إلى #فيروز قبل الرحيل
د. #حفظي_اشتية
سترحلين يا فيروز، أو نرحل نحن، وعسى أن تصل إليك كلماتي في حياتك وقبل مماتي، فالفراق محتوم، و #الموت قدر، ولكل بداية نهاية.
لكنّ ذكرك سيبقى طويلا طويلا، فلطالما أسعدتِ قلوبا، وأبكيتِ عيونا، وفجّرتِ حنينا، وصوّرتِ أحلاما، وأثرتِ شجونا، وبعثتِ آمالا، وضاعفتِ آلاما، ونكأتِ جروحا، وأوقدتِ غراما….
وفي خضمّ مرارة واقعنا، نجد قلوبنا أحيانا تفيق من سكرة الألم وتباريح الجوى، وقسوة الإحباط، وفيض الأسى، فتفرّ إلى هدأة صوتِك، وسحر كلماتِك، لعلنا نجد بعض سلوى أثيرة عزيزة المنال…..
ــ كم كنتِ وفية عندما كتبتِ اسم حبيبك على الحور العتيق!! وكم كان هو عابثا لاهيا عندما كتب اسمك على رمل الطريق!! بقي اسمه محفورا في ذاكرة الزمن، وداست الأقدام اسمك العظيم، ومحت رسمك الوسيم.
ــ أنتِ فريدة عصرك، لا ترضين بأقل من الحب الناضج الكامل الوفيّ الصادق، والموت عندك أهون من الخيانة:
” دقّتْ على صدري وقالت لي افتحه….تَ شوف قلبي إن كان بعده مطرحه….. وإن صحّ ظني وشفت له عندك رفاق….. بسترجعه وما بعود خليك تلمحه…. بسترجعه وبنسى ليالينا العتاق…. قلبي إن هجرتك يذبحه مرة الفراق…. وإن ظل عندك كل يوم بتذبحه….”
ما أروع الحب عندما يكون مسربلا بعزة النفس، سامي القيم، وافر الكرامة، عالي الهامة، رغم الجرح الغائر، وغدر الخناجر!!!
ــ وهذا حبٌ شفيف صادق صامت غريب…. تدور حكايته في مفرق “دارينا”…. إنه ينتظر على المفرق، ويكرر ذلك كثيرا، وهي تنتظر انتظاره، وتتحرق شوقا إليه، عيون تنقل لوعة الهوى، وألسنة صامتة، وقلوب تتلوى، ومشاعر تتعانق فتعتلي وترتقي لتلتقي فوق السحاب، والعذرية الملائكية تملأ الرحب، ويضوع عطر أنفاسها في المكان…. حبٌ غريب عجيب لا يعرف فيه الحبيب اسم الحبيب:
” نطّرونا كثير كثير عَ مفرق دارينا…. لا عرفنا أساميهم…. ولا عرفوا أسامينا…. عَ مفرق دارينا”.
أيّة روعة هذه؟! وأية قصة غرامية صامتة صادمة صادقة تحلّق بعيدا في فضاء أجنحة الخيال؟! أية قلوب سامية تحب مثل هذا الحب السامي؟! وأين هي من حب الجيوب الرخيص المزيف في هذا الزمان؟؟!
ــ تُرى ماذا فعل عصفور الجناين؟ أما زال يحمل لكِ الرسائل من عند الحناين؟ وينفض جناحيه على شباك الدار وهما يحملان لك أسرارا تحت طيّها أسرار؟ ها هو يومئ لك إلى الرمانة، ويرجوكِ زرقة على ورقة، ومَرْقة إلى مكان سكن العاشق الولهان…. وما هذه “الشيفرة” الساحرة التي تنقل رسائل العشق بينك وبين المحبوب؟؟! :
” كل ليلة عشية…. قنديلِك ضوّيه…. قوّي الضوّ شويّه…. وارجعي وطّيه…. بيعرفها علامة…. وبيصلي تَ تنامي…. وتقومي بالسلامة…. ويبقى قلبك لاين”.
