ترشيحات للقراءة|| "السكين الأسود".. على هذه الأرض الأقوى هو مَن يعيش دائمًا
تاريخ النشر: 20th, June 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق عندما تقرأ رواية "السكين الأسود" للكاتب البرازيلي إتامار فييرا جونيور، ستعرف على الفور أنه "على هذه الأرض، الأقوى هو مَن يعيش دائمًا". حيث تصطدم برواية غير تقليدية تحكي قصة شعب وقرية وزمن مضى حتى وإن تغير تاريخه، فما زالت سماته حاضرة حتى اليوم، كما يشير الناشر، لغة للنشر والتوزيع، الذي نقل الرواية إلى العربية بترجمة فاطمة محمد.
النصل الحاد
عندما أخرجتُ المِنْجَلَ من حقيبة الملابس، الملفوفَ في قطعة قماش رثَّة متسخة، بها بقع داكنة ومعقودة من منتصفها يزيد عمرها على سبع سنوات.
كانت تصغرني أختي بيلونيسيا التي صاحبتني سنة واحدة. قبل ذلك الحدث بهنيهة، كنا في فناء المنزل القديم، نلعب بالدمى المصنوعة من أوراق الذرة المحصودة في الأسبوع الماضي.
استخدمنا القش الذي اصفرَّ لونه لنخيط لها ملابس على قوالح الذرة. عاملْنا الدمى كبناتنا، بنات بيبيانا وبيلونيسيا، وعندما أدركنا أن جدتنا تبتعد عن المنزل تجاه الفناء، نظرنا إلى بعضنا في إشارة إلى أن الساحة أصبحت خالية لنا، وقلنا إن الوقت قد حان لكشف ما أخفته الجدة السيدة أنَّا في الحقيبة الجلدية، بين الملابس البالية التي تفوح منها رائحة الشحوم الزَّنِخة. أدركت السيدة أنَّا أننا كبرنا، وقد تملكنا الفضول، فقد اقتحمنا غرفتها لنسألها عن المحادثات التي سمعناها وعن الأمور التي لا نعرف عنها شيئًا، مثل الموجودة داخل حقيبتها. لطالما وبَّخنا والدانا، أما جدتي - خاصة - فرمقتنا بنظرة حازمة أشعرتنا كأنَّ جلدنا يرتجف ويحترق، كأننا قد اقتربنا من النار.
لذلك، عندما رأيتها تسير مبتعدة نحو الفناء، نظرت إلى بيلونيسيا، عازمة على تفتيش أغراضها. لم أتردد وسرتُ على أطراف أصابعي نحو غرفة نومها لكي أفتح الحقيبة الجلدية القديمة التي تراكمت عليها البقع وطبقة سميكة من الطين. كانت الحقيبة حتى تلك اللحظة، تحت السرير. ذهبتُ بنفسي إلى الفناء الخلفي لأتلصص خلف الباب وأرى الجدة السيدة أنَّا تجر جسدها متوجهة نحو الغابة التي تقع خلف البستان وحديقة الخضراوات، خلف حظيرة الدجاج بأقفاصها القديمة.
