في يومهم العالمي.. اللاجئون السوريون ضحايا الابتزاز والأوراق السياسية
تاريخ النشر: 20th, June 2024 GMT
يعيش اللاجئون السوريون في "اليوم العالمي للاجئين" الذي يصادف 20 يونيو من كل عام ظروفا لا يمتنونها لغيرهم من بقية البلدان، وبحسب حقوقين وناشطين تحدث إليهم موقع "الحرة" وأرقام رسمية من جانب الأمم المتحدة لا يلوح في أفق مستقبلهم حتى الآن أي بارقة أمل.
وعلى العكس تتدحرج الأمور باتجاه الأسوأ في ظل "حملات العودة القسرية" التي بات يعلن عنها باستمرار تحت إطار "العودة الطوعية"، ومع تحول ملفهم شيئا فشيئا إلى "أوراق سياسية" و"مساحة ابتزاز".
ووفقا لآخر إحصائيات الأمم المتحدة يوجد أكثر من 13 مليون سوري "مهجرون قسرا"، وفي عام 2023 وحده نزح 174 ألف شخص آخرين داخل سوريا، ليصل العدد الإجمالي إلى 7.2 مليون نازح داخليا، و6.5 مليون لاجئ وطالب لجوء في الخارج.
وتقول المنظمة الأممية في بيان حديث لها إن الأرقام المذكورة تمثل "كوارث إنسانية لا حصر لها"، ولكل منها "قصة خسارة".
ولا تزال سوريا منذ سنوات وحتى الآن تمثل أكبر أزمة لجوء في العالم، ويتوزع اللاجئون بغالبيتهم العظمى في تركيا (أكثر من 3 ملايين لاجئ) ويليها لبنان ومن ثم الأردن والعراق ووصولا إلى الدول الأوروبية، على رأسها ألمانيا.
ورغم التأكيدات المستمرة من جانب الأمم المتحدة بأن "سوريا غير آمنة لعودتهم" اتجهت دول مؤخرا لإطلاق "حملات إعادة طوعية" تراها منظمات حقوق إنسان "قسرية"، وأن آلياتها تنطوي على الكثير من المخاطر والترهيب والتضييق.
ويؤكد ما سبق تقرير نشرته "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، الخميس، إذ قالت فيه إنها وثقت ما لا يقل عن 4714 حالة اعتقال تعسفي لعائدين من اللاجئين والنازحين على يد قوات النظام السوري، منذ مطلع 2014 وحتى شهر يونيو 2024.
الشبكة الحقوقية وثقت من جانب آخر مقتل ما لا يقل عن 367 مدنيا بينهم 56 طفلا و34 سيدة و43 شخصا تحت التعذيب واعتقال 828 شخصا في البلاد الممزقة خلال عام 2024.
وجاء في تقريرها أيضا أن "الانتهاكات التي ما زالت تمارس في سوريا؛ والتي كانت هي السبب الرئيس وراء هروب ملايين السوريين من بلدهم ما تزال مستمرة".
وفي حين أكدت أن تلك الانتهاكات هي السبب الرئيس وراء عدم عودة اللاجئين بل وتوليد المزيد منهم أشارت إلى غياب أي أفق لإيقافها أو محاسبة المتورطين فيها، وعلى رأسها قوات النظام السوري.
وكانت السلطات اللبنانية اعتمدت خلال الأشهر الماضية "سلسلة من السياسات التقييدية المصممة للضغط على اللاجئين للعودة إلى سوريا"، بحسب منظمة "العفو الدولية".
وتبع ذلك اتجاهها إلى إطلاق "حملة عودة طوعية" استهدفت في آخر فصولها أكثر من 330 شخصا تم تنسيق إعادتهم إلى مناطق سيطرة النظام السوري عبر المعابر البرية.
المنظمة ذاتها اعتبرت أن "السلطات اللبنانية بتسهيلها عمليات العودة تلك تتعمد تعريض اللاجئين السوريين لخطر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان".
وقبل ذلك بأشهر أشارت مع منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى سياسات مشابهة كانت الحكومة التركية قد اتبعتها بحق مئات اللاجئين السوريين، حيث تم إعادتهم "قسرا" إلى شمال سوريا.