أيّ طهر هذا؟! أيّ اكتفاء بهذا من وسائل الوصال المرغوبة؟! أيّ ارتقاء للعاطفة الدافقة المشبوبة؟!
ــ ما أخبار “شادي” يا فيروز؟ تربيتما معا، عشتما أحلام الطفولة، وتنعمتما بألعاب الثلج…. لكنّ الشر كان لأحلامكما بالمرصاد…. إنها الحرب الأهلية المجنونة التي عصفت بأرز لبنان…. إنها نيران كوتْ قلوب أبنائه:
” ويوم من الأيام ولعت الدني…. ناس ضد ناس علقوا بهالدني…. وصار القتال يقرّب عَ التلال والدني دني…. وعلقت عَ أطراف الوادي…. شادي ركض يتفرج، خفت وصرت أندهله…. وينك رايح يا شادي؟…. أندهله وما يسمعني….. ويبعد يبعد في الوادي…. ومن يومتها ما عدت شفته…. ضاااااااع شادي”.
ضاع شادي وغاص في فم الشرّ الفاغر الشّرِه…. ابتلعه وادي الذئاب الجائعة اللئيمة، إنه لبنان الهادئ الجميل الوديع تتناهشه قوى الطغيان، فيتشتت ويتمزق ويضيع. لكنّ الأحلام ظلت تداعب الخيال، والذكريات ندوب في القلوب، والعقول مسكونة بالحنين والآمال بهدأة البال.
ــ عمَّ نتحدث من أغانيكِ؟! وما ندعُ؟ وكلها قطع من السحر ورائع البيان. وكل أغنية منها حكاية من العشق الريفي الطفولي العفيف، وأسطورة من الوله، وانتفاضة قلب كعصفور بلله القطر. ماذا نقطف من أزهارك؟ وماذا نُبقي وكلها قوارير شذى رائعة الألوان؟! بل أنتِ زهرة فريدة سحرت عيوننا، وعبقت في قلوبنا ووجداننا، وملأت حياتنا صفاء ونقاء ورهبانية حالِيَة راقية محلّلة.
يا صاحبة القلب الذهبي؟ والحنجرة الهامسة المتغلغلة في الحنايا، يا عصيّة الابتسام، يا رفيعة الشأن، يا عالية المقام، يا رزينة الوقفة، يا مهيبة النظرة، يا أيتها البتول، يا نسمة رسول، يا همسة ليل، يا طاهرة الذيل، يا عذبة الكلام، يا دوحة الأنغام، يا باكورة الهوى، يا لذة الكرى، يا أفاويق الأحلام…. ملأتِ دنيانا، وملكتِ قلوبنا، وجعلتِنا نذوب أسى عندما نقارن بين فنّك الملتزم، وكثير من غثاء فنون هذه الأيام.
ــ يا رؤومة الأمومة، عشرات السنين وأنتِ تواظبين دون كلل أو ملل على خدمة ابنك الستيني المسكين “هَلي”، تخدمينه بدفق القلب، ورمش العين، ما جرى على لسانك تضجّر أو تذمّر أو أنين، وترفضين إيداعه المشفى اللائق به المناسب لحالته، وتصرّين على التمسك بأهداب الأمومة الصابرة الطاهرة النادرة.
ــ تحبين الزوج العاصي حبا جارفا بصمت دون استعراض، ثم تفارقينه وتنفصلين عنه، فيعتصر قلبك ألما ساميا دون اعتراض، وتظلين في الحالتين سرّا مكنونا، وبوحا مدفونا، وحنينا ساكنا مسكونا.
ــ يا صوت الضمير العربي النقي، نصدّق نبوءاتك، ونتخفف من أسانا، ونبعث الآمال مجددا في جوانحنا بأننا سنتسلق معك جبل الشيخ محررا، ونطوف بقاع الجنوب المحرر متجاوزين عذابات مجازر “قانا”، وآلام “سجن الخيام”، عابرين نحو إصبع الجليل والناقورة والمطلة وشمال فلسطين، وحيفا عروس المتوسط البكر، وعكا الجزّار لنسمع هدير بحرها على أسوارها الصامدة العابقة ببطولات صلاح الدين، وخليل قلاوون، وأنفاس عيسى العوّام.
