى أن السينما مهمه جدًا فى سرد الرواية الفلسطينية وبالسينما نستطيع توصيل معاناتنا و ابداعاتنا ورسائلنا للعالم بكل صدق ،فعرض الافلام الفلسطينية الوطنيه فى الفضائيات مهم جدًا لكى تظل القضية حاضرة فى وجدان الجميع، ومشاركة الأفلام الفلسطينية فى مهرجانات عربية و دولية بالغة الأهمية، لكى تكون رسائل واضحة بالصوت والصورة لكل الدول المشاركه بالمهرجان، خاصة حينما يفوز فيلم فلسطينى بجائزة يبقى فى دائره الضوء ويكون خير رسول لفلسطين بقضاياها العديدة.
316525329_10159787586598876_7141122507733648062_n 382731830_10160525374003876_6990245653930487863_n 417547953_10160856815943876_8639696691408124095_n 447729062_823223459439547_5466555632478541932_n (1) 447729062_823223459439547_5466555632478541932_n (2) 447729062_823223459439547_5466555632478541932_n 447769197_311178785390705_7719098433759026122_n (1) 447769197_311178785390705_7719098433759026122_n 447773944_1040000081022349_8389443381360831496_n 447902035_481824874498901_4385156726962365830_n 447909052_1037497777790239_6748768336627028376_n 448221420_2398946773647802_7889801373219936865_n (1) 448221420_2398946773647802_7889801373219936865_n 448237239_1615798492533140_6863596790244042826_n 448259922_1129456074977965_8922010510962356887_n 448302569_1521288388598966_3325493402409855437_n 448304844_438000789130726_876459957062605177_n 448306535_991796272455402_2796395504976366694_n 448337853_444090731833696_9067720827807810395_n 448454983_443052861773949_5319294454231321867_n 448482929_1462184778516907_3026328571659379234_n 448483028_478457364866836_5802867073078951889_n 9999999999 mkmk r5r5r Untitledالمصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الفن الفلسطيني الاحتلال الإسرائيلي السينما في غزة مخيمات النزوح غزة فنانو فلسطين من خلال
إقرأ أيضاً:
تقرير: الحرب أظهرت مهن جديدة .. في حياة النزوح بغزة
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي: في زاوية من سوق دير البلح الشعبي، لا تبدو الحياة كما كانت. لم تعد المحال تكتظ بالبضائع، ولا أصوات الباعة تعلو كما في الأيام العادية. هناك، يجلس تامر بدوي، رجل في منتصف العمر، يحدق في ورقة نقدية ممزقة بين يديه كأنها كنز أثري، يتعامل معها ببطء، بحذر، كأنها روح بحاجة إلى إنعاش.
حين تنظر إليه من بعيد، قد تظنه فنانًا يُرمم لوحة عتيقة. يضع ورقًا شفافًا، يقصّ بعناية، يركب أجزاء العملة، يطابق الألوان، ثم يمرر أصابعه بخفة كأنما يزيل ألمًا قديمًا. يقول تامر: «أنا لا أصلح عملة، أنا أداوي جراح الناس في ورقٍ مُمزق».
من الجرافيك إلى ترقيع الجراح المالية
لم يكن هذا حال تامر قبل الحرب. كان يعمل في مجال التصميم الجرافيكي، يملك مكتبة صغيرة لطباعة البروشورات واللافتات، وكان يجد متعة في تصميم الأفكار وتحويلها إلى رسائل مرئية. لكن مع اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، وتوقف الدورة الاقتصادية ككل، تحولت حياته بالكامل. بعد أن أُغلقت المحال التجارية وأصبح الناس غير قادرين على دفع ثمن السلع الأساسية، توقفت أعماله بشكل نهائي.
أُغلقت البنوك، وأصبح الناس يتداولون النقود بشكل غير منظم، ما أدّى إلى تدهور الأوراق النقدية بسرعة. العملات الممزقة، التي كانت مرفوضة من التجار في البداية، أصبحت تُستخدم بشكل متزايد في المعاملات اليومية، ما دفع تامر للبحث عن حل. «لم أكن أتخيل يومًا أنني سأصبح مُصلحًا للنقود، لكن في ظل هذه الظروف، كنت مجبرًا على التفكير بشكل مختلف»، يقول تامر.
