رسائل العلماء والدّعاة الشّهداء في الحرب على غزّة إلى العلماء والدّعاة في الأمّة
تاريخ النشر: 19th, June 2024 GMT
على الرغم من الألم الشّديد الذي وقع باستشهاد العشرات من العلماء والدعاة والخطباء في حرب الإبادة الصّهيونيّة على غزة، إلّا أن دماءهم ترسم مشهدا حقيقيّا للجمع بين العلم والتضحية، فيكون الدم خير شاهدٍ على صدق العلم في صدر أصحابه وأعظم باعثٍ لروح الحياة في أوصال الأمة التي تترقب مواقف علمائها في الأزمات.
ولعلّ أهمّ ما ترسله هذه الدماء الزكيّة التي أريقت من علماء ودعاة غزة الشهداء من رسائل؛ هي تلك التي توجّه إلى إخوانهم من علماء ودعاة الأمة الإسلاميّة.
الرّسالة الأولى: في مفهوم العالم العامل
مع هذه الدماء التي تدفقت من أجساد العشرات من علماء ودعاة غزة في هذه الحرب الإجراميّة؛ يبرِزُ سؤالٌ كبيرٌ ما زال يتفجّرُ كلّ يومٍ عن ماهيّة "العالم العامل" ومواصفاته. فهل العالم العامل هو الذي جمع العلومَ وصار مكتبة شرعيّة متنقّلة، أم هو الذي تقدّم إلى الثّغور فسبق إليها، وحيثما سمع هيعة طارَ إليها؟!
وقبلَ أن يستدركَ علينا أحدٌ في أنَّ لكلّ ساحةٍ خصوصيّتها ولكل عالمٍ ظرفه؛ فإنَّنا نقول: إنّ الثّغور لا تقتصر على حمل السّلاح وبذل الدّم، بل إنَّ ثغور المواقف وتقدّم الصّفوف وقول الحقّ بلا خشية، وإعلان الحقائق بلا مواربةٍ، ومجابهة الظالمين بلا وجل، والصّدع بالهويّة بلا خجلٍ، وترشيد سبيل العاملين بلا كللٍ؛ ما تزال ممتدة على مساحة هذه الأمّة، وقد تأخّر عن كثيرٍ من العلماء عن هذه الثغور مكتفين ببياناتٍ خجولةٍ أو فتاوى فيها من المداراة السياسيّة واللغة البراغماتيّة ما عجز عنه كثيرٌ من السّياسيين.
العالِم ليس مطلوبا منه أن يمارس الفعل الجماهيريّ والإغاثيّ والمدنيّ فحسب؛ ويستغرق فيه وقته كما يفعل البعض وكما يمكن أن يفهم البعض، ولكنّ أقلّ المطلوب أن ينزل إلى الميدان فلا يبقى متقوقعا بين دفوف الكتب ورفوف المكتبات، ولا أن يظنّ أنّه أدّى المهمّة بدرسٍ مسجديّ، أو بالتوقيع على بيان جماعيّ أو فتوى مشتركة
إنَّ العالم العامل هو الذي تكون خزائنه المملوءة علما دافعا له إلى العمل؛ الذي يتجلّى في تحسّس الثّغور التي تحتاج إليه والمسارعة إلى الرّباط فيها.
وما زال العلماء يردّدون في مجالسهم البيت المشهور:
وعاملٌ بعـلمِه لم يعْمـلَنْ
معذَّبٌ من قبلِ عبَّاد ِ الوثنْ
ولكن مفهوم العمل ما زال فيه الكثير من الدّعة في التفسير، التي تتنافى مع قول الله تعالى في وصف العلماء: "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبا"، وعدم الخشية يقتضي الإقدام وتقدّم الصّفوف وسدّ الفراغ وملء الثّغور.
وهنا لا بدّ من بيان أنَّ العالِم ليس مطلوبا منه أن يمارس الفعل الجماهيريّ والإغاثيّ والمدنيّ فحسب؛ ويستغرق فيه وقته كما يفعل البعض وكما يمكن أن يفهم البعض، ولكنّ أقلّ المطلوب أن ينزل إلى الميدان فلا يبقى متقوقعا بين دفوف الكتب ورفوف المكتبات، ولا أن يظنّ أنّه أدّى المهمّة بدرسٍ مسجديّ، أو بالتوقيع على بيان جماعيّ أو فتوى مشتركة.
كما أنّ عليه أن لا يغرق في ردهات الفنادق وكثرة المؤتمرات، فيظنّ أنّه أدّى واجبه بقدر ما يشارك في مؤتمرات وندوات ومنتديات ولقاءات غالبها يطغى عليها المجاملة، ويبرّر لنفسه صنيعه بأنّ وقته كلّه في شغل لأجل الدّعوة والإسلام؛ فصالات الفنادق على أهميّة ما يجري فيها من اجتماعات ومؤتمرات تصلح