أكتب عن هذا الموضوع من واقع خبرتي التي امتدّت على مساحة 32 سنة خدمت فيها في قطاع المياه، كان منها ما يزيد عن عشر سنوات رئيسا لفرقة التوعية في الاتحاد الذي يجمع مقدمي خدمات المياه في فلسطين من مصلحة مياه الساحل إلى مصلحة مياه غرب جنين مرورا بمصلحة مياه محافظة القدس وبيت لحم.. الخ، وكنا نقدّم أنشطة وبرامج تستهدف ترشيد استهلاك المياه، مع علمنا أنّ لهذا الأمر بُعدين: طريقة استهلاك المواطن للمياه، وبُعد آخر سياسي وهو السيطرة الجشعة للاحتلال على مصادر المياه والتحكم الكامل بحصص التوزيع والتي منحت المستوطن ما يزيد عن عشر أضعاف المواطن الفلسطيني، هذا للاستهلاك المنزلي، بينما أيضا منعت الفلسطيني من استخدامات المياه الأخرى وأتاحت للمستوطن أن ينهب المياه بكلّ الطرق الممكنة؛ في الزراعة والسباحة والترفيه والمنتزهات وتجميل الحدائق العامة والوسط البيئي.

. الخ.

وقد حقّقت هذه السياسة العنصرية الأمن المائي بامتياز للمستوطن بينما وضعت الفلسطيني في حالة من القلق والتوتّر الدائمين وجعلته لا يأمن توفير الحدّ الأدنى للشرب، والدليل على ذلك فإنك عندما تمرّ على مستوطنة لا تجد خزانات المياه على أسطح منازلها لأن المياه لا تنقطع وموجودة على مدار الساعة، بينا تجد الفلسطيني يكدّس الخزانات على الأسطح على أمل ملئها بالماء عند مجيئها بعد انقطاعها الطويل الذي قد يصل في الصيف إلى شهر وشهرين، كما هو الحال في الخليل وبيت لحم على سبيل المثال.

حقّقت هذه السياسة العنصرية الأمن المائي بامتياز للمستوطن بينما وضعت الفلسطيني في حالة من القلق والتوتّر الدائمين وجعلته لا يأمن توفير الحدّ الأدنى للشرب
وعن قطاع غزّة فحدّث ولا حرج حتى قبل استهدافه وتدميره الفظيع لقطاع المياه في هذه الحرب من آبار وشبكات ومحطّات، فمن المعروف أن الاحتلال قبل خروجه من قطاع غزّة عام 2005 خرّب الخزان الجوفي للمياه هناك، وأصبحت الملوحة عالية والمياه غير صالحة للشرب إلى حدّ كبير، ذلك بأنه سحب المياه بطريقته الجشعة بما لا يحفظ التوازن الجوفي ما بين الوارد من مياه المطر والاستهلاك، فكان الاستهلاك أكثر من الوارد طيلة فترة الاحتلال للقطاع مما أدّى إلى أن أصبحت المياه غير صالحة للاستخدام البشري.

وهو الآن سائر بذات الطريقة بخصوص الخزان الجوفي للضفة، يسيطر عليه سيطرة كاملة ويحرم الفلسطينيين من حقهم إلا نذر يسير بالكاد يسدّ ظمأهم، ويحافظ على ذات الحصة منذ 1967 إلى اليوم رغم التزايد الهائل للسكان وزيادة الطلب على المياه.

فالضفة الغربية تقف على خزان مياه يكفي للضفة ويزيد، ولكن الفلسطينيين يُمنعون من استخراج المياه من هذا الخزان، إلا ما كان من آبار من قبل مثل آبار عين سامية وهي في شرق الضفّة ومع هذا يُمنع تطويرها والإضافة عليها بحفر آبار جديدة، عدا عن منع الفلسطينيين من الحفر غرب الضفّة بتاتا، بينما الاحتلال يأخذ من هذه المياه بطريقته الجشعة، حتى على سبيل المثال ما يقارب من 70 في المئة من مياه تل أبيب تُسحب من مياه الضفة الغربيّة، وحتى قيل إن حصّة الفلسطيني في الضفة برد المنخفضات الجوية بينما الإسرائيلي يأخذ مياهها، فحصاد شتاء مياه الضفّة عنده.

