الجزيرة:
2024-06-27@07:49:50 GMT

الوثنية السياسية

تاريخ النشر: 20th, June 2024 GMT

الوثنية السياسية

من طبائع الاستعمار كما هو الاستبداد أن يحول الخير في الأفراد والمجتمعات إلى نقيضه إن شعر بأن ذلك الخير يضعف سطوته أو يقوض وجوده، وهكذا فعل الاستعمار الفرنسي بالحركات الصوفية التي قاد شيوخها المقاومات الشعبية بدوافع الدين والشرف والبطولة لمدة 70 عاما تقريبا أثناء توغله في الجزائر لاحتلالها كلها.

فبعد هزيمته كل المقاومات الشعبية استطاع بأساليب القمع وشراء الذمم ونشر الجهل والفقر والتدمير المنهجي للبنيات النفسية والاجتماعية أن يحول جل تلك الصروح الدينية لتعليم القرآن وعلوم الشريعة إلى مؤسسات تعمق الوثنية الدينية في المجتمع "حيث تذهب -كما يقول مالك بن نبي- الأرواح الكاسدة لالتماس البركات ولاقتناء الحروز ذات الخوارق والمعجزات"، وكذلك لحضور زردة الولائم ورقصات الغفلة التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وتربط السكان بالخرافات والمعتقدات الفاسدة، وتبني بينهم وبين المستعمر علاقة الخضوع والاستسلام، باعتباره قدرا مقدورا من الله يجب الرضا به وعدم مغالبته، وكانت النتيجة هجودا عميقا في ليل مظلم كاد أن يُلحق مصير الجزائر بمصير الهنود الحمر في أميركا لولا هبّة رجال الإصلاح.

سجل الأستاذ مالك بن نبي هذه الهبّة قائلا "غير أنه ما إن سطع نور الفكرة الإصلاحية الباديسية حتى تحطم ذلك المعبد وخمدت نيران أهل الزردة"، وأتيح للإصلاح أن يمسك مقاليد النهضة الجزائرية بنشر الإيجابية والتدارس المستمر لأسباب الاستعمار واستمراره، وكان المنهج هو إصلاح الذات من داخلها وفق شعار الجمعية (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) والاعتزاز بالهوية العربية الإسلامية والانفصال الشعوري لمصير الوطن عن مسار الاحتلال وثقافته ونظمه وقوانينه، وكانت الوسيلة المثلى مدارس التعليم التي شبهها ابن نبي بمدارس النهضة العلمية المسيحية الأوروبية في عهد شارلمان التي كانت -حسب مالك بن نبي- أصل الثورة العلمية الغربية، علاوة على تحسين أذواق الناس بالأدب الهادف والفن الملتزم ومحاربة الانحرافات الخُلقية فيهم ورفع مستوياتهم العقلية في نوادي الحوار الداخلي البعيد عن مظاهر العجب والرياء والتباهي.

"مركب النقص"

لكن مالك بن نبي سجل بمرارة كبيرة التحول الذي وقع لجمعية العلماء المسلمين حين اعتقد قادتها أن الخلاص من الملاحقات والتضييقات وأحيانا الاغتيالات التي اتجه إليها الاستعمار حين تفطن لأثر العمل الإصلاحي في نفوس الجزائريين يكون باللجوء إلى السياسيين الذين يسعون للمطالبة بالحقوق، وبعضهم بالاندماج، ولا يهمهم استمرار الاحتلال، لقد كان نقد ابن نبي للجمعية مكلّفا له في علاقته ببعض رجالها رغم حسن الظن بها وتعلقه بها من قبل ومن بعد.

قد يكون مالك بن نبي قد بالغ في اختيار تلك العبارات الشديدة في حق الجمعية، كعبارة "مركّب النقص" الذي شعر به العلماء المصلحون -حسبه- إزاء قادة السياسة حين مالؤوهم وسايروهم ظنا منهم أنهم سوف يذودون عنهم نوائب الحكومة".

قد تكون العبارة شديدة وغير مناسبة، حيث لم تتخل الجمعية عن فكرتها ووسائلها ولم تنخرط بذاتها في الوثنية السياسية التي حاربها مالك بن نبي حربا شعواء، وإنما ظنت أن المطالبة بالحقوق كفيلة بحماية مدارسها ومنجزاتها الحضارية، فضاعت منها الفرصة الحضارية بأن أخذت منها فكرة الاستقلال -التي جاء بها بعدها حزب الشعب- المبادرة.

لم تسبق الجمعية بسبب ذهنيتها الإصلاحية إلى نقل الشعب الذي صنعته إلى الثورة المسلحة في وقت صارت شروطها حاضرة تنقاد لكل من يطلبها.

إن ما عابه مالك بن نبي على جمعية العلماء المسلمين -على فضلها وإنجازها العظيم- هو ما يمكن أن يعاب اليوم على الحركات الإحيائية الإسلامية من حيث إنها تحولت بشكل يكاد يكون كليا إلى العمل الحزبي الانتخابي وابتعدت كثيرا عن وظائف  مجتمعية إستراتيجية لإصلاح الفرد والمجتمع وفق ما كانت عليه، مما يؤهلها فعلا للريادة الحضارية ويجعل انتقال الفكرة إلى الدولة آمنا صانعا لنهضة الأوطان.

وحين أرهقتها في الشأن الحزبي المضايقات والتزوير والانقلابات صار كثير منها يقبل بالاندماج في منظومات الحكم والرضا بالهوامش الضيقة من أجل البقاء في الساحة والمحافظة على المكتسبات لا غير، دون أي أفق للتغيير، وبلا جهود جادة في المقاومة السياسية لتكون المنافسة الانتخابية ذات جدوى حمالة للتداول بالأفكار ولو بعد حين، وصار الخوف على الهياكل والنظم والمكاسب السياسية والمقامات الاجتماعية مقدما على الخوف على الفكرة، وحين غابت الفكرة أو تراجع الاهتمام بها تحولت تلك المكتسبات إلى أوثان لا ينفع التعلق بها ولا يضر، وقد يضر ولا ينفع.

"إن من سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم"، هكذا كان مالك بن نبي رحمه الله يقول، فقد كان ينظر إلى أؤلئك الناشطين في الساحة السياسية المطالبين بالحقوق قبل الثورة على أنهم لا يساهمون إلا في تجسيد الفكرة الاستعمارية وإطالة أمد الاستعمار، إذ كانوا يسيرون وراء سراب الانتخابات ويقودون الجماهير بالوعود الكاذبة لأخذ الحقوق التي لن يحققوها أبدا من الاستعمار حتى حولوا الحكومة الاستعمارية إلى مقام "الوثن الأكبر" الذي يُعتقد فيه النفع والضرر ويرتجى وحده لإصلاح الأحوال، وحوله أوثان صغيرة تتوسل بها الجماهير للوصول إلى رضا الوثن الأكبر، وذلك أن عملهم السياسي لم يكن يقوم على فكرة إصلاحية تقود تلك الجماهير للقيام بالواجبات التي يستحقون بها النهضة من خلال إصلاح أنفسهم ومجتمعاتهم ليصبح الفرد -كما يقول ابن نبي- "قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرا بأن تحترم كرامته، لكي يرتفع عنه طابع "القابلية للاستعمار"، وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله وتمتص دمه، فكأنما بتغيير نفسه قد غيّر وضع حاكميه تلقائيا إلى الوضع الذي يرتضيه".

الاستعمار والاستبداد

وكما هي الظاهرة الاستعمارية تكون ظاهرة الاستبداد، إذ يعمل المستبدون دوما على إفراغ الساحة الاجتماعية والسياسية من تدافع الأفكار حتى لا يكون الرأي إلا رأيهم على قول فرعون "ما أريكم إلا ما أرى"، فإذا غابت الأفكار نُصبت الأوثان، فيكون المستبد وثنا يُعبد من دون الله، ويصبح في ذهن زبنائه وكثير من رعاياه من حيث دروا أو لم يدروا هو الرازق وهو المانع وهو الرافع وهو الخافض وهو المنتقم وهو القاهر، يتنافس العالِم والجاهل والغني والفقير والإمام والمأموم في التقرب منه أو في تجنب سخطه، فيكثرون في سبيل ذلك الإشادة بإنجازاته الوهمية، وإذا ما رأى رأيا صفقوا لرأيه الحصيف، وإن تراجع عن ذات الرأي هللوا هم ذاتهم لحكمته البليغة.

ثم تُرسم المؤسسات الحكومية والمجتمعية على منواله، في كل مؤسسة تنشأ أوثان صغيرة، يُعظَّم قادتها وقراراتهم وتُعظّم نظمها وتنظيماتها دون أي تجديد ودون أي اعتبار لمقام الأفكار.

ليس العيب في الانتخابات، فقد اعتمدها مفجرو الثورة النوفمبرية وهم يعدون للثورة، وإنما العيب في اعتبارها هي المخرج، وليس العيب في المؤسسات والتنظيمات فهي ضرورية للإنجاز، وإنما عيبها أن تتحول إلى وثن، ولا إبراهيم لها ليبقيها وسيلة بكسره بمعوله الوثن.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات

إقرأ أيضاً:

الدرس الهاييتي:-يعترضون على التغيير ..”عمي”ماذا قدمتم للعراق ؟

بقلم : د. سمير عبيد ..

المضحك المُبكي!
نعم .. انهُ المُضحك المُبكي عندما نسمع هذه الايام أصواتاً من داخل الطبقة السياسية الحاكمة في العراق منذ 21 عاماً، والمُجدّدة لنفسها دوماً من خلال (انتخابات مزورة ونتائج مزورة) وضمن استراتيجية اعادة إنتاج نفسها وهي تعترض على اي عملية اصلاح او تغيير للنظام السياسي في العراق على اساس ان هذه الطبقة السياسية جعلت من العراق ماليزيا او الامارات. فأي انعزال عن العالم تعيشه هذه الطبقة السياسية؟ . وهي الطبقة السياسية التي نجحت بتسجيل العراق عالميا ولسنوات طويلة ” الدولة الفاشلة + الدولة الفاسدة ” عالميا .
ولا ندري ماهي أوراق رفضهم ودفاعهم ؟
فالذي يعترض ويرفض التغيير والإصلاح هو الذي لديه قائمة من الإنجازات في عدة ميادين ، ولديه محبة من الشعب ،ولديه سجل من الدفاع عن حقوق الأنسان وتوفير حرية التعبير ، وسجل في تنمية الطفولة والمرأة ،وسجل في تنمية الصحة والزراعة والتعليم والصناعة والكهرباء … الخ . فهل هذا موجود وبنسبة ١٪؜ الجواب : كلا . فعلى ماذا الاعتراض اذن ؟
العراق وهبة الله المنتظرة !
فبات معروف للدوائر العالمية المهمة والتي تقيّم اداء الأنظمة السياسية في العالم وبضمنها النظام الاميركي نفسه ، و التي قررت اخيرا لتفحص سيرة الطبقة السياسية في العراق و التي وجدتها وتيقنت منها انها هي سبب دمار العراق وتأخره وتقهره كدولة وسبب ارتباك المنطقة لأن العراق قطب الرحى امنيا واقتصاديا وسياسيا لهذه المنطقة .وتيقنت ان العراق عبارة عن طائرة مخطوفة من قبل قراصنة وهم قادة العملية السياسية والشعب العراقي هو ركاب هذه الطائرة. والغريب الذي صدم تلك الدوائر العالمية والمهمة و عالية المقام ان هؤلاء القراصنة لديهم حصانة ودعم وحماية من الولايات المتحدة ومن ايران والكويت ودول اخرى . من هنا بدأت المحاججة الخانقة ضد الدوائر الاميركية وصاحب القرار الاميركي والتي حمّلتها تلك المنظمات العالمية جريمة تدمير العراق، وجريمة دعم قراصنة لديهم مليشيات ولديهم جيوش سرية ولديه دويلة خاصة اسستها لهم امريكا وهي ( المنطقة الخضراء) . فأخذت على عاتقها قيادة عملية التغيير القادم في العراق. وبعد أزاحة الولايات المتحدة عن الانفراد بالقرار العراقي لتصبح أمريكا احد اعضاء التحالف العالمي الدولي الذي سيأخذ مهمة التغيير وجعل العراق النموذج الناجح في المنطقة والاقليم من اجل اعادة الثقة بالنظام العالمي واعادة الثقة بتلك الدوائر التي ترفع شعارات السلام والاستقرار والديمقراطية !
العراق والدرس الهاييتي !
١-والغريب ان هذه الطبقة السياسية تعترض على اي تغيير سياسي في العراق سواء كان انقلاباً مدعوم، أو بعملية دولية خاصة مثلما حصل في بنما وأسر الجنرال نوريغا وأفراد نظامه ، او بعملية عسكرية خاطفة مثلما حصل في جمهورية هاييتي. لا سيما وان الوضع في هاييتي مشابه لوضع العراق سابقا والان. حيث كانت هاييتي يحكمها نظام دكتاتوري عسكري ثم جاء التحول الديموقراطي بفوز القس والمحامي ارستيد رئيسا لهاييتي وبدعم أميركي ( ضعوا خط تحت “بدعم أميركي” وخط تحت “انتخب ديموقراطيا” لانه سياتي الجواب في سياق هذا المقال ) ثم ايضا فاز الرئيس ارستيد بولاية ثانية ديموقراطيا وبدعم أميركي ولكنه لم يكمل ولايته وسوف يأتيكم السبب !
نقطة نظام : فالفوز بالديموقراطية المزعومة ليس ضمان يمنع التغيير ويمنع الانقلاب على هذه الديموقراطية الزائفة !
٢-هاييتي هي أول دولة مستقلة في أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. والعراق هو اول دولة مستقره ومستقلة تماما وصاعدة في الشرق الأوسط .فشهدت هايتي، والتي كانت تُعرف سابقاً باسم “لؤلؤة جزر الأنتيل”، تحولًا جذرياً؛ إذ أصبحت تواجه حالة من عدم الاستقرار السياسي والصعوبات الاقتصادية والكوارث الطبيعية” ومثلما حصل في العراق مابعد عام ٢٠٠٣” .وتتمتع هايتي بأهمية جيوسياسية كبيرة، نظراً لتراثها التاريخي، وموقعها الاستراتيجي وهكذا العراق اهمية العراق!
المتغير السياسي الهاييتي !
١-وقع انقلاب في هايتي في عام 2004 بعد نزاعات دامت عدة أسابيع في هايتي خلال شهر فبراير من عام 2004. اي بعد تمرد استمر ثلاثة أسابيع يقوده الطلبة وفئات اجتماعية ، ومع استيلاء المتمردين على العاصمة، غادر أريستيد هايتي مجبرًا على متن طائرة أمريكية برفقة عناصر أمن أمريكيين ونُقل دون علم منه بالطريق والوجهة عبر أنتيغوا إلى بانغي، جمهورية أفريقيا الوسطى . اي افضى الانقلاب إلى عزل الرئيس المنتخب ديموقراطيا جان برتران أريستيد من منصبه ونُقل على متن طائرة هو وأسرته ونسائه بمساعدة طاقم أمني\عسكري أمريكي مثلما أسرنا أعلاه ،، مما منعه من إنهاء ولايته الثانية..
٢-في أعقاب ذلك ادّعى أريستيد أنه كان قد «اختُطف» من قبل القوات الأمريكية وذكر أن الولايات المتحدة دبرت انقلابًا في هايتي، وهو ادعاء أثار اعتراضات من قبل مسؤولين أمريكيين. وفُرض المنفى على أريستيد، إذ نُقل مباشرة من هايتي إلى جمهورية أفريقيا الوسطى واسكنوه في فندق متدني ” نجمه واحده ” ، ليستقر في نهاية المطاف في جنوب أفريقيا بعد ان دفعت فواتير الفندق جنوب أفريقيا . وأُسست حكومة مؤقتة في هايتي ترأسها رئيس الوزراء جيرار لاتورتو والرئيس بونيفاس أليكساندر.
الخلاصة :
ان الذي يدعي انه منتخب ديموقراطيا ويمارس الثيوقراطية والمليشياتية والفساد ونهب ثروات واصول الدولة، ويمارس الكذب والشعارات ومحاربة التعليم والزراعة والصناعة والصحة .. ويمارس انتهاكات حقوق الإنسان وقمع حرية التعبير ،ونشر الجهل والخرافة. والسكوت عن قتل شعبه بالدواء المسرطن والمستورد من مناشيء مزيفه، وبالمخدرات ،والجريمة المنظمة والسرطان .، ويضع رأسه بالرمال عن تدمير الطفولة والمرأة وتدمير مستقبل الشباب ،وتعمده في تدمير الطبقة الوسطى في المجتمع … فهذا النموذج الديموقراطي هو اسوأ من اعتى أنواع الديكتاتورية في العالم لأنه يلبس رداء الطبيب وهو يقتل بمرضاه ( وهذا ماهو موجود في العراق منذ 21 سنة ولازال ) .. لذا وجب التغيير لانتشال بلد عمره ٧ آلاف سنة ويعتبر قطب الرحى للمنطقة ولمصالح العالم الاقتصادية والامنية . وانقاذ شعب علم العالم الكتابة والهندسة والموسيقى والطب والقوانين والهندسة واخرها ايقونة العراق العالمية زها حديد !
سمير عبيد
٢٥ حزيران ٢٠٠٤

سمير عبيد

مقالات مشابهة

  • سيدي الرئيس من انت؟
  • الدرس الهاييتي:-يعترضون على التغيير ..”عمي”ماذا قدمتم للعراق ؟
  • في الصميم
  • أهلاً برؤوت .. وداعاً بورتسودان
  • الدويري يكشف عن توقعاته حول حرب موسعة في الجبهة الشمالية
  • الطبقة السياسية وعيد الغدير‬ !
  • في رابع تعاون بينهما.. أحمد مالك وهدى المفتي في "مطعم الحبايب"
  • ناقته قطعت 550 كم لتعانقه.. هذال الشكره يحكي قصصه مع الإبل
  • الاستعمار الصهيوني في قبرص؟
  • القوات اللبنانية تهادن حزب الله؟