ويتركز في تركيا ولبنان أكبر تجمع للاجئين السوريين في العالم، بتواجد زهاء خمسة ملايين سوري فيهما.
ويعيش هؤلاء "في ظل هشاشة قانونية وفعلية كبيرة"، بحسب بيان نشره "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير"، يوم الخميس.
فمن ناحية ووفقا لبيان المركز يرفض هذان البلدان (لبنان، تركيا) منح صفة اللاجئين للمواطنين السوريين ويحجمان دور مفوضية اللاجئين تجاههم وتظل الأطر القانونية التي وضعاها للتعامل معهم قاصرة إلى حد كبير.
كما تشرع تلك الأطر للتجاوز على الحقوق الأساسية للاجئين، وتخرق اللالتزامات الدولية لهذين البلدين ونظمها القانونية الداخلية.
ومن ناحية أخرى يواجه اللاجئون "حملات كراهية وممارسات عنصرية تجاوزت مجرد الظواهر الاجتماعية، لتتجسد في سوء المعاملة الذي يلقونه من الدوائر الرسمية".
وتهدف تلك الممارسات فعليا بحسب تصريحات مسؤولين البلدين إلى وضع السوريين "تحت ضغط لا يقاوم ولا يترك لهم خيارا آخرا غير العودة إلى سوريا رغم الأحداق المحدقة بهم فيها"، وفق "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير".
ويعتبر الكاتب والناشط السياسي السوري، حسن النيفي، أن قضية اللاجئين السوريين تكتسي "خصوصية نوعية" من جهة سيرورتها الدرامية التي جعلت منها مأساة إنسانية تطال ثلثي الشعب السوري، ما بين لاجئ خارج حدود البلاد، ونازح داخل المخيمات سواء في الشمال أو الشرق من سوريا.
ورغم أن ظروف الحرب دفعت الكثيرين إلى مغادرة البلاد السورية باتجاه بلدان الجوار وأوروبا يقول النيفي لموقع "الحرة" إنه "ثمة سياسة ممنهجة مارسها نظام الأسد بغية التخلّص من حواضن الثورة، وفقا لنظرية التجانس التي أعلن عن تبنّيها رأس النظام أكثر من مرة".
وبناء عليه كانت الحرب التي شنها النظام على المدن والبلدات السورية، والتي غالبا ما كانت تنتهي بتهجير جماعي، و"هذه بحد ذاتها جريمة إنسانية كبرى تنص على تجريمها معظم القوانين الدولية"، حسب الكاتب السوري.
ويجب التمييز بين شرائح كثيرة للاجئين السوريين، وفقا للبلد الذي هاجروا إليه، وذلك من جهة طبيعة المعاملة التي يواجهونها.
"اللاجئون السوريون في بلد كلبنان يواجهون معاملة سيئة محفوفة بكافة أشكال التضييق، وربما انتهت في أحوال كثيرة إلى إعادتهم لنظام الأسد"، كما يضيف النيفي.
أما في الأردن وتركيا فلا يختلف منهج المعاملة من حيث عدم استناده إلى القوانين التي تحفظ حق اللاجئين، ولكن الاختلاف يبقى في "درجة التضييق وليس في المبدأ".
ويتابع النيفي أن "اللاجئون السوريون في أوروبا وحدهم قد حصلوا على حق وحماية اللاجئي بفعل القوانين النافذة، وعدم السياسات الأوربية للقوانين الإنسانية التي تحمي اللاجئين".
ومن جهته يشير الحقوقي السوري ومدير "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير"، مازن درويش، إلى أن حالة القلق التي تساور المنظمات الحقوقية المعنية بشأن وضع اللاجئين لا تنسحب على أولئك المقيمين في تركيا أو لبنان بل حتى المتواجدين في البلدان الأوروبية، ولاسيما مع تصاعد وتتضاعف موجة اليمين.
ويقول لموقع "الحرة": "قلقنا ليس رفاهية بل موضوعي وعملياتي".
