تنسيقية القوى الديموقراطية و المدنية: الواقع و التحديات
تاريخ النشر: 20th, June 2024 GMT
بقلم: د. محمد حمد مفرح
من الحقائق البدهية التي لا يرقى إليها الشك بل تكاد أن تكون محل اجماع المفكرين و المحللين السياسيين و المهتمين بالشان السياسي السوداني، أن نظام الحكم الديموقراطي Democratic Rule يعد، اكثر من غيره، النظام الأمثل لحكم السودان. و ليس أدل على ذلك من ان سائر المحللين السياسيين و الكتاب الذين ظلوا يتناولون الشأن السياسي السوداني في كتاباتهم محاولين تشريح الازمة السياسية السودانية المتطاولة و منقبين عن نظام حكم يخاطب قضايا الواقع بالبلاد، قد اجمعوا على افضلية النظام الديموقراطي.
و تبعا لذلك فان التعريفات المختلفة للديموقراطية و التي يعبر عنها، بمفهوم اكثر دقة و موضوعية، التعريف الذي يقول ان الديموقراطية هي (حكم الشعب بالشعب و للشعب) تعزز، أي هذه التعريفات، حقيقة افضلية هذا النظام. و لذلك يمكن التعويل على امكانية نقله بلادنا الى افاق حضارية ارحب تضعها على عتبات النهضة الشاملة. غني عن القول ان التحولات المفصلية الايجابية الكبيرة التي حدثت في حياة العديد من الدول التي طبقت النظام الديموقراطي ناقلة تلك الدول الى فضاءات التطور و النماء، تعد اكبر شاهد على ان الديموقراطية تمثل المعادل الموضوعي للتطور و النهضة الحقيقية. و من الامثلة الساطعة على ذلك دول أوروبا الغربية التي حققت قفزات حضارية ضخمة بدءا من كسر حاجز التخلف مرورا بالثورة الصناعيةlndustrial Revolution و عصر النهضة حتى بلوغ عصر ثورة المعلومات و الاتصالات الحالي. و تستمر هذه الدول في سيرورة التطور العام بخطى متسارعة و وتيرة متصاعدة. و ينسحب هذا الحال على امريكا و العديد من دول العالم شرقا و غربا.
من جهة اخرى، و تأسيسا على حقيقة أن تجارب الحكم الديموقراطي بالسودان تمثل، في مجملها، تراكم خبرات يعتد بها على صعيد اثراء التجربة الديموقراطية بالبلاد، برغم قصر هذه التجارب و ما اعتورها من معوقات و متاربس، تاسيسا على هذه الحقيقة فمن الأجدى ان تستثمر هذه التجارب في رفد عملية التحول الديموقراطي المستهدفة، بكل ما يعمل على تطويرها و ترسيخها. و ليس ثمة ادنى شك في ان استثمار هذه التجارب و البناء عليها يمثل إضافة ثرة للتجربة الديموقراطية المرتقبة التي يتطلع إليها دعاة الديموقراطية و الداعمين لها. ذلك ان هذه التجارب تمثل (ادبا سياسيا) Political Literature منتجا على الصعيد النظري و العملي،و ذلك باعتبار انها مرت بمراحل التمارين الديموقراطية و النضج النسبي لتجارب الحكم الديموقراطي المختلفة و الممارسات السياسية، بايجابياتها و سلبياتها. و بالقطع يتوافر هذا الأدب السياسي في تجارب العديد من الاحزاب و بالذات الاحزاب الكبيرة كحزب الأمة القومي و الحزب الاتحادي الديموقراطي و غيرهما.
من جانب اخر يمكن الاستفادة من الأدب السياسي الغزير و العبقري لبعض المفكرين السياسيين امثال الامام الصادق المهدي و الدكتور فضل الله علي فضل الله الوزير السابق و استاذ الادارة و العلوم السياسية، عليهما الرحمة، و غيرهما فضلا عن بعض السياسيين النابهين ذوي الافق الفكري الواسع امثال الاستاذ محمد احمد المحجوب و مبارك زروق و على محمود حسنين عليهم الرحمة. هذا علاوة على الكتاب الذين لهم اسهامات كبيرة في مجال الفكر و التحليل السياسي.