أما زهرة المدائن التي طُفتِ في شوارعها العتيقة الحزينة، ودققتِ أبواب دكاكينها، وبكيتِ مساجدها وكنائسها وأطفالها المشردين، فقد وعدتِنا وصدّقنا بأنّ الغضب الساطع آتٍ، وأنّ الأحرار الفاتحين قادمون، لكنْ لا بدّ قبل ذلك من أنْ ننصهر في الموقد طويلا بالألم والصبر والإعداد وانتظار الوعد بالنصر.
إنه وعد الله، وهل يخلف الله الميعاد؟!
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: فيروز حفظي اشتية الموت
إقرأ أيضاً:
جبر الخواطر
د. ابراهيم بن سالم السيابي
في عالمنا اليوم، الذي تملؤه التحديات والمشاعر المتناقضة، تبقى هناك قيمة إنسانية غائبة أحيانًا عن الكثيرين، لكنها تبقى حية في قلوب من يدركون عمقها، "جَبر الخواطر" هي تلك اللمسة التي قد تغير مسار حياة الأشخاص، وتفتح لهم أبواب الأمل بعد أن كانوا يعتقدون ربما بأن كل الطرق كانت مسدودة أمامهم، هذه القيمة ليست مجرد كلمات، بل هي فعل يحمل في طياته الرحمة والمغفرة، وقد تصنع المعجزات، وقد تبدو كلمة جَبر الخواطر في ظاهرها بسيطة، لكنها في بعض المرات قد تحمل قوة خارقة قادرة على تغيير مصائر حياة البشر.
يُحكى في قديم الزمان أنه كان هناك شاب يعيش حياة في قمة الضياع، قبل أن يحكم عليه بالإعدام بسبب تخلفه عن الخدمة العسكرية، كان يعيش حياة مليئة بالصخب والتشتت، يعاني من قسوة والده الذي طرده بسبب تصرفاته الطائشة، وحمل في قلبه جرحًا عميقًا من فقدان والدته في سن مبكرة، كانت حياته مليئة بالمرارة، وكان يعتقد بأن سبيله الوحيد الهروب إلى الحانات والشراب، يغمر نفسه في سكر ليهرب من واقع لا يستطيع تحمله، كان يظن أن لا أحد يهتم به، وأنه لن يجد من يلتفت إلى حاله البائس، حتى جاء اليوم الذي تغير فيه كل شيء، في تلك اللحظة الحرجة وفي ساحة عامة وأمام الجماهير المحتشدة وبحضور ملك البلدة، عندما أصبح تنفيذ حكم الإعدام مصيره المحتوم، جاءت امرأة عجوز تتكئ على عصاها تخترق تلك الحشود، هذه المرأة العجوز التي شاخت ملامحها بمرور الزمن، لكن عينيها كانت مليئتين بالحكمة والحب، نظرت إلى الملك وقالت بصوت أقرب للتوسل و مفعم بالرجاء: "يا مولاي، أرجوك أن تعفو عن هذا الشاب"، وأخبرته بأنها تعرفه جيدًا، وأنه رغم ما قد يظنه الآخرون عنه، كان يقوم بخدمتها بإخلاص طواعية وبلا مقابل، كان يشتري لها حاجاتها، ويحضر لها الدواء حين تمرض، بل كان يطبطب على قلبها في ساعات وحدتها، هذه الأفعال البسيطة، التي لم يلتفت إليها أحد، كانت تخبر الملك بما لم يدركه الجميع: إن هذا الشاب سعى إلى الخير، وكان في قلبه جانب من الرحمة لم يره أحد.
تأثر الملك بكلمات المرأة العجوز، وفي تلك اللحظة، قرر العفو عنه، تقديرًا لما فعله مع تلك العجوز التي كانت في حاجة إلى من يخفف عنها آلامها، كان العفو بمثابة فرصة جديدة لهذا الشاب، فرصة ليعيد بناء حياته، ليعرف أنه رغم كل ما كان يظنه عن نفسه، لا يزال هناك من يراه طيبًا، وأن الرحمة لم تفارق قلبه بعد.