وترتبط أسبابه على نحو خاص ومحدد بعمليات "الإعادة القسرية" التي باتت تتم بشكل يومي ومطرد بازدياد.
وبحسب توثيقات المركز الحقوقي الذي يديره درويش تعرض أشخاص كثر لمخاطر بعد عملية إعادتهم إلى مناطق سيطرة النظام السوري.
ويقول الحقوقي السوري إن "لديهم أرقام لأشخاص تعرضوا لإخفاء قسري واعتقال وتعذيب"، وأخبار عن أشخاص فقدوا حياتهم بعد أن تمت إعادتهم "قسرا" إلى سلطة النظام السوري.
علاوة على ما سبق، وفيما يتعلق باللاجئين الموجودين حتى الآن في البلاد التي تتبع ضدهم سياسات تقييدية يوضح درويش أنهم "يتعرضون لكل أشكال الضغط الاقتصادي وحملات الكراهية".
ويضيف أنه "يتم تحميلهم كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي إلى مزيد من القهر والظلم حتى لو لم تشملهم حملات الإعادة".
ورغم مرور 13 عاما على الحرب في سوريا ماتزال المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري تحكمها سياسة أمنية "متوحشة" بحسب تقارير منظمات حقوقية سورية ودولية.
وفي غضون ذلك لم يقدم النظام السوري حتى الآن أي خطوة على صعيد المعتقلين في سجونه، والكشف عن مصير المختفين قسريا المقدرة أعدادهم بمئات الآلاف.
ويوضح مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فضل عبد الغني أن "العائق الأكبر لعودة اللاجئين السوريين هو الوضع الأمني المتوحش، الذي تمارسه أجهزة النظام السوري".
ويقول لموقع "الحرة": "استراتيجية النظام كما قال للدول العربية: أعطونا أموال لكي نعيد اللاجئين، وكأن الذي تدمّر في سوريا لم يكن بفعل جيش النظام والبراميل التي ألقاها على المدن بعد محاصرتها"، حسب تعبيره.
ويرى الكاتب السوري النيفي أن قضية اللاجئين "باتت إحدى الأوراق التي يمسك بها نظام الأسد ويحاول استثمارها بهدف المزيد من ابتزاز الدول من جهة".
ومن جهة أخرى يستخدمها "للحصول على النسبة العظمى من المساعدات الإنسانية التي تدفع بها الدول، وتوظيفها بالطريقة التي تخدم مصالحه الأمنية والاقتصادية"، بحسب الكاتب السوري.
ويشير الحقوقي السوري درويش إلى أن "عمليات التهجير التي حصلت على مدى السنوات الماضية في سوريا كانت ممنهجة من جانب النظام السوري، ولم تتم على هامش الأعمال العسكرية".
وبالتالي لا يعتقد أن "النظام السوري لديه الرغبة الحقيقة بعودة اللاجئين".
ويضيف درويش أن "تهجير السوريين للخارج هو جزء من إعادة الهندسة الديمغرافية التي تحدث عنها مسؤولو النظام لأكثر من مرة وبشكل علني".
ويتابع: "النظام من ناحية يمارس لعبة الابتزاز بخصوص ملفهم، وفي المقابل هو حريص على عدم عودتهم".
على مدى السنوات الماضية كان ملف اللاجئين في تركيا صلب حديث السياسيين وعندما كانوا يشيرون إلى آخر تطورات التواصل الاستخباراتي والدبلوماسي مع نظام الأسد، برعاية روسية وإيرانية.
وفي لبنان أقحم المسؤولون هناك ذات الملف في أثناء زيارتهم إلى دمشق أو خلال تصريحاتهم التي كانوا يقدمونها لمحطات التلفزة وعبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
ورغم أن الأضواء دائما ما تتسلط على دول الجوار وما يتعرض له اللاجئون هناك يشير الحقوقيون إلى أن "عدوى التضييق" لم يعد لها حدود.
ويعتبر الحقوقي درويش أن "اللاجئين تحولوا في الوقت الحالي إلى كارت سياسي وساحة للابتزاز الدولي".