وهذا يعيدنا إلى اتفاقية أوسلو التي ظلمتنا في مياهنا إلى درجة كارثية فظيعة، إذ جعلت المياه من قضايا الحلّ النهائي فرُحّلت إلى أجل غير مسمّى لغاية الآن، وثبتت التحكّم الإسرائيلي الكامل بالمياه. نتحدّث الآن عن قرابة ثلاثين سنة بقيت المياه خلالها على حالها رغم التزايد السكاني والعمراني الكبير في الضفة، وكذلك فإنّهم بخصوص مشاريع المياه وتطويرها فقد جُعلت لها محدّدات ثلاثة كل واحد منها أسوأ من الآخر، فيجب موافقة ثلاث جهات على أيّ مشروع مياه: اللجنة الفلسطينية الإسرائيلية المشتركة؛ وهذه لم تجتمع إلا مرّة واحدة، وشركة مكروت؛ وكيف لهذه أن توافق وهي تعتبر نفسها صاحبة الامتياز؟ وثالث الأثافي: موافقة ما يسمّى الإدارة المدنيّة!

واضح أن موضوع المياه قد أُحسن تربيطه وأحكم الإسرائيلي وثاقه لصالحه 100 في المائة ممّا أدى إلى هذه الحالة التي بتنا فيها: تعطيش الفلسطيني ونهب مياهه بالكامل لصالح المستوطن الإسرائيلي.

وفي ظلّ أزمة الصيف الخانقة وفي ظلّ الظروف السياسيّة التي أوصلتنا إليها اتفاقية أوسلو ومع هذه المأساويّة القاتلة، فإنّ هذا لا يعفينا من عمل ما بوسعنا بخصوص إدارة المياه المتاحة وسياسة التوزيع. للأسف هناك مشكلة في الأمرين: السياسي والإداري العمليّاتي، بدليل أن هناك مناطق تعاني أكثر من مناطق. ولا يحملنّ أحد المشكلة على التوزيع الجغرافي، وهو مؤكد أن له علاقة، لذلك تأتي إدارة توزيع المياه وتنظيم الشبكات للتغلّب على هذا البعد الجغرافي.

ي ظلّ أزمة الصيف الخانقة وفي ظلّ الظروف السياسيّة التي أوصلتنا إليها اتفاقية أوسلو ومع هذه المأساويّة القاتلة، فإنّ هذا لا يعفينا من عمل ما بوسعنا بخصوص إدارة المياه المتاحة وسياسة التوزيع. للأسف هناك مشكلة في الأمرين: السياسي والإداري العمليّاتي
ثم إن الأمرين (السياسي والإداري) يحتاجان إلى بذل الجهود المطلوبة ونحن مقصرون في الأمرين، بدليل أين ملفّ المياه من حركة الشارع وأين الحراك (المحلّي والدولي) الذي يشكل ضغطا على الاحتلال ويشكّل فضيحة له في هذا التعامل العنصري الفظ والقاسي؛ بين متمتع بأقصى درجات التمتّع في المياه وبين من لا يجد مياها للشرب؟

ومن كان في موقع مسئولية لنسأله: ماذا فعل على الصعيدين؟ هل قاد الشارع ليشكّل ضغطا سياسيا وإعلاميا كبقية ملفّات القضية الفلسطينية؟ وملف المياه سيجد من يتفهّمه عالميا إذا طرحناه بشكله الصحيح للعالم وكان خطابنا الإعلاميّ خطابا منهجيا ضمن خطة إعلامية واستراتيجية واضحة المعالم.. ماذا فعلنا؟ هل يكفي القول كما سمعنا كثيرا: ما في اليد من حيلة؟ الموضوع أنّ كميّات المياه التي تصلنا من الاحتلال لا تغطي احتياجاتنا.. حتى أن حضرة جناب الاحتلال أحيانا لا يُذكر ويبقى الأمر مبنيا للمجهول!

يا جماعة، هذه مياهنا التي يسرقها الاحتلال من تحت أقدامنا ويتمنّن ويتحكّم بشكل كامل ببيعنا الكمية التي يريد وبالسعر الذي يريد. حتى لو افترضنا أننا نريد تطبيق اتفاقيات دولية بخصوص أصحاب المياه المشتركة، وهذا على فرض أن لهم حقا فيها كما لنا (وهذا بالطبع غير صحيح)، فإن قسمة المياه تكون بشكل مختلف تماما ولا يمكن أن تصل إلى هذه النسبة السحيقة بين حصة الفلسطيني وحصة الإسرائيلي.