في ذلك الوقت، رأينا جدتنا تناجي نفسها، وتطلب أشياءَ غريبة مثل: أن يبتعد شخص ما - لم نره - عن كارميليتا، عمتنا التي لم نرها من قبل، أو أن تبتعد الأرواح ذاتها التي سكنت ذكرياتها عن حفيداتها. كانت أحاديثها سلسلةً من موضوعات متقطعة، تتحدث عن أناس لم نرهم ـ مثل الأرواح ـ أو عن أشخاص في الغالب لم نسمع بهم، أو عن أقارب بعيدين، أو عن أمهات روحيات "عرابات". لقد اعتدنا سماع السيدة أنَّا تتحدث في جميع أرجاء المنزل، عند الباب الأمامي، وفي الطريق إلى الحقل، وفي الفناء الخلفي، كأنها تتحدث إلى الدجاج أو الأشجار الجافة. نظرنا أنا وبيلونيسيا إلى بعضنا، وضحكنا ضحكة هادئة، ودنونا منها دون أن تشعر. تظاهرنا باللعب بأي شيء قريب منها فقط لنستمع لها، ثم رددنا ما قالته السيدة أنَّا مع الدمى والحيوانات والنباتات كأنها أحاديث جدية. رددنا ما همست به أمي لأبي في المطبخ: "لقد تحدثتْ كثيرًا اليوم، ويكثر كلامها مع نفسها يومًا بعد يوم". تردد أبي في الاعتراف بأن جدتي ظهرت عليها علامات الخَرَف، وقال إن والدته تتحدث إلى ذاتها طوال حياتها، ولطالما رددتِ الصلوات والترانيم شاردةَ الذهن. في ذلك اليوم، سمعنا صوتالسيدة أنَّا يتلاشى في الفناء الخلفي، وسط زقزقة العصافير. بدا الأمر كأنَّ الصلوات والعبارات التي تمتمت بها - والتي كثيرًا لم يكن لها معنى بالنسبة إلينا - ذهبت بعيدًا، كأنما حملتها أنفاسنا المُثقلة بسبب الجُرم الذي كنا على وشك ارتكابه. نزلت بيلونيسيا تحت السرير وأخرجت الحقيبة. انكمش جلد الخنزير البري المفروش كسجاد ليخبئ عيوب الأرضية الترابية تحت جسدها. فتحتُ الحقيبة وحدي وسط نظراتنا المترقبة. التقطتُ بعض قطع الملابس القديمة البالية، وأخرى لا تزال ألوانها زاهية يعكسها ضوء النهار الجارف، ضوء لم أعرف قطُّ كيف أصفه. ومن بين الملابس سيئة الطي كانت هناك قطعة قماش متسخة ملفوفة حول الشيء الذي لفت انتباهنا، كأنه حجر كريم يطوي كل أسرار جدتنا. كنت أنا مَن فك عقدة القماش، منتبهةً إلى صوت السيدة أنَّا الذي كان لا يزال بعيدًا. رأيتُ أعين بيلونيسيا تتلألأ من لمعان ما كشفناه كأنه هدية جديدة، مصنوعة من معدن مُستخرَج حديثًا من الأرض. رفعتُ السكين[1] الذي لم يكن كبيرًا ولا صغيرًا أمام أعيننا، وطلبتْ أختي أن تأخذه.
لم أسمح لها، تفقدتُّه أولًا. شممتُ رائحته التي لم تحمل رائحة جدتي، ولم تكن به أي بقع أو خدوش. كانت ردة فعلي في تلك اللحظة التركيز فقط على حل ذلك اللغز قدر الإمكان، ولم أردْ تفويت الفرصة حتى أكشف كيف يُستخدَم ذلك الشيء الذي تلألأ بين يدي. رأيتُ جزءًا من وجهي منعكسًا فيه كالمرآة، كيفما رأيتُ وجه أختي بعيدًا. حاولت بيلونيسيا أن تنتزع السكين من يدي فتراجعتُ: "دعيني أراه يا بيبيانا، انتظري!" كان ذلك عندما وضعتُ المعدن في فمي، وتملكتني رغبة جامحة في تذوقه، في الوقت نفسه تقريبًا انتُزِعَ فيه السكين من فمي بعنف. بدت عيناي حائرتين، أحدق إلى عيني بيلونيسيا، حينذاك حملتِ السكين المعدني في فمها أيضًا. فإلى جانب طعم المعدن الذي بقي في حلقي، تذوقتُ أيضًا طعم الدم الساخن الذي سال في زاوية فمي شبه المفتوح، وبدأ يتقاطر على ذقني، وبات الدم مرة أخرى يبلل قطعة القماش الرثَّة ذات اللون الداكن التي كان ملفوفًا فيها السكين.