ويوضح أنه "حتى في الديمقراطيات الأوروبية نرى كيف يتم استخدام ملف اللاجئين ككارت سياسي بين الخصوم السياسيين، مما يجعلهم مكسر عصا وخاصرة رخوة داخل المجتمعات التي يتواجدون فيها".
درويش يشير في سياق متصل إلى "مصادقة الاتحاد الأوروبي على قانون الهجرة الجديد، والذي يحول اللاجئين لمجرمين حتى يثبت العكس" وإلى الإجراء الأخير الذي اتخذته المملكة المتحدة بعملية نقل اللاجئين إلى دولة ثالثة.
ويرى أن لكلا الحالتين "تبعات خطيرة"، وأن الأمور تخطت حد "الإجراءات الإدارية والسياسيات الإعلانية".
وبدوره الكاتب والناشط السياسي النيفي أن "قضية اللاجئين اكتست تعقيدها من جهة طغيان السياسات على القوانين".
وفي حين يقول إنها "باتت تخضع بشكل مباشر للتفاهمات والمصالح السياسية، ولا تخضع للمرجعيات القانونية والإنسانية" يعتقد أنه "وفي ظل غياب حل سياسي عادل وشامل للقضية السورية سوف تبقى قضية اللاجئين تزداد مأسوية وتعقيدا".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: اللاجئون السوریون اللاجئین السوریین للاجئین السوریین قضیة اللاجئین النظام السوری السوریون فی فی ترکیا فی سوریا أکثر من من جانب من جهة
إقرأ أيضاً:
حين تعيد الصين تشكيل النظام العالمي
ترجمة - نهى مصطفى -
في أوائل فبراير، وبينما كان على متن طائرته الرئاسية محلقًا فوق المسطح المائي الذي أعاد تسميته حديثًا بـ«خليج أمريكا»، أعلن الرئيس دونالد ترامب عزمه فرض رسوم جمركية على جميع واردات الصلب والألمنيوم. وبعد أسبوعين، أصدر مذكرة رئاسية تتضمن إرشادات جديدة لفحص استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة واستثمارات الشركات الأمريكية في الصين. طوال الأسابيع الأولى من إدارته، شدد ترامب على ضرورة إعادة التصنيع إلى الداخل، مؤكدًا أن الطريقة الوحيدة لتجنب الرسوم الجمركية هي تصنيع المنتجات داخل الولايات المتحدة.
مع فرض الرسوم الجمركية، والحمائية، وقيود الاستثمار، والتدابير المصممة لتعزيز الإنتاج المحلي، بدت السياسة الاقتصادية لواشنطن فجأةً أقرب إلى نهج بكين خلال العقد الماضي، وكأنها «السياسة صينية، ولكن بطابع أمريكي». لطالما قامت استراتيجية الولايات المتحدة تجاه الصين على افتراض أنه كلما اندمجت الصين في النظام العالمي القائم على القواعد، زادت احتمالية أن تصبح أشبه بالولايات المتحدة. على مدى عقود، لم تتوقف واشنطن عن مطالبة بكين بالتخلي عن الحمائية، وفتح أسواقها أمام الاستثمار الأجنبي، والحد من استخدام الدعم الحكومي والسياسات الصناعية، لكن نجاحها في ذلك كان محدودًا. ومع ذلك، كان التوقع السائد أن يؤدي هذا التكامل إلى تقارب بين البلدين.
حدث تقارب، لكن ليس كما توقعه صانعو السياسات الأمريكيون. بدلًا من أن تصبح الصين أشبه بالولايات المتحدة، بدأت واشنطن تتصرف بأسلوب بكين. قد تكون أمريكا صاغت النظام الليبرالي القائم على القواعد، لكن الصين رسمت ملامح مرحلته التالية: الحمائية، الدعم الحكومي، وقيود الاستثمار الأجنبي، والسياسات الصناعية. لم يعد النظام الاقتصادي العالمي كما أنشأته واشنطن، بل بات أقرب إلى رأسمالية الدولة القومية الصينية.