من جانب اخر، و تاسيسا على ان تنسيقية القوى الديموقراطية و المدنية (تقدم) و التي تعد كيانا مدنيا جامع لطيف واسع من القوى المدنية و المجتمعية تمثل راس الرمح في عملية التحول الديموقراطي المرتجى، فان من المؤمل أن تمضي في حراكها الذي بدأته مؤخرا، بكل همة و فاعلية مع ضرورة استمرارية زخم نشاطها على نحو هادف و ملم بمطلوبات المرحلة. ذلك ان (تقدم)، و برغم جهودها المقدرة فيما يلي التركيز على البناء التنظيمي الضروري من أجل البروز كجسم مدني فاعل في الساحة، يهدف الى رسم معالم التحول الديموقراطي، و فيما يلي حراكها الساعي الى إيقاف الحرب و معالجة كافة تداعياتها، برغم ذلك فانها تحتاج، في رأيي الى تطوير حقيقي مؤهل لمخاطبة التحديات الماثلة، مع القيام باختراقات مبدعة من اجل النهوض بنشاطها. و يتطلب هذا الامر،دون ريب، قيام (تقدم) برسم خارطة طريق هادفة و منتجة تروم هزيمة التحديات المشار إليها. و تتمثل هذه التحديات في الاتي:
-البيئة السياسية الداخلية غير المواتية المتمثلة في أعداء الديموقراطية و خاصة بعض الأحزاب التي تمثل متاريس في طريق الديموقراطية حيث ترى فيها معوقا اساسيا لمصالحها.
-البيئة السياسية الخارجية المتمثلة في بعض القوى الاقليمية و الدولية المؤثرة التي تقف حجر عثرة في طريق الديموقراطية و تنشط في اجهاض مساعي التحول الديموقراطي على نحو او اخر.
-ارتفاع نسبة الامية الأبجدية في السودان مع وجود أمية حضارية تتمثل في تفشي انعدام الوعي في اوساط الطبقة المتعلمة، و من ذلك عدم معرفة الحقوق و الواجبات الفردية و الجماعية.
-الواقع غير المواتي الذي خلفه نظام الانقاذ في اوساط المجتمع السوداني و الذي تسبب في تفشي الفكر غير الديموقراطي عبر شيطنة رموز الديموقراطية شخوصا و كيانات.
-تغلغل كوادر نظام الانقاذ و الداعمين له في مفاصل الدولة و امساكهم بمقاليد الأمور فيها مع تاثيرهم السالب الكبير في تعويق كل ما من شأنه ان يقود الى ممارسة سياسية منتجة تتماهى مع مصلحة الوطن.
-التباس (مفهوم الدولة) في اذهان بعض الكوادر السياسية الفاعلة و عجزهم عن فصل المصلحة الشخصية و الحزبية عن المصلحة الوطنية.
-انتفاء الوازع الأخلاقي و الديني في السلوك السياسي و الاداء لدى عدد مقدر من السياسيين و الموظفين في الخدمة العامة.
لذا، و بناء على ان هذه التحديات تمثل بحق معوقات حقيقية ذات تاثير سالب على عملية التحول الديموقراطي المرتجاة، يتعين على (تقدم) النأي عن الحلول التقليدية و القيام، بدلا عن ذلك، باحداث اختراق ملموس Concrete breakthrough من اجل تأهيل نفسها تنظيميا و فكريا و سياسيا و ذلك بهدف مواجهة التحديات سالفة الاستعراض و من ثم تعبيد الطريق للتحول الديموقراطي. غني عن القول ان هذا التأهيل و الذي يعد ضرورة قصوى و احد مقتضيات فاعلية (تقدم) المرجوة يتمثل في أهمية رفدها بعناصر و شخصيات نوعية: وطنية و مبدعة فكريا و سياسيا و زاهدة في المنصب و المصلحة الذاتية، لتكون بمثابة خزانة فكر لها Think Tank.
ثمة مسألة أخرى تعد غاية في الأهمية يقتضيها توسيع ماعون (تقدم) و تحقيق فاعليتها مع استمرارية زخمها، الا و هي الانفتاح على كل القوى الحزبية و المدنية و المجتمعية ذات التوجه الديموقراطي، و التي لا تعد جزءا من (تقدم). علاوة على ذلك فان هنالك حاجة ماسة لمرونة (تقدم) و تقبلها النقد البناء و الاصلاح فضلا عن القيام بالتطوير الدوري المبني على مراجعة الاداء.
و كذلك يجب عليها مواجهة التهم الجزافية التي ظلت تلصق بها زورا و بهتانا من قبل اعداء الديموقراطية، و كذا حملات تغبيش الوعي و الشيطنة الممنهجة التي يقومون بها. عليها ان تكثف اعلامها من اجل نفي كل التهم و حملات الشيطنة التي لا تمت الى الحقيقة بصلة كتهمة انها حاضنة للدعم السريع او ظلت تغض الطرف عن انتهاكاته و ما شابه ذلك. كما ان عليها إدراك ان الحملات الإعلامية المسعورة الموجهة ضدها تحتاج الى اعلام مضاد، قوي و مواكب يعمل على ابانة الحقائق و كشف الزيف.