انتزعتْ بيلونيسيا أيضًا السكين من فمها، لكنها وضعتْ يديها عليه كأنها أرادات الإمساك بشيء ما، واصطبغت شفتاها باللون الأحمر، كما لو كان ذلك لحماستها فيما شعرتْ بالمعدن في فمها، أو ربما لأنها قد أصيبتْ مثلي، لأن الدم كان يقطر منها أيضًا. حاولتُ ابتلاع ما استطعتُ، وفركتْ أختي أيضًا يدها بسرعة على فمها بعينين دامعتيْن ومغمضتيْن، محاولةً درأ الألم. سمعتُ خطوات جدتي البطيئة تنادي بيبيانا، منادية: "زيزيه، دومينجاش، بيلونيسيا! ألم تشمِّي البطاطس وهي تحترق، يا بيبيانا؟". كانت هناك رائحة بطاطس محترقة فعلًا، لكنْ فاحت أيضًا رائحة المعدن، رائحة الدم الذي بلل ملابسي وملابس بيلونيسيا.
عندما رفعتِ السيدة أنَّا الستار الذي يفصل غرفة نومها عن المطبخ، كنت قد أزلتُ السكين من الأرض ولففته بطريقة عشوائية في القماش المبلل، لكنْ لم يتسنَّ لي دفع الحقيبة الجلدية مجددًا تحت السرير. رأيتُ نظرة جدتي المُرْتَعِبة التي أسقطت يدها الغليظة على رأسي ورأس بيلونيسيا، وسمعتِ السيدة أنَّا تسأل عما كنا نفعله هنا، ولماذا حقيبتها في غير مكانها، ولماذا تسيل دماؤنا؟ قالت: "تكلمي"، مهددةً بقطع لساننا، لم تكن تعلم أنه في إحدى أيدينا فعلًا.
[1] - يُقصد بالسكين هنا المنجل، وهو توضيح بلاغي لشكل الآلة الحادة التي أثَّرت في حياة الفتاتين (المترجمة).
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: رواية جائزة البوكر العالمية الزمن السیدة أن
إقرأ أيضاً:
عزلة وخبز مهلوس.. صور لجزيرة في إيطاليا لا يعيش فيها سوى 100 شخص
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- تجذب جزيرة أليكودي الإيطالية النائية في كل صيف سيلًا بطيئًا من السياح الذين يتطلعون إلى الهروب من حياة المدن.
لا توجد سيارات أو طرق في الجزيرة التي تبلغ مساحتها 5 كيلومترات مربعة، ولكن يمكن عبور مسارات المشي على متن حمار.
رغم أنّ تغطية الهاتف المحمول أصبحت متاحة الآن في غالبية الأماكن، إلا أنّ العديد من المنازل تفتقر إلى الكهرباء والماء.
بالنسبة لسكان الجزيرة، الذين يبلغ عددهم حوالي 100 شخص (وتتناقص أعدادهم بشكلٍ حاد في الشتاء)، فإنّ خوض تجربة هذا الفصل ليست بالأمر السهل.
وثّق مصوران الحياة على جزيرة أليكودي في إيطاليا. وجمع الثنائي الصور في كتاب بعنوان "Thinking Like an Island".Credit: Camilla Marrese and Gabriele Chiappariniفي ظل غياب مرافق المستشفيات، يجب على السكان السفر بالعبّارة، أو في حالات الطوارئ، بطائرة مروحية، لتلقي العلاج الطبي.
وقالت المصورة الإيطالية كاميلا ماريسي، التي زارت جزيرة أليكودي خلال جائحة "كوفيد-19" لتوثيق الحياة اليومية هناك، فإن مدرسة الجزيرة أُغلِقت بسبب نقص عدد الأطفال.
ورُغم وجود متجري بقالة وحانة، إلا أنّ الأخيرة تفتح أبوالها لثلاثة أشهر فقط من العام.
يُعد اصطياد الأسماك ركيزة أساسية للحياة في الجزيرة الإيطالية، ولكن كان للسياحة أثرًا كبيرًا على اقتصاد الجزيرة.Credit: Camilla Marrese and Gabriele Chiappariniوقالت ماريسي في مقابلة مع CNN: "بالنسبة لبقية العام، ينطوي التجمع الاجتماعي الكبير على التوجّه إلى الميناء عندما تصل القوارب. ويذهب السكان إلى هناك فقط لتفقد هوية الواصلين والمغادرين".
وأضاف شريكها وزميلها، غابرييل تشياباريني، الذي كان معها خلال المقابلة: "تقع بعض المنازل على بُعد ساعتين سيرًا على الأقدام من الميناء، لذا يستخدم بعض الأشخاص المنظار لمراقبة ما يحصل في المكان".