في التسعينيات وبداية الألفية، بدا أن الصين تتجه نحو التحرر الاقتصادي. منذ أواخر السبعينيات، انفتحت على الاستثمار الأجنبي، وأعادت هيكلة الشركات الحكومية، وسرّحت عشرات الملايين من العمال، مما مهد لانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية. اعتقد البعض أن هذا الانفتاح سيؤدي إلى تحرر سياسي، لكن هذا الافتراض كان خاطئًا. لم تُظهر بكين أي نية للإصلاح السياسي، ومع ذلك، كان تقدمها الاقتصادي مذهلًا:
• الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 347.77 مليار دولار عام 1989 إلى 1.66 تريليون دولار عام 2003، ثم قفز إلى 17.79 تريليون دولار عام 2023 (البنك الدولي).
• ساهمت العولمة في انتشال أكثر من مليار شخص من الفقر، لكنه تقدم لم يُوزع بالتساوي، إذ دفع بعض العمال في الدول الصناعية ثمن صعود الآخرين.
مع تولي هو جين تاو ثم شي جين بينج، أصبح واضحًا أن مسار الصين الاقتصادي لم يكن خطيًا، ففي عهد هو، زاد تدخل الدولة عبر دعم «أبطال وطنيين» في القطاعات الاستراتيجية بدلًا من مواصلة تحرير السوق، بينما أدى تدفق الواردات الصينية الرخيصة إلى تسريع إزالة التصنيع في الولايات المتحدة، مما جعل الصين مركز التصنيع العالمي، متجاوزة اليابان وألمانيا، حيث ارتفعت حصتها من القيمة المضافة للتصنيع عالميًا من 9% عام 2004 إلى 29% بحلول 2023 وفقًا للبنك الدولي. واصلت واشنطن الضغط على بكين لإصلاح اقتصادها، مطالبةً بفتح الأسواق، وخفض الرسوم الجمركية، والسماح بالاستثمار الأمريكي الحر دون نقل التكنولوجيا قسريًا، كما دعت لإنهاء الدعم الحكومي الصيني للإنتاج والتصدير، لكن هذه المطالب قوبلت بتجاهل. وفي عام 2009، قادت إدارة أوباما جهود إنهاء جولة الدوحة بسبب مخاوف من منح الصين مكانة دائمة كدولة نامية، مما يمنحها امتيازات تجارية دون التزامات صارمة، ورغم الانتقادات، كان واضحًا أن الممارسات الاقتصادية الصينية ستؤدي إلى اضطرابات في النظام التجاري العالمي.
دفعت المخاوف من السياسات الاقتصادية الصينية إدارة أوباما إلى السعي وراء اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، التي ضمت 12 دولة والتزمت بحماية حقوق العمال والبيئة، والحد من الدعم الحكومي، وفرض قيود على الشركات المملوكة للدولة، وحماية الملكية الفكرية، لكن بحلول 2015، أصبحت الاتفاقيات التجارية مثار جدل داخلي، مما أدى إلى انسحاب الولايات المتحدة.
ومع تولي شي جين بينج السلطة عام 2012، أنهى فعليًا مرحلة «الإصلاح والانفتاح»، وركز على الهيمنة على التقنيات الحيوية، والإفراط في الإنتاج، والاعتماد على النمو القائم على التصدير، ووفقًا للخبير براد سيتسر، أصبحت صادرات الصين تنمو بمعدل يفوق التجارة العالمية بثلاثة أضعاف. وفي قطاع السيارات، تنتج الصين ثلثي الطلب العالمي، كما تستحوذ على أكثر من نصف الإنتاج العالمي من الفولاذ والألمنيوم والسفن.