هذه القصة تحمل بين طياتها درسًا عميقًا عن جَبر الخواطر، وكيف أن أحيانًا يمكن لكلمة أو فعل بسيط أن يغير كل شيء، فجَبر الخاطر ليس مجرد محاولة لتخفيف آلام الآخرين فحسب، بل هو نوع من التفهم العميق لما يعانيه الآخرون، في تلك اللحظة التي وقف فيها الملك، أمام امرأة عجوز، اتخذ قرارًا عفويًا، كانت قد ظهرت أعظم قوة في حياة الإنسان وهي الرحمة، وتأتي أهمية جَبر الخواطر لما له من تأثير عميق على النفس البشرية، عندما نلتمس المعاملة الحسنة أو نلقي كلمات طيبة، ينعكس ذلك بشكل إيجابي على معنوياتنا، ويشجعنا على تحسين سلوكنا حتى في أسوأ الظروف، ويمكن أن يكون جَبر الخاطر بمثابة الدافع للإنسان ليبدأ صفحة جديدة، فبعض الأفعال التصرفات البسيطة تجعل العالم مكانًا أكثر إشراقا وجمالا، وتساعد الأفراد على إيجاد طريقتهم نحو النجاح والتغيير للأفضل.
جَبر الخواطر يمكن أن يكون أساسًا لتغيير المجتمع فعندما يظهر شخص ما اللطف والرحمة تجاه الآخرين، فإنه لا يغير حياة الفرد فحسب؛ بل يمكن أن يؤثر على مجتمع كامل ويمكن لتصرف صغير أن يكون له تأثير كبير في تعزيز التسامح والتعاون بين الناس، فجَبر الخواطر يمكن أن يكون الطريق لتغيير العلاقات الاجتماعية إلى الأفضل، مما يعزز الاندماج والمشاركة الفعّالة بين أفراد المجتمع.
وإذا كان جَبر الخواطر له تأثير عميق على المجتمع بأسره، فإنه في العلاقات الانسانية يصبح أساسًا لحياة مليئة بالحب والثقة، فالحب والمودة ليسا مجرد مشاعر عابرة، بل هما علاقة تبنى على الدعم المتبادل، وتقديم العون للآخرين في لحظات ضعفهم، جَبر الخاطر بين الناس يعمق العلاقة، ويجعلها أكثر استمرارية وقوة، فاللحظات الصعبة التي يمر بها الإنسان تصبح أسهل عندما يجد بجانبه من يخفف عنه ويشعره بالاطمئنان.
والمغفرة كذلك قد تكون جزءا لا يتجزأ من عملية جَبر الخواطر، حيث إن المغفرة هي وسيلة لتعافي النفس من الآلام، عندما نغفر للآخرين، ونمنحهم فرصة جديدة للشفاء من أخطاء وكدمات الماضي، وفي العلاقات الانسانية، يكون العفو والمغفرة حجر الزاوية لاستمرار الحب والأشخاص الذين يغفرون لبعضهم البعض يبنون روابط أكثر عمقًا وأصالة ويأتي هنا جَبر الخواطر ليكون أشبه بالشمعة التي تضيء الطريق إلى السلام الداخلي والانسجام بين الناس.
في الختام، جَبر الخواطر تحث عليه قيمنا المستمدة من تعاليم ديننا الحنيف وعاداتنا وتقاليدنا الأصيلة، ولنجعل جَبر الخواطر سمة نعيش بها في كل لحظة، فكل منا في أمسِّ الحاجة إلى لمسة من جَبر الخواطر، سواء في علاقاتنا أو في حياتنا اليومية، فيمكننا أن نغير مجرى حياتنا وحياة الآخرين عندما ننتبه إلى مشاعرهم ونعمل على جَبر خواطرهم بالكلمة، أو المعاملة أو بقضاء حوائجهم، أو عندما نحاول أن نمنحهم الأمل والرحمة التي قد يحتاجونها في كل وقت وفي كل حين.