صفوة القول انه، و لكي يتم توفير الضمانات اللازمة Required guarantees للتحول الديموقراطي المنشود، فان الضرورة تقتضي حرص (تقدم) على حصر اوجه قصورها و ايجابياتها من اجل تلافي القصور و تعظيم الايجابيات سعيا وراء بروزها ككيان قوي و فاعل، يمتلك القدرة على هزيمة التحديات و مواكبة التطورات و صنع الاحداث المنتجة.
mohammedhamad11960@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه التجارب من اجل
إقرأ أيضاً:
بين الوحدة والانقسام: موقف بعض قيادات “تقدم” من حكومة سلام ووحدة مقرها الخرطوم
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
تناقلت الأسافير تهديدًا نُسب إلى بعض قيادات “تقدم”، مفاده أنهم يعتزمون فك الارتباط عن المجموعة التي قررت تشكيل حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع. إلا أن الخبر لم يحمل تفاصيل كافية، بل اكتفى بنشر صور بعض القيادات المعروفة للحركة مع النبأ المقتضب.
بطبيعة الحال، يمكن للأسافير أيضًا أن تنشر أخبارًا وصورًا لمختلف القيادات المكونة لـ”تقدم”، خاصة أولئك الذين ينادون بوقف الحرب وتأسيس حكومة سلام ووحدة، تسعى لنزع الشرعية عن سلطة الأمر الواقع القابعة في بورتسودان. كما يمكن لهذه المنصات أن تجري مقارنات عددية وديموغرافية بين الفصيلين داخل “تقدم”، متناسية النقاشات والقرارات التي تمخض عنها الاجتماع التأسيسي الثاني للحركة، الذي عُقد في عنتيبي، أوغندا، في ديسمبر ٢٠٢٤، حيث تم الاتفاق على أن تُحسم مثل هذه القضايا الأساسية بالتوافق.
لم يكن لهذا الاجتماع التأسيسي الثاني أن يُقر مبدأ التوافق إلا لضمان وحدة “تقدم” ومنع أي محاولات للانقسام، ناهيك عن منح أي طرف حق إصدار “ورقة انفصال” أو “طلاق سياسي” للأطراف الأخرى.
**تقدم: التعددية والوحدة رغم الاختلاف**
عند التأمل في المشهد العام لـ”تقدم”، نجد أنها تمثل طيفًا سودانيًا متنوعًا، يسعى أصحابه إلى وحدة المصير رغم الاختلافات، ويتبنون نهجًا سلميًا لمعالجة التباينات في الرأي والمنهج.
كذلك، لا يغيب إلا على مغرض أو من هم في غيبوبة سياسية، أن دعاة الحكومة الشرعية يسعون إلى طرح بديل حقيقي لحكومة الانقلاب الكيزانية، التي ارتكبت الفظائع ضد المدنيين، من قتل الأطفال واغتصاب النساء إلى بقر بطون الحوامل، وحمل الرؤوس المقطوعة على فوهات البنادق. ولا يغيب على عاقل أو حادب أن دعاة حكومة السلام يرون أن الحل الوحيد للحفاظ على وحدة السودان يكمن في إعلان حكومة شرعية في المناطق التي يمكن لثمانية عشر مليون لاجئ ونازح العودة إليها، تحت حماية إقليمية ودولية.
• *إن حكومة كهذه لن تُقدِم على تغيير العملة لإرهاق سكان ١٢ أو ١٣ ولاية سودانيةودفعهم إلى الهجرة القسرية.
• *ولن تمنع طلاب السودان من أداء امتحانات الشهادة الثانوية.
• *ولن تلغي جوازات سفر الغالبية العظمى من المواطنين.
بل سيكون هدفها إعادة بناء البنية الاقتصادية والصناعية التي دمّرها سلاح الجو التابع للفلول، مستعينًا بسلاح الجو المصري. كما ستركز على إعادة إعمار الجسور والمستشفيات والجامعات التي استهدفتها الغارات الجوية، في محاولة لتحقيق حلم **دولة البحر والنهر**الانفصالية، أو إعادة إحياء مشروع **دولة وادي النيل**الاستعمارية، التي تسعى إلى ضم السودان تحت النفوذ الاستعماري المصري من جديد.
ولكن، هل يمكن تحقيق هذا المشروع دون إرادة السودانيين؟ وهل يمكن فرض واقع سياسي جديد دون توافق القوى الفاعلة في البلاد؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي تتجاهله بعض الأطراف المتحمسة لحلول غير واقعية، تتجاهل تعقيدات المشهد السوداني.