وواجهت الشركات الأمريكية في الصين سياسات عدائية مثل سرقة الملكية الفكرية، وإجبارها على نقل التكنولوجيا، وتقييد وصولها إلى السوق لصالح الشركات المحلية، ومع غياب المعاملة بالمثل، تدهورت العلاقات، وتصاعدت المواقف الأمريكية والأوروبية المناهضة لبكين. وبعد فشل واشنطن في إقناع الصين بتعديل سياساتها أو إنشاء كتلة تجارية بديلة، لجأت إلى تبني النهج نفسه، فرفع ترامب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية من 3% إلى 19% خلال ولايته الأولى، مما أثر على ثلثي الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، وحافظ بايدن على الرسوم وأضاف أخرى على معدات الحماية الشخصية والمركبات الكهربائية والبطاريات والصلب. ثم فرض ترامب في ولايته الثانية رسومًا إضافية بنسبة 20% على جميع الواردات الصينية، متجاوزًا قراراته السابقة وإجراءات بايدن مجتمعة، كما شددت الولايات المتحدة قيود الاستثمار، فانخفض الاستثمار الصيني السنوي في أمريكا من 46 مليار دولار عام 2016 إلى أقل من 5 مليارات عام 2022.
وفي تحول آخر، تبنت سياسات دعم صناعي مشابهة للصين خلال إدارة بايدن، حيث خصصت 1.6 تريليون دولار عبر حزم تحفيزية مثل قانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف لعام 2021، وقانون CHIPS والعلوم لعام 2022، وقانون خفض التضخم لعام 2022. وإذا واصلت الولايات المتحدة تبني النهج الصيني، فقد تلجأ إلى إلزام الشركات الصينية المستثمرة بالخارج بإقامة مشاريع مشتركة مع الشركات المحلية ونقل التكنولوجيا إليها. مما قد يعزز الصناعة الأمريكية واقتصادات الدول المتضررة من الإنتاج الصيني الفائض، مثل الدول الأوروبية، ويعد قطاع الطاقة النظيفة مثالًا واضحًا على ذلك، حيث تهيمن الصين على 60% من مبيعات السيارات الكهربائية عالميًا بفضل إنتاج أرخص وأفضل جودة من نظيراتها الأمريكية.
ومع أن السيارات الصينية محظورة تقريبًا في أمريكا بسبب الرسوم الجمركية والقيود التنظيمية، إلا أن أوروبا تواجه توسعًا صينيًا متزايدًا، إذ ارتفعت حصة السيارات الكهربائية الصينية في السوق الأوروبية من 0% عام 2019 إلى 11% بحلول يونيو 2024، وقد فرض الاتحاد الأوروبي رسومًا جمركية أواخر 2023 لإبطاء التوسع الصيني. لكن ذلك ليس حلًا كافيًا لحماية صناعة السيارات الأوروبية، وللحفاظ على الوظائف والتصنيع، تبدو أوروبا مستعدة لقبول الاستثمارات الصينية في إنتاج السيارات الكهربائية، لكن مستقبل السياسة الأمريكية لا يزال غير واضح. بينما قد تضطر أوروبا إلى تبني استراتيجية الصين، بفرض مشاريع مشتركة ونقل التكنولوجيا، لتجنب أن تصبح مجرد محطة تجميع للسيارات الصينية.
لا يزال الجدل قائمًا حول مدى نجاح سياسة بايدن الصناعية خارج بعض القطاعات الرئيسية. صحيح أن الاستثمار الأمريكي في التصنيع شهد ارتفاعًا، لكن النتائج ليست حاسمة بعد. وكما أشار الاقتصادي جيسون فورمان في الشؤون الخارجية مطلع هذا العام، فإن نسبة القوى العاملة في التصنيع تواصل الانخفاض، ولم تشهد أي ارتفاع ملحوظ، كما ظل إجمالي الإنتاج الصناعي المحلي راكدًا. ويعود ذلك جزئيًا إلى تأثير السياسات المالية التي دفعت إلى ارتفاع التكاليف، وقوة الدولار، وزيادة أسعار الفائدة، مما شكل رياحًا معاكسة لقطاعات التصنيع غير المشمولة بالدعم الحكومي.
بغض النظر عن نتيجة هذا النقاش، هناك أمر واحد مؤكد: حتى في القطاعات التي تلقت دعمًا حكوميًا، مثل أشباه الموصلات والطاقة الخضراء، فإن استعادة القيادة العالمية ستظل طريقًا طويلًا ومليئًا بالتحديات. تعتمد الولايات المتحدة الآن على سياسات الحماية التجارية، ولكن من المحتمل أن تؤدي هذه السياسات إلى ارتفاع التضخم، وزيادة تكاليف المعيشة، وفقدان الوظائف في القطاعات المتضررة من ردود الفعل الانتقامية من الدول الأخرى.