تقع الجزيرة في شمال صقلية.Credit: Camilla Marrese and Gabriele Chiappariniوأمضى الثنائي ما يقرب من شهرين لاستكشاف أليكودي، وتصوير طبيعتها، وتكوين صداقات مع سكانها على أمل توثيق لمحة نادرة عن الجزيرة وسكانها خلال فصل الشتاء.
وكانت النتيجة كتاب بعنوان "Thinking Like an Island" يجمع بين صور الـ"بورتريه" والمناظر الطبيعية التي توحي بشعور عميق بالعزلة.
يُحتمل أنّ تكون أليكودي أصبحت مأهولة بالسكان منذ القرن الـ17 قبل الميلاد، ولكن أدّت الهجرة إلى تغير ديموغرافي كبير في العقود الأخيرة.
ووصفت ماريسي السكان الحاليين بأنهم عبارة عن مزيج من السكان المحليين والغرباء الذين انتقلوا إليها من أماكن أخرى في أوروبا بحثًا عن حياة هادئة.
يوثّق الكتاب طبيعة الجزيرة أيضًا. Credit: Camilla Marrese and Gabriele Chiappariniوقال تشياباريني: "تحدثنا مع الكثير من الأشخاص الذين اختاروا الجزيرة لأنهم سئموا من الطريقة التي يسير بها العالم الآن، في ظل تغير المناخ، والتلوث، والأنظمة الاقتصادية".
رَصَد الثنائي إحساسًا فريدًا بالمجتمع رُغم الافتقار لأماكن التجمع أو المساحات الاجتماعية المشتركة.
وأوضحت ماريسي: "كل المنازل متناثرة، لذا من الصعب للغاية أن يتطور الإحساس بالمجتمع. لكن، هناك شعور كبير بالانتماء، حيث يعرف الجميع بعضهم البعض، وهم على استعداد لتقديم المساعدة لأي شخص".
اعتاد السكان على بناء علاقات قوية مع الأشخاص وبسرعة.Credit: Camilla Marrese and Gabriele Chiappariniووجد الثنائي المصور أنّ عقلية سكان الجزيرة سهّلت عليهما اكتساب ثقتهم بسرعة لتوثيقهم.
الخبز المُهلوِس يوثق الكتاب السكان والطبيعة في آنٍ واحد.Credit: Camilla Marrese and Gabriele Chiappariniتُظهِر الصور في كتاب "Thinking Like an Island" سكان الجزيرة بين أنحاء الطبيعة، أو على الشواطئ تحت سماء داكنة.
غالبًا ما امتنع الثنائي عن ذكر أسماء السكان، بينما تم إخفاء وجوه بعض الأشخاص بالكامل لحماية خصوصيتهم، ما يضيف إلى إحساس الغموض المحيط بالجزيرة الغنية بالفولكلور المحلي.
تتميز الجزيرة بجانب تاريخي غريب، وهو إنتاجها للخبز المُهَلوِس عن طريق الخطأ.
وحتى خمسينيات القرن العشرين، أكل المحليون أرغفة خبز ملوثة بفطر يُدعى "ergot"، وهو المكوِّن الأساسي لمخدِّر "LSD".
تناولت أجيال من القرويين ما يُشار إليه بـ "الجاودار المجنون" من دون قصد، وقد يكون ذلك مصدر العديد من الأساطير المحلية، مثل النساء اللواتي قيل عنهن إنهن كنً يحلقن في سماء أليكودي.
وأوضحت ماريسي: "هناك الكثير من الأساطير التي تم تناقلها عبر الأجيال. ويُحتمل أنّها كانت لحظة من الهلوسة تقاسمها جميع سكان الجزيرة الذين كانوا يتناولون هذا الخبز كل يوم".
وبذل الثنائي جهدهما لتجنب إبراز جزيرة أليكودي كمكان مرعب رُغم الحقائق الاقتصادية القاسية فيها.
لكن أدّت حتى المستويات الصغيرة نسبيًا من السياحة إلى تغيير حظ الجزيرة.