مع الوقت، بدأ يكتشف تقنيات بسيطة لترقيع الأوراق النقدية. بدأ باستخدام لاصق شفاف خاص وتقطيع الأطراف بعناية، ليتأكد من أن الورقة تعود إلى شكلها الأصلي. تدريجياً، أصبح يطور مهارته، حتى أصبح يُصلح الأوراق الممزقة بشكل محترف. «كنت أرى في هذا العمل أكثر من مجرد ترميم للورق؛ كنت أداوي جراح الناس المالية»، كما يصف تامر.
ومع تزايد الحاجة إلى هذا النوع من الإصلاح، بدأت تظهر في السوق ظواهر جديدة. أصبح الناس يفضلون التعامل مع تامر لِأنّه كان يعيد «حياة» للعملة التي كانت على وشك الزوال، في عالم كان كل شيء فيه مكسورًا ومتهدمًا».
اقتصاد الورق المرقع
«في البداية كنت أرى الناس تستخدم أوراقًا ممزقة، يرفضها التجار، ويتحسرون على فقدانها. قررت أن أجرّب. جربت ألصق ورقتين ببعض، جربت ألون الأطراف، حتى نجح الأمر. صارت العملة تبدو سليمة، والناس بدأت تلجأ إليّ»، يتحدث تامر بينما يُظهر ورقة مئة شيكل مثقوبة من المنتصف بعد أن أصابتها شظايا صاروخ.
في البدء، كان يُصلح الورقة بلا مقابل. يقول لـ«عُمان»: «كنت أعتبرها مساعدة بسيطة، لكن مع مرور الوقت، صار الناس يأتون بالعشرات، والمستلزمات غالية، خصوصًا اللاصق الشفاف الخاص الذي ارتفع ثمنه كثيرًا». اليوم، يتقاضى شيكلين فقط لكل ورقة كبيرة فئة 100 شيكل، ويصل عدد الزبائن إلى أكثر من مئة في اليوم الواحد.
حين تصبح الشرارة كنزًا
لكن ما يفعله تامر لا يقتصر على الترقيع، بل يتعداه إلى رؤية إنسانية عميقة. «هذه الأوراق ليست مجرد مال، هذه حياتنا. فيها رواتب المعلمين، ومصروف الأطفال، وتعب الأمهات. كل ورقة أصلحها، كأنني أُعيد لأسرة توازنها».
ليس تامر وحده من يعمل في هذه المهنة الجديدة. في شوارع غزة الممزقة، بزغت مهن لم تكن تخطر ببال أحد. ففي ركن آخر من السوق ذاته، يجلس شاب آخر يُصلح الولاعات التالفة.
شغف من رماد
محمد الغلبان، لم يتجاوز الثلاثين، وكان يعمل في مجال بيع الأجهزة الإلكترونية. لكن الحرب أتت على كل شيء، ولم يتبق سوى بقايا، وأفكار. يقول ضاحكًا: «ما كنت أظن أنني سأصلح ولاعة يومًا، لكننا في غزة.. كل شيء ممكن».
كانت الولاعة تباع بربع شيكل، لكن الحرب رفعت سعرها إلى أربعين شيكلا. وفجأة، صار للولاعة قيمة، وصار إصلاحها مهنة. يقول محمد لـ«عُمان»: «الناس ما عادت ترمي ولاعة، صارت تحتفظ بها، وتحاول إصلاحها أو تعبئتها. وأنا بدأت أتعلم من السوق، من محاولات بسيطة، حتى أتقنت الأمر».
يجلس بلال خلف طاولة خشبية، أمامه ولاعات بألوان مختلفة، بعضها مكسور وبعضها يحتاج غازًا. يستخدم أدوات بسيطة، إبرة حادة لتعبئة الغاز، ومفك صغير لتثبيت العجلة. وبينما يتحدث، يأتي رجل خمسيني يحمل ثلاث ولاعات قديمة. يقول له: «إحنا بنعيش على ولاعتك.. ما تبطّلش شغل يا بلال».
يبتسم بلال ويقول: «الناس وجدت في مهنتي متنفسًا، وأنا وجدت فيها حياة».
ابتكارات ولدت من تحت الأنقاض
مهن مثل تصليح النقود والولاعات، لم تكن سوى انعكاس لواقع جديد تشكّل من رحم الحاجة.
في ظل انعدام المواد، وانقطاع السلع، وتوقف الدخل، بات لزامًا على الناس أن تبتكر. أن تعيد الحياة لما كان يُرمى، أن تصنع من الخردة فرصة.