يعتمد ترامب على فكرة أن جدار التعريفات الجمركية، إلى جانب حالة عدم اليقين بشأن فرضها أو إلغائها في أي لحظة، سيدفع الشركات إلى نقل إنتاجها إلى الولايات المتحدة، حيث يمكنها التأكد من عدم تعرض سلعها لهذه التعريفات. لكن في الواقع، تفضل الشركات بيئات سياسية مستقرة وقابلة للتنبؤ، لا أنظمة تعريفات متقلبة قد تتغير من صباح إلى مساء. ومن المرجح أن تؤجل الكثير من الشركات قراراتها الاستثمارية، منتظرة وضوح الصورة بشأن التعريفات التي ستُطبق، وعلى أي دول؟ وإلى متى؟
تشير الدراسات إلى أن فعالية الرسوم الجمركية في تعزيز قطاع التصنيع الأمريكي ليست حاسمة، إذ لم تحقق سياسات ترامب الجمركية منذ 2018 الأهداف المرجوة. فقد وجدت دراسة أجراها باحثا الاحتياطي الفيدرالي، آرون فلاين وجاستن بيرس عام 2024، أن زيادة الرسوم ارتبطت بانخفاض القوى العاملة في قطاع التصنيع الأمريكي وارتفاع أسعار المنتجين، كما أدت إلى فقدان 75 ألف وظيفة مباشرة، فضلًا عن خسائر غير مباشرة بسبب الرسوم الانتقامية التي فرضتها الدول الأخرى. وفي قطاع الصلب، أظهرت دراسة للخبيرين بن ستيل وإليزابيث هاردينج أن الإنتاجية تراجعت بعد فرض ترامب رسومًا بنسبة 25% على واردات الصلب في مارس 2018، حيث انخفض الإنتاج في الساعة بصناعة الصلب الأمريكية بنسبة 32% منذ عام 2017، في حين شهدت قطاعات صناعية أخرى زيادات في الإنتاجية. ورغم أن ترامب يعوّل على هذه السياسات لإعادة الإنتاج إلى الولايات المتحدة، فإن نجاح هذا النهج يعتمد أيضًا على السماح للشركات الأجنبية بالاستثمار في السوق الأمريكي، وهو ما يتناقض مع المواقف السياسية لكل من بايدن وترامب، اللذين رفضا استحواذ شركة نيبون ستيل اليابانية على يو إس ستيل، بل وما زالت واشنطن تناقش ما إذا كان ينبغي السماح لصندوق الاستثمارات العامة السعودي بالاستحواذ على حصة مسيطرة في جولة بي جي إيه، وهي الجهة المنظمة لبطولات الجولف الأمريكية، رغم أن هذا القطاع ليس حيويًا بأي حال من الأحوال.
ما يحدث اليوم ليس مجرد منافسة اقتصادية، بل تحول في النموذج الاقتصادي الأمريكي نفسه. فمع نجاح الصين غير المتوقع في قطاع السيارات الكهربائية والتكنولوجيا النظيفة، اضطرت الولايات المتحدة إلى تقليد سياسات بكين، لا بسبب الإيمان بأهميتها، بل بسبب فعاليتها الواضحة. لم يكن صعود الصين قائمًا على تحرير السوق، بل على تدخل الدولة في الاقتصاد لتحقيق أهداف قومية. واليوم، تتحرك الولايات المتحدة نحو نموذج يشبه إلى حد كبير «رأسمالية الدولة القومية»، التي تتسم بالحمائية، وقيود الاستثمار الأجنبي، والدعم الحكومي، وسياسات صناعية موجهة. في صراع تحديد قواعد اللعبة الاقتصادية، يبدو أن المعركة قد حُسمت لصالح الصين، على الأقل في الوقت الراهن.
مايكل ب. ج. فرومان، محامٍ أمريكي، والرئيس الحالي لمجلس العلاقات الخارجية.
نشر المقال في Foreign Affairs