التلاعب بالحقيقة في العصر الرقمي
تاريخ النشر: 20th, June 2024 GMT
الفاهم محمد
أخبار ذات صلةنعيش في هذا العصر الرقمي الفائق السرعة والتحول انتشاراً هائلاً للمعلومات، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، والشبكة العنكبوتية. هذا الأمر لم يؤثر فقط على قدرة الإنسان على مسايرة واستيعاب هذا الجريان المتسارع للمعرفة.
التزييف العميق
المقصود بالتزييف العميق Deep fakes استخدام الذكاء الاصطناعي والمعلوماتية، من أجل إنشاء محتوى مزيف، لكنه مطابق للواقع بحيث يصعب كشف حقيقته. تشمل هذه العملية على سبيل المثال إنشاء صور أو فيديوهات مزيفة، لأشخاص يظهرون بصورة طبيعية، لكنهم في الأصل ليسوا سوى شخصيات رقمية. كما يمكن أن تشمل أيضاً التلاعب بالصوت والحركة، حيث يتم توليد مقاطع فيديو لمشاهير في الفن أو السياسية، يدلون بتصريحات مطابقة لنبرة صوتهم، رغم أنهم لم يقوموا بذلك في الواقع. هناك كذلك إمكانية إنشاء المحتويات النصية المزيفة، مثل الرسائل والتغريدات، التي تبدو كما لو أنها كتبت من طرف شخص حقيقي.
هل معنى هذا أن الحقيقة انتهت وباتت من أطلال الماضي؟ في الواقع ما يحدث اليوم هو شيء غير مسبوق في تاريخ البشرية. صحيح كما أشار جاك ديريدا في كتابه تاريخ الكذب، فإن هذا الأخير جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، غير أن الإنسان ظل على الدوام متيقظاً إزاء ما يتداوله من معلومات، أما اليوم فان موقف اللامبالاة، لا يؤثر فقط على اضمحلال الحقيقة واختفاء الواقع، بل أدى أكثر من ذلك إلى بروز شكل جديد من الوعي السطحي، الذي يستمرئ العيش في الإشاعات والفضائح، بدل الانهمام بالبحث عن الحقيقة، ووضع الخط الفاصل بين ما هو صحيح وما هو خاطئ.
لقد عملت الثورة الرقمية على تقويض نماذج المعرفة التقليدية. لم تعد اليوم المؤسسات الرسمية، هي من يسهر على إنتاج ونشر المعرفة، حسب الطرح الذي دافع عنه ميشيل فوكو. بل إن المسألة أصبحت في يد كافة الجماهير، التي بات بإمكانها تداول المعلومات بشكل غير مركزي. لقد غير عصر المعلومات الرقمية بشكل جذري، كيفية انتشار المعلومات والأخبار في المجتمع. إن هذا هو ما جعلنا أكثر عرضة للتضليل والخداع، وقوض قدرتنا على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو كاذب.
مخاطر التلاعب بالحقيقة
علينا أن نعرف أننا أمام قضية شائكة جداً، فالتلاعب بالحقيقة وإضعافها قد تكون له انعكاسات سلبية، لا على الأشخاص، ولا على المجتمع ككل. إن انتشار المعلومات المضللة قد يؤدي إلى تفكك المجتمع، وانهيار الثقة في المؤسسات. كما قد يؤدي كذلك إلى المس بالوضع الاعتباري للأفراد. فتشويه الواقع، والتلاعب بالرأي العام، وإثارة المخاوف والشكوك، كما حدث خلال وباء كورونا. كل ذلك يؤدي حتماً إلى زرع الذعر والمخاوف، والإضرار بالأمن القومي للمجتمع.
في قديم الزمان كنا نسمع الحقيقة من أفواه العلماء، والحكماء والشعراء، وكل من يعيش حياة النسك، في استجلاء للحقائق الجليلة، التي تفيد البشرية. أما اليوم فقد أصبحت الحقيقة من شأن المؤثرين، وحاصدي نقرات الإعجاب، وأصحاب المشاهدات المرتفعة والمحتويات الأكثر مشاركة، والمتصيدين بالذكاء الاصطناعي... يبحث الناس اليوم عن قشعريرة الحواس، لا عن الأدلة والحجج المنطقية.