يقول أبو مهادي، تاجر بسيط في السوق لـ«عُمان»: «أنا أحيانًا أرفض أخذ ورقة مشوهة، لكن لما أعرف أنها مرقعة على يد تامر، أقبلها بثقة. عارف إنها صارت تُشبه الأصل».
أما الولاعات، فقد أصبحت، كما يصفها، «ضروريات يومية لا يمكن الاستغناء عنها، مثل الخبز والماء».
حين تصبح الحاجة أم الاختراع
الأمر لا يقتصر على السوق فقط، بل تعداه إلى البيوت، حيث بدأ بعض الأطفال بتعلّم تقنيات بسيطة في إصلاح الأدوات، وحتى نساء اخترعن طرقًا لترقيع الملابس والأحذية بمواد غير تقليدية. الكل يبتكر في غزة.
في حي الشجاعية شرق غزة، لجأ بعض السكان إلى استخدام ألواح معدنية ممزقة لإنشاء أسقف بديلة بعد أن تهدمت منازلهم. وفي بيت عائلة خليل، وضع الأب بابًا محروقًا مكان نافذة، وثبّت زجاجًا مكسورًا بلاصق طبي بعد أن عجز عن شراء زجاج جديد. أما أم محمود، فقد حوّلت تنكة زيت فارغة إلى مدفأة صغيرة تطهو عليها لأولادها وتدفئ بها الغرفة الوحيدة المتبقية من منزلها.
اقتصاد الطوارئ
الخبير الاقتصادي محمود صبرة، يرى في هذه الظواهر «أشكالًا من اقتصاد الطوارئ». ويقول: «حين تتعطل الدورة الاقتصادية الرسمية، يظهر اقتصاد موازٍ، لا يقل أهمية. بل هو في بعض الأحيان، أكثر استدامة، لأنه يقوم على الابتكار الذاتي وتدوير الموارد».
ويضيف لـ«عُمان»: «إصلاح ورقة نقدية، أو إصلاح ولاعة تالفة، يبدو فعلاً بسيطًا، لكنه في السياق الغزي، هو تعبير عن مقاومة الاندثار، عن الرغبة في الحياة رغم كل شيء».
نظرة ماهر
ويوافقه الرأي الخبير ماهر الطبّاع، مدير العلاقات العامة والإعلام بغرفة تجارة غزة، الذي يرى أن هذه المهن قد تشكّل نواة لاقتصاد بديل.
يقول لـ«عُمان»: «نحن نشهد اقتصادًا ظلّيًا فرضته الحرب، حيث يُجبر الناس على خلق وسائل جديدة للعيش. هذه المهن تُعيد توزيع الأدوار، وتمنح من فقدوا وظائفهم فرصة للاندماج من جديد».
يشير الطبّاع إلى أن الغلاء الفاحش وندرة السيولة جعلا الناس أكثر قبولًا لفكرة الإصلاح وإعادة الاستخدام: «لم تعد هناك رفاهية التبديل، بل أصبحت الحاجة أقوى من الرغبة. وهنا يظهر الإبداع الحقيقي».
درس في البقاء والصمود
في نهاية السوق، يلتقط تامر ورقة نقدية أخرى، ممزقة من الطرفين، باهتة اللون. يضعها على الطاولة كأنها جريح جديد، يتأملها طويلًا، ثم يهمس: «كل ورقة بحكاية.. مثل الناس. فيهم اللي احترق، فيهم اللي اتشرّد، بس كلهم بيستنوا حد يمدّ إيده، يُرممهم، يرجّع لهم نبض الحياة».
وهكذا، في غزة المُنهكة، التي تئنّ تحت ركامها، لا تزال الأرواح تبحث عن نور. تُخلق المهن من العدم، ويُبعث الأمل من رماد المعاناة. لا يُصلح الغزيون ولّاعات ونقودًا وبيوتًا فقط، بل يُعيدون ترميم ذواتهم وكرامتهم، التي يحاول الاحتلال انتهاكها.
هنا، لا تُقاس الحياة بعدد الأيام، بل بعدد المحاولات للبقاء. البقاء ليس مجرد قدر، بل حرفة يتقنها أهل غزة. وفي كل زاوية، في كل يد تمسك بورقة أو ولّاعة أو باب مخلوع، ثمة رسالة خفيّة تقول: «لن نموت بصمت... سنُقاوم، حتى بورقٍ مُهترئ وشعلةٍ صغيرة».