بقيت قضية المياه في بحيرة ساكنة آسنة لم نفعل ما هو مطلوب لتحريكها ولفضح جريمة الاحتلال فيها، والمطلوب واضح أن يتابع الأمر على المستوى الرسمي إعلاميا وقانونيا على المستوى الدولي، وعلى المستوى الشعبي لا بدّ من حراكات فاعلة تؤدي إلى تحريك الموضوع بقوّة وأن لا ننتظر حتى نموت من العطش.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المياه فلسطين الاحتلال فلسطين مستوطنين الاحتلال المياه مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة ة الفلسطینی ة التی

إقرأ أيضاً:

8 دساتير خلال قرن واحد في أفغانستان.. أين الخلل؟

كابل- منذ عودة حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان في أغسطس/آب 2021 لم تضع دستورا رسميا لإدارة شؤون البلاد، وعوضا عن ذلك تستند في حكمها إلى الشريعة الإسلامية والتفسيرات الفقهية التي تتبناها مع الاعتماد على فتاوى وقرارات زعيم حركة طالبان هبة الله آخوند زادة.

فلم تعترف حركة طالبان بالدستور الذي أقرته الحكومة الأفغانية السابقة عام 2004، معتبرة أنه مستوحى من نماذج غربية لا تتماشى مع رؤيتها الإسلامية، ومع ذلك لم تعلن دستورا بديلا، مما ترك فراغا قانونيا في الإطار الدستوري للحكم.

ويرى الخبراء أن غياب الدستور الرسمي يعكس طبيعة حكم حركة طالبان التي تفضل نهجا يعتمد على الأحكام الدينية وقرارات القيادة، بدلاً من نموذج دستوري حديث، مع ذلك يبقى مستقبل الإطار القانوني في أفغانستان غير واضح رغم الدعوات الداخلية والدولية لوضع هيكل قانوني أكثر وضوحا يحدد حقوق المواطنين وآليات الحكم في البلاد.

ويقول المتحدث باسم الحكومة الأفغانية ذبيح الله مجاهد للجزيرة نت "الإمارة الإسلامية تعتمد في إدارة شؤون البلاد على الأحكام الإسلامية وفقا للمذهب الحنفي، وفي فرصة مناسبة سنضع دستورا يتوافق مع المبادئ الإسلامية، وحاليا لا نواجه الفراغ الدستوري وهناك دول وحكومات ليس لديها دساتير مكتوبة ولكن أمورها تمشي وفق آلية يرونها مناسبة لإدارة بلادهم".

إعلان سبْق تاريخي

وبحسب خبراء يمكن القول إن أفغانستان كانت أول دولة بين الدول الإسلامية تضع دستورا ينبع من النظرية الدستورية، متبعة الأفكار الإصلاحية للسيد جمال الدين الأفغاني، وكانت ثالث دولة بعد تركيا وإيران، تضع دستورا بعد سقوط الدولة العثمانية.

يقول الخبير القانوني عبد الكريم نبيل للجزيرة نت، إن الأمير أمان الله خان وضع أول دستور بعد سقوط الخلافة العثمانية، وأعد أغلب مواده في عهد الأمير شير علي خان بمساعدة السيد جمال الدين الأفغاني وقوبل القانون بالرفض ولم يتمكن الأمير من تنفيذه.

ويرى خبراء القانون في أفغانستان أن عملية صياغة الدساتير في البلاد ترتبط ارتباطا وثيقا بالأزمات والانقلابات وتغير الأنظمة بالقوة، فتاريخيا شهدت أفغانستان خلال القرن الماضي 8 دساتير، إضافة إلى مشروع دستور غير مكتمل اثناء حكم الرئيس الأفغاني الأسبق برهان الدين رباني عام 1993 ولم يصادق عليه لأسباب كثيرة أهمها الخلافات بين قادة المجاهدين السابقين.

دستور يحدث الشرخ

الاستثناء الوحيد للتغيير الدستوري الذي لم ينتج عن أي انقلاب أو تغيير للنظام كان دستور عام 1964، والذي بدأ بحكم الملك الراحل محمد ظاهر شاه -1933 إلى 1973- تحت مسمى التحديث والإصلاحات.

يقول الكاتب والباحث السياسي حكمت جليل للجزيرة نت، إن الدستور الملكي لعام 1964 كان أكثر دقة وتطورا من الدساتير السابقة في كثير من النواحي ولكنه كان بمثابة بداية عدم الاستقرار في البلاد.

وأشار إلى أن الدستور نص على أن أبناء الملك وعائلته وأبناء عمومته، لا يجوز لهم الانضمام إلى الأحزاب السياسية، ولا يمكنهم أن يُقَلَّدوا مناصب حكومية أو انتخابهم أعضاءً في البرلمان أو تعيينهم قضاةً في المحكمة العليا"، الأمر الذي فسر بأنه إبعاد وعزل لابن عم الملك رئيس الوزراء الأسبق محمد داود خان، ما أدخل البلاد في فوضى جراء التناحر بين الطرفين.