**بين التوافق والانقسام: المسار المستقبلي لـ”تقدم”**
إن جوهر الصراع داخل “تقدم” ليس مجرد انقسام بين تيارين، بل هو صراع بين رؤيتين:
• *رؤية تدعو إلى الحل السياسي السلمي، عبر إعادة بناء السودان وفق مشروع وطنيشامل يستند إلى التعددية والعدالة والتوزيع العادل للسلطة والثروة.
• *ورؤية أخرى تميل إلى الاصطفاف مع الأمر الواقع، إما بالانخراط في مشاريعسلطوية لا تعكس الإرادة الشعبية، أو بالانسياق وراء خطابات العنف والتقسيم، أوعبر تحقيق الرؤية الكيزانية التمكينية التي ترى السودان ليس وطناً لكلالسودانيين، بل ملكية خاصة للإسلاميين، حيثما كانوا.
لقد أكّد الاجتماع التأسيسي الثاني في عنتيبي أن “تقدم” ليست مجرد تحالف عابر، بل مشروع وطني يسعى إلى توحيد القوى الديمقراطية والمدنية خلف رؤية واضحة لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة. ومن هنا، فإن أي محاولات لإحداث انقسام داخلي أو فرض خيارات غير توافقية لن تؤدي إلا إلى إضعاف المشروع الوطني برمته.
**تحديات المرحلة المقبلة**
إن المشهد السوداني اليوم يواجه تحديات كبرى، تتطلب رؤية واضحة لمواجهتها، وأبرز هذه التحديات:
١- استمرار الحرب وآثارها المدمرة، حيث تسببت الصراعات المسلحة في تهجير الملايين وتدمير المدن والبنية التحتية.
٢- غياب سلطة مركزية شرعية، مما يفتح المجال أمام التدخلات الخارجية والمشاريع التي تسعى إلى إعادة رسم خريطة السودان وفق مصالح إقليمية ودولية.
٣- الانقسامات داخل القوى المدنية والمقاومة، مما يُضعف قدرتها على تشكيل بديل حقيقي يحظى بقبول محلي ودولي.
٤- التدخلات الأجنبية، التي تسعى إلى فرض حلول قد لا تتناسب مع طبيعة المجتمع السوداني وطموحات شعبه.
**ما العمل؟**
لمواجهة هذه التحديات، تحتاج القوى المدنية الديمقراطية داخل “تقدم” وخارجها إلى:
• *التمسك بوحدة الصف، وعدم السماح بأي محاولات لتمزيق الصفوف لصالحأجندات خارجية أو شخصية.
• *العمل على مشروع “الجمهورية الثانية”، كبديل لدولة ١٩٥٦، وهو مشروع وطنيشامل يعكس تطلعات السودانيين في إقامة دولة ديمقراطية عادلة، دون استثناءأو إقصاء؛ دولة قادرة على معالجة جراح التهميش والصراعات التي طغت علىسياسات البلاد منذ الاستقلال.
• *التواصل مع القوى الإقليمية والدولية، لتوضيح أن أي حل لا يأخذ في الاعتبارمصالح الشعب السوداني الحقيقية لن يكون قابلًا للاستمرار.
• *رفض أي تدخلات تهدف إلى فرض وصاية خارجية، سواء عبر دعم طرف معين فيالصراع، أو عبر مشاريع سياسية واستعمارية لا تحترم إرادة الشعوب السودانية.
**الخاتمة**
إن “تقدم”، بمختلف أطيافها، أمام مفترق طرق حاسم: إما أن تكون قوة موحدة تسعى إلى إعادة بناء السودان على أسس سليمة، أو أن تنجرّ إلى صراعات داخلية تُضعف موقفها وتمنح الفرصة لقوى الثورة المضادة لترسيخ سيطرتها.
المعركة اليوم ليست فقط حول تشكيل حكومة هنا أو هناك، بل هي معركة من أجل مستقبل السودان كدولة موحدة، ديمقراطية، ومستقلة عن أي نفوذ خارجي.
التاريخ لن يرحم أولئك الذين يضعون المصالح الضيقة فوق المصالح الوطنية، ولن يغفر لأولئك الذين يسعون إلى تقسيم السودان أو رهن قراره للخارج. الخيار الآن في يد السودانيين: إما السير في طريق الوحدة والسلام، أو الاستمرار في دوامة الانقسام والصراع.
نواصل
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
٢٩ يناير ٢٠٢٥ - روما، إيطاليا
ahmedsidahmed.contacts@gmail.com