عصر ما بعد الحقيقة
في كتابه «عصر ما بعد الحقيقة» يؤكد رالف كيس Ralph Keyes أن الاهتمام بالمعلومات الموثوقة أصبح أقل أهمية. فالناس الذين يغلقون على أنفسهم داخل غرف الدردشة لا يهمهم تقصي الحقيقة. بل الأهم بالنسبة لهم هو ما يشعرون به، وما يريدونه أن يكون حقيقة. هكذا انهارت الحقيقة وحلت محلها القصص والروايات والقيل والقال. في عصر الإنترنت لم تعد الحقائق تكفي لإقناع الناس بها، لأن المهم بالنسبة لهم هو مدى انسجام هذه المعلومات مع معتقداتهم وميولاتهم. هكذا فالتفاعل الافتراضي الرقمي حل محل التواصل الاجتماعي الحقيقي، وهذا من شأنه أن يعزز عزلة الناس وانفصالهم عن الحياة الفعلية. كما أن الاستخدام المفرط للوسائط الاجتماعية، من شأنه أن يؤدي إلى تراجع مهارات التفكير النقدي، والتواصل الفعال لدى الأجيال الصاعدة.
إن السؤال الأساسي الذي يعترضنا، ونحن نفكر في هذه الظاهرة هو: كيف يمكن للأفراد والمجتمع أن يقوموا بحماية أنفسهم من الأخبار الزائفة والمعلومات المفبركة؟
يجب التأكيد على أن الحقيقة ستظل هي مطلب الإنسان على الدوام. قديماً قال الحكيم اليوناني هيراقليط: «علينا أن نحرك الكثير من التراب للحصول على القليل من الذهب». هذا معناه أن الحقيقة ليست ملقاة في الطريق، فالحصول عليها يتطلب جهداً. كما أنها أصبحت نادرة، في ظل عالم يغرق في الخداع. مع ذلك يجب أن لا نقلل من قيمة الشبكة العنكبوتية، التي يمكن أن تكون كذلك معيناً من الذهب للمعلومات الصحيحة.
المسؤوليات الأخلاقية
من الضروري إذن التفكير في المسؤوليات الأخلاقية، ووضع المعايير القانونية، التي تحد من عملية التلاعب بالحقيقة. بما في ذلك وضع سياسات فعالة، تعمل على سن العقوبات التي تحد من نشر المعلومات الكاذبة. في هذا السياق تم تطبيق التربية الإعلامية والرقمية، في العديد من البلدان الأوربية. في المملكة المتحدة مثلاً أصدرت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، مبادئ توجيهية صارمة لمنع انتشار المعلومات المضللة على منصاتها. كما قامت فرنسا كذلك بفرض ضرائب على الإعلانات، الموجهة عبر منصات التواصل، للحد من تأثيراتها المالية. أما في الإمارات فقد اتخذت كذلك مجموعة من التدابير، لمحاصرة هذه الظاهرة، منها إطلاق برامج تدريبية للمعلمين، من أجل تمكينهم من نشر ثقافة التحقق من المصادر، وتمييز المعلومات الموثوقة عن المضللة. كما تم استصدار العديد من المراسيم والقوانين لمكافحة الجرائم الإلكترونية.
يجب على سبيل المثال الرفع من الوعي النقدي لدى المواطنين، ومحو الأمية المعلوماتية، بهدف تقييم المحتوى الرقمي بشكل فعال. كما يمكن أيضاً الاهتمام بدور التربية والتعليم، في تنمية الوعي بالمهارات اللازمة لحماية أنفسنا، من ألاعيب الخداع الرقمي. وبشكل عام من الضروري إعادة بناء الحقيقة والدفاع عنها، وتأكيد دور المؤسسات الديمقراطية، باعتبارها مصادر موثوقة للمعرفة.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: العصر الرقمي تقنية التزييف العميق ثورة المعلومات مواقع التواصل الاجتماعي وسائل التواصل الاجتماعي شبكات التواصل الاجتماعي الذكاء الاصطناعي
إقرأ أيضاً:
العلماء العصر الجليدي يقترب.. هل نحن مستعدون لمواجهة البرد القارس؟
شمسان بوست / متابعات:
فقط تخيل التالي: الطقس بارد جدا طوال أيام السنة، وكل شيء ساكن، لا يوجد صيف تقريبا إلا من أيام معدودات يمكن فيها أن تخرج في الشارع دون سيارة مجهزة.
على مستوى العالم تمتد التكوينات الجليدية بسُمك 3 إلى 4 كيلومترات لتغطي نصف الكرة الأرضية الشمالي بداية من القطب نزولا إلى ما حدوده الآن نصف الولايات المتحدة الأميركية وإنجلترا والنرويج ونصف روسيا.
أما في الجنوب فقد غطت الثلوج القطب الجنوبي وصولا إلى ما حدوده الآن أطراف جنوب أفريقيا وأجزاء من أستراليا وقارة أميركا الجنوبية، وبين هذا بالأعلى وذلك بالأسفل انضربت الأرض بموجات متتالية قاسية البرودة.