إعلان

يقول محللون سياسيون إن عمر الدستور في أفغانستان يتجاوز مائة عام وفي هذه الفترة كان دائمًا في تطور وتقلب بفعل التطورات السياسية والعسكرية وما يميز فترة حكم طالبان الأولى والثانية أنها لم تضع دستورا بسبب موقفها من الدستور والمصطلحات القانونية الغربية.

ويرى أستاذ كلية القانون والحقوق بجامعة كابل كريم جليلي للجزيرة نت أن "الخلاف في الدستور في أفغانستان له جذور تاريخية، حيث عارض عدد من العلماء أول دستور في أفغانستان بغض النظر عن طبيعته ومصادره، واعتبروه بديلا من القرآن ووصفوه بالكفر ولم يقبلوا به.

ويوضح جليلي أن "الصراع بشأن الدستور كان قائما على مدار هذا القرن، وخلال هذه الفترة شهدنا 8 دساتير، أغلبها جاء إلى الوجود بإلغاء الدستور السابق، حيث واجه أحدث دستور في أفغانستان نفس المصير الذي واجهه الدستور الأول".

أبرز دساتير أفغانستان

في القرن الماضي، وُضعت عدة دساتير أساسية في أفغانستان، حيث شهدت البلاد تغييرات سياسية متكررة أثرت على النظام القانوني والدستوري، وإليكم أبرز الدساتير التي تم تبنيها:

دستور 1923، وُضع في عهد الأمير أمان الله خان، وكان أول دستور مكتوب في أفغانستان، ويهدف إلى تحديث البلاد وإدخال إصلاحات قانونية وإدارية. دستور 1931، صدر في عهد الملك نادر شاه، وكان أكثر تحفظا مقارنة بدستور 1923، حيث أعاد تأكيد الحكم الملكي القوي مع بعض الإصلاحات. دستور 1964، صدر في عهد الملك ظاهر شاه، وأرسى أساس النظام الملكي الدستوري، حيث أدخل إصلاحات ديمقراطية مثل إنشاء برلمان منتخب، لكنه لم يستمر طويلًا بسبب الانقلابات اللاحقة. دستور 1977، وضعه الرئيس الأفغاني الأسبق محمد داود خان بعد إنهاء النظام الملكي عام 1973، لكنه لم يُطبق بسبب الانقلاب الشيوعي عام 1978. دستور 1980، صدر في ظل الحكم الشيوعي بقيادة الحزب الشيوعي الأفغاني، وكان يعكس التوجهات الإشتراكية المدعومة من الاتحاد السوفياتي السابق. دستور 1987، عُدل خلال حكم محمد نجيب الله آخر رئيس شيوعي، حيث حاول إدخال بعض الإصلاحات وإعطاء مجال أوسع للمشاركة السياسية. دستور 1990، أُقر في أواخر عهد نجيب الله كجزء من محاولة التوفيق بين مختلف الفصائل، لكنه لم يُنفذ بسبب الحروب الأهلية. دستور 2004: تم تبنيه بعد سقوط نظام طالبان الأول عام 2001 حيث أرسى نظامًا جمهوريًا ديمقراطيًا في ظل حكم الرئيس الأفغاني الأسبق حامد كرزاي. إعلان

مقالات مشابهة

  • صنعاء تواجه أزمة مياه بعد إغلاق كبرى المصانع
  • مركز البصرة بلا ماء.. والدائرة المختصة: نعمل على إصلاح الخلل
  • 8 دساتير خلال قرن واحد في أفغانستان.. أين الخلل؟
  • الآبار المحلية التعاونية.. حل سكان شمال غزة لمواجهة أزمة المياه
  • سر قُبلة الجندي الإسرائيلي للمقاتل الفلسطيني على منصة التسليم
  • برلماني: تصريحات ترامب الأخيرة تعكس نجاح الإدارة المصرية للملف الفلسطيني
  • فلسطين: اقتحام نتنياهو وكاتس لمخيم طولكرم إمعان في العدوان الإسرائيلي
  • تفاقم أزمة المياه في غزة مع نقص الإمدادات
  • دراسة: كمية المياه التي تفقدها الأنهار الجليدية تعادل ما يستهلكه سكان العالم في 3 عقود
  • الجيش الإسرائيلي: إحدى الجثث التي سلمتها حماس لا تعود لأي رهينة