سنرجع يوما .. لهارون هاشم رشيد
تاريخ النشر: 20th, June 2024 GMT
في الوقت الذي ينتظر الغزيون العودة إلى شمال غزة وأماكن أخرى داخل قطاع غزة الحبيب، في الحرب الشرسة التي يشنها الاحتلال البغيض عليه، فإن هؤلاء اللاجئين وغيرهم، ممن هجّر أهاليهم من فلسطين، ما زال يحدوهم أمل العودة إلى الوطن السليب، هناك في فلسطين المحتلة عام 1948، تلك التي بنى الاحتلال أوهامه من خلال ما ذكره ساستهم: الكبار يموتون والصغار ينسون.
سنرجع يوما خبرني العندليب.. صعب ألا يقرأ أي إنسان هذه القصيدة أو يسمعها، دون أن يجيش الحنين في قلبه، فتدمع عيونه؛ فأية جريمة حدثت وما زالت حلقاتها مستمرة تجاه شعب تم تشريده وطرده من وطنه، من سيحنو على الحزانى حينما تنهمر دموعهم حين يقرأون:
سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى
بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا
منذ غنت فيروز هذه القصيدة، عام 1956، أي بعد نكبة فلسطين عام 1948 بثماني سنوات، حتى الآن، واللاجئون يتوارثون اللجوء، من قبل ومن بعد، والبكاء، لكنهم لم يكتفوا بالبكاء والحنين، بل ضمنوا سفر رحلتهم للعودة نضالات عظيمة. موضوع العودة هو الهاجس الرئيس لشاعر العودة والثورة والنكبة هارون هاشم رشيد، إنه هاجسه الأساسي، فثقته بحق العودة وتحققها يوما، جعله مطمئنا لهذا الشعور، أي العودة إلى الحيّ، أي البيوت، رغم بعد المسافات وطول فترة التشرد، حيث توقع اللاجئون العودة بعد أسابيع أو أشهر على أبعد تقدير.
إنه الأمل العظيم فعلا بالرجوع، إلى تلال الحنين بناسها، ولعل العندليب هنا رمز للوجود وسيرورة التاريخ، التي تعني نهاية الاحتلال.
بنى الشاعر قصيدته على جزيئات معمارية مرتبطة معا في سياق شعوري؛ فابتدأ بفكرة حتمية العودة كفكرة أولى، كما قلنا، المرتبطة بسيرورة وصيرورة التاريخ، التي تعني نهاية الاستبداد والاحتلال مهما طال، فالأرض لأهلها لا محالة.
سنرجع يوما إلى حينا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا
أما الفكرة الثانية، فهي امتداد للأولى، وهي زرع الأمل ومنع اليأس:
فيا قلب مهلًا ولا ترتمي على درب عودتنا موهنا
يعز علينا غدًا أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا
وهنا، جاءت الفكرة الثالثة، وهي المسوغ الوطني والإنساني، فالوطن الجميل بصفصافه وأزهاره ينتظر عودتهم كما هم ينتظرون بشجن:
هنالك عند التلال تلال تنام وتصحو على عهدنا
وناس هم الحب أيامهم هدوء انتظار شجي الغنا.
ربوع مدى العين صفصافها على كل ماء وها فانحنى
تعب الزهيرات في ظله عبير الهدوء وصفو الهنا
وهنا تأتي الفكرة الرابعة وهي تكرار الاطمئنان بالعودة، التي تحتمل أيضا بأن الباقين في فلسطين المحتلة، الذين رمز إليهم بالبلابل ما زالوا متمسكين بعروبتهم «تعيش بأشعارنا:
سنرجع خبرني العندليب غداة التقينا على منحنى
بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا
وما زال بين تلال الحنين وناس الحنين مكان لنا
وأخيرا، الفكرة الخامسة المؤكدة لحتمية تحقق العودة رغم ما عانى اللاجئون من تشريد:
فيا قلب كم شردتنا الرياح تعال سنرجع هيا بنا
سنرجع يومًا إلى حينا...
سنرجع يومًا إلى حينا ونغرق في دافئات المنى
لم يعبّر شاعر قبل هارون هاشم رشيد بمثل هذه الصورة البديعة، الغرق في دافئات المنى، أي الإشباع العظيم والارتواء بحضن الوطن الدافئ، فلا أكثر دفئا من الوطن، ولا من تحقق أمنية العودة.
أي سحر في قوله: فيا قلب مهلًا ولا ترتمي على درب عودتنا موهنا؟ سحر هذا الشعر، حين صوّر الشاعر القلب بإنسان يرتمي بضعف، وهو بذلك يحفز القلب ويقوي أمله.
مضمون سامٍ، استلزم جماليات غاية في الشفافية والبلاغة القريبة غير المتكلفة؛ كأن التلال بشر ينامون ويصحون، الوطن هنا إنسان. والوطن متمسك بالعهد:
هنالك عند التلال تلال تنام وتصحو على عهدنا
تأمل جماليات أسلوب هارون هاشم رشيد رحمه الله، يعيدنا إلى دوره في حركة الشعر العربي، حين تحرر الشاعر من الثقل اللغوي، وللنظر هنا في هذا البيت حين يقول:
تعب الزهيرات في ظله عبير الهدوء وصفو الهنا؛ فالعادي والطبيعي أن تعب (تشرب) الزهيرات الماء، لكن هنا جعل الشاعر الزهيرات تشرب عبير الهدوء الجميل.. فالماء هنا عطر.
ترى ماذا قصد الشاعر بالبلابل في قوله: بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا؟ هل ثمة رمز هنا؟
يمكن أن تكون البلابل هي الطيور، ويمكن أن يكون الشاعر شبه الباقين في فلسطين بالبلابل. ويمكن بالطبع الطيور والناس، الذين تمسكوا بالعروبة والأدب العربي.
فيا قلب!
آه من هذا النداء، الذي كرره مرتين:
فيا قلب مهلًا ولا ترتمي على درب عودتنا موهنا
فيا قلب كم شردتنا الرياح تعال سنرجع هيا بنا
لقد شبه الشاعر القلب كأنه إنسان وصديق ينادي عليه صاحبه.
لو تأملنا استخدام الشاعر بشكل معمق للفعل المضارع (الحاضر) كما هو موجود في كل الأبيات:
(نرجع، نغرق، يمر، تنأى، ترتمي، يعز، تعود، تنام، تصحو، تعب، لما تزل، تعيش...)، فإن تفسير ذلك نفسيا يعود للأثر الحي للوطن، الذي يرفض الشاعر نفسيا أن يراه زمنا ماضيا.
وهنا نتذكر الروايات الشفوية للاجئين حين كانوا دوما يبدأون حديثهم بأسلوب الحاضر عن الغائب، كونهم يرفضون مجرد فكرة أن الوطن غائب، كونه حاضرا داخلهم.
لذلك نرى الشاعر مثل المهجرين عن ديارهم دوما يرددون سنرجع، لما له من مسوغ التأكيد النفسي على شعور العودة. وهو تكرار استساغته الأذن، في ظل تقبل الذهن والشعور لمضمونه.
يعد الشاعر الكبير هارون هاشم رشيد، من أكبر الشعراء الذين استخدموا اللغة العربية في انسيابية بعيدا عن التعقيد في اللفظ والمعنى.
إنها قصيدة واضحة اللغة بجمالية بلاغية قريبة إلى النفس، دفعت الرحابنة إلى تلحينها، وربما هي النص الشعري الفلسطيني الذي غنته فيروز.
كما ابتدأنا نصنا ننهيه؛ فليست القضية عودة الغزيين والغزيات إلى مدنهم وقراهم ومخيماتهم في قطاع غزة، بل هناك ما ينشده الفلسطينيون من عودة مشروعة للوطن، فإن مات الكبار، فإن الصغار لا ينسون، وتلك هي دوافع الوجود المقاوم.
وسنرجع يوما قريبا..لقد صار أكثر قربا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
نائب رئيس جامعة الأزهر الأسبق: الصلاة تُغير سلوك الإنسان وتؤثر في حياته
قال الدكتور محمد أبو هاشم، نائب رئيس جامعة الأزهر الأسبق، عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، إن العبادة، وخاصة الصلاة، لها تأثير عميق في حياة المسلم وسلوكه، مُشيرا إلى أن كثيرًا من الناس يلتزمون بالصلاة ويحافظون عليها، لكن قد يرتكبون بعض الأخطاء والسلوكيات التي نهى عنها الإسلام، لذا يجب تشجيعهم على الالتزام بالصلاة، لأنها تهدي وتشرح الصدر، فالصلاة لها أثر كبير في تغيير السلوك.
الصلاة عامل أساسي في التأثير على سلوك المسلموقال الدكتور محمد أبو هاشم، خلال حلقة برنامج «مع الناس»، المُذاع على قناة الناس، اليوم الثلاثاء، إن هناك أثر ورد عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، حيث قال: «من لم تنهَه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»، مٌوضحا أن هذا الأثر يعني أن الصلاة إذا كانت صحيحة ومٌؤثرة في القلب، ينبغي أن يكون لها دور في تعديل سلوك الإنسان، وأن الصلاة ليست مُجرد عبادة فردية، بل هي عامل أساسي في التأثير على سلوك المسلم.
وفي سياق الحديث عن الصلاة، سرد الدكتور أبو هاشم قصة مٌميزة استمع إليها من أستاذ أجنبي زار مصر، حيث قال: «كان هذا الأستاذ من إنجلترا، وعندما سألته عن الإسلام، أخبرني أنه قرأ كثيرًا عن الإسلام، وأعجب بشيء واحد في الإسلام وهو الصلاة، وهناك 5 صلوات في اليوم، خمس مرات يقف المسلم أمام الله سبحانه وتعالى وهذه الفكرة كانت تثير إعجابه، لأنه يجد أن هذا يُبقي المسلم قريبًا من الله طوال اليوم».
الصلاة فرصة يومية للمؤمن لمراجعة نفسهالدكتور أبو هاشم أوضح أن الصلاة تذكر المُسلم دومًا بالله، مما يجعل سلوكه أكثر انضباطًا، وأن الصلاة لا تقتصر على كونها عبادة بدنية فحسب، بل هي فرصة يومية للمؤمن لمراجعة نفسه، والتوبة عن أخطائه، والتذكر الدائم لوجود الله، مُضيفا: لو استحضر المسلم هذا المعنى، أنه يقف خمس مرات يوميًا أمام الله، فإنه لا يستطيع أن يستمر في ارتكاب الأخطاء أو المنكرات، هذه الصلاة تجعل الإنسان يعي عظمته ويدفعه للسعي إلى التحسين من نفسه.
وأضاف الدكتور أبو هاشم، أن الصلاة لها أثر تطهيري، فهي كفارة للذنوب والخطايا، كما ورد في الحديث النبوي الشريف، مُوضحا أنه حتى إذا وقع الإنسان في الخطأ، تظل الصلاة سبيلًا للتوبة والغفران، وتظل هي الطريق لإصلاح السلوك وتقوية العلاقة مع الله سبحانه وتعالى.