منذ نحو 2.5 مليون سنة دخلت الأرض حقبة اتسمت بعصور جليدية متعاقبة، بينها ما يسميها العلماء “فترات بين جليدية”، مثل العصر الذي نعيش فيه الآن، والذي بدأ قبل نحو 11 ألفا و700 سنة، ويحدد تحليل بحثي الموعد المتوقع للخروج من تلك الفترة إلى عصر جليدي جديد.
وبحسب الدراسة -التي نشرها الباحثون في دورية ساينس المرموقة- فقد قدم الباحثون تفسيرا جديدا مختلفا للتغيرات الطفيفة في مدار الأرض حول الشمس، والتي تؤدي إلى تحولات هائلة في مناخ الكوكب على مدى آلاف السنين.
وتتبعت الدراسة الدورات الطبيعية لمناخ الكوكب على مدى مليون عام، وبذلك قدمت رؤى جديدة حول نظام المناخ الديناميكي للأرض، الأمر الذي أدى بهذا الفريق إلى التنبؤ بموعد العصر الجليدي المقبل، على أن يكون بعد 10 آلاف سنة من الآن.
دورات ميلانكوفيتش
نعرف أن الأرض تدور حول نفسها كل 24 ساعة، وتدور حول الشمس كل 365 يوم وربع، في مدار بيضاوي يقترب من الشمس في بعض الأحيان ويبتعد عنها في أحيان أخرى، ونظن أن هذا النمط ثابت لا يتغير، لكن ذلك غير صحيح، فهناك دورات أخرى للأرض لا نعرف عنها شيئا.
فمثلا، تعرف ظاهرة المبادرة المحورية بأنها حركة دائرية متغيرة بطيئة للغاية للأرض حول محورها تشبه تلك التي تحدث حينما يلعب الأطفال بالنحلة الخشبية فتتأرجح حول محورها فيما تدور حول نفسها، الأرض تفعل ذلك، لكنها تكمل دورة واحدة من التأرجح كل نحو 26 ألف سنة.
تتداخل تلك الدورة مع دورتين أكثر اتساعا للأرض، تتضمن الأولى تغيرا في ميلها على المستوى، إذ تعلمنا في المدارس أن ميل محور الأرض يساوي 23.4، لكن ذلك الرقم غير ثابت أبدا، فهو خلال تلك الدورة -التي تحصل كل 41 ألف سنة- يتأرجح بين 22.1 درجة و24.5 درجة.
وتتضمن الدورة الثانية انحرافا في مدار الأرض، وتحصل على مدى خلال 100 ألف سنة، وفيها يتغير شكل مدار الأرض بين الأكثر بيضاوية والأقرب إلى الدائرة.
وتشكل الدورات الثلاث ما تسمى “دورات ميلانكوفيتش” نسبة إلى الفيزيائي الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش الذي طورها عبر عمليات حسابية معقدة قبل 100 سنة تقريبا، وأثبتت الأرصاد الجيولوجية صحتها فيما بعد.
هذه التغيرات تبدو طفيفة، لكنها تؤثر بقوة على مناخ الأرض، فتغير تركيز أشعة الشمس وتنقله من منطقة إلى أخرى، وتؤثر على دورات المناخ الكبرى، فتدخل الكوكب كله في عصر جليدي.
صفائح متراكمة
وبحسب الدراسة الجديدة، وثق الفريق البحثي التغيرات في حجم الصفائح الجليدية البرية في نصف الكرة الشمالي، بالإضافة إلى درجة حرارة أعماق المحيط خلال مليون سنة مضت، وتمكنوا من مطابقة هذه التغيرات مع اختلافات دورية طفيفة في شكل مدار الأرض حول الشمس، والمبادرة المحورية، وزاوية ميلان محور الكوكب.
وبناء على تلك الحسابات -التي أجراها الفريق على حواسيب فائقة- وجد الباحثون نمطا يمكن التنبؤ به على مدى المليون سنة الماضية لتوقيت تغير مناخ الأرض بين “العصور الجليدية” والفترات الدافئة بين الجليدية مثل اليوم، إذ كان أحد أنواع التغيرات في مدار الأرض مسؤولا عن نهاية العصور الجليدية، في حين ارتبط نوع آخر بعودتها.
ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي واجه العلماء في هذا النطاق صعوبة في تحديد أي معيار مداري هو الأكثر أهمية لبداية ونهاية الدورات الجليدية، وذلك لصعوبة تأريخ التغيرات المناخية في فترات زمنية بعيدة، ولكن الدراسة الجديدة تجيب عن هذا السؤال.
وقد وجد الباحثون أن كل فترة جليدية خلال الـ900 ألف سنة الماضية تتبع نمطا يمكن التنبؤ به يشير إلى أننا نمر حاليا بفترة جليدية بينية مستقرة، وأن العصر الجليدي المقبل سيبدأ بعد نحو 10 آلاف سنة من الآن.
والمميز في هذه النتائج أن النمط الذي وجده الباحثون قابل للتكرار لدرجة أنهم تمكنوا من تحديد موعد حدوث كل فترة جليدية بينية خلال المليون سنة الماضية ومدة كل منها.
وبناء على تلك النتائج يخطط الفريق لإنشاء خط سير للمناخ الطبيعي للأرض للسنوات الـ20 ألف المقبلة من خلال معايرة التغيرات الماضية.
ويأمل الباحثون من خلال استخدام محاكاة نماذج المناخ تحديد الآثار المطلقة لتغير المناخ الناجم عن أنشطة بشرية في المستقبل البعيد.
ويعتقد العلماء أن هذه الدورات مرتبطة بدخول الأرض في عصور جليدية، فنحن الآن نمر بما تسمى “فترة بين جليدية”، لكن قبل أكثر من 12 ألف سنة فقط كانت الأرض في عصر جليدي.
كيف عاش القدماء؟ وكيف سنعيش؟
خلال نحو 500 أو 600 ألف سنة سابقة عاش البشر خلال فترات جليدية، تخفوا في الكهوف بشكل أساسي للحصول على الحرارة، واعتمدوا إلى حد كبير على الصيد وجمع الثمار، وكانت حملاتهم للبحث عن الغذاء حذرة سريعة الحركة، فمع المناخات القاسية جدا ينخفض توافر الطعام، فالجفاف شديد والبرد أشد، وبالتالي تكون الحيوانات المفترسة على أهبة الاستعداد بشكل دائم.
وخلال تلك الفترة تطورت أدوات البشر وملابسهم لمواجهة ضربات البرد، فاستخدموا جلود الحيوانات وفراءها لحماية أنفسهم، وبالتالي كانت هناك حاجة لصنع أدوات أكثر تقدما، مثل الرماح ذات الرؤوس الحجرية والحراب القوية المرنة لصيد الحيوانات الكبيرة في العصر الجليدي.
رصد العلماء ذلك في رسوم الكهوف القديمة التي صورت الحيوانات ومشاهد من الحياة اليومية للبشر الذين عاشوا في تلك السنوات البعيدة.
لكن فقط مع وصولنا إلى العصر الحالي حيث تتميز الأرض بأجواء أدفأ تمكن البشر من الخروج من كهوفهم وتحركوا بحرية أكبر، فبنوا البيوت في العراء، والتي كانت أوسع وأكبر، واكتشفوا الزراعة ونهلوا مما أتيح لهم من خيرات هذا العصر الجديد بعد انقطاع دام لزمن طويل، وبدؤوا في بناء الحضارة.
ماذا سيحدث بعد 10 آلاف سنة حينما يعود العصر الجليدي من جديد؟ بالتأكيد لن نرجع إلى الكهوف، وستساعدنا التكنولوجيا الحديثة على تخطي الأمر بطريقة أو بأخرى، لكن لا شك أن ظروف الأرض ستصبح أشد قسوة مما يمكن أن نظن.
وفي هذا السياق، سيعمل العلماء على تطوير محاصيل مقاومة للبرد، والاستثمار في الزراعة الداخلية وتحت الأرض، وإلى جانب ذلك ستعمل الدول على تخزين الأغذية غير القابلة للتلف، وستكون احتياطيات الأغذية المجففة والمجمدة والمعلبة ضرورية.
وستتضمن حلول البشر وقتها توسيع مصادر الطاقة المتجددة، مع تطوير أنظمة تدفئة أكثر كفاءة، الأمر الذي يتطلب الاستثمار المتزايد في الطاقة النووية، لأنه مصدر طاقة مستقر وطويل الأمد لا يتأثر بالظروف الجوية.
وبالطبع ستتغير الهندسة تماما، فتتضمن أساسيات البناء عزلا أفضل وأنظمة تدفئة وملاجئ تحت الأرض، مع إعادة تصميم منظومة النقل حيث يجب تكييف الطرق والسكك الحديدية مع الظروف الجليدية، وربما بناء مدن تحت الأرض للحفاظ على الدفء والحماية من الظروف الجوية القاسية.
وسترافق ذلك بلا شك هجرات ملحمية للبشر، لأن الجغرافيا المناخية للكوكب ستتغير تماما، وقد كان هذا هو دأب البشر طوال تاريخهم، وهو ربما أحد أسباب نزعتهم لاستكشاف المجهول، أو كما قال الفلكي الأميركي كارل ساجان ذات مرة “الاستكشاف في طبيعتنا، بدأنا كمتجولين، وما زلنا إلى الآن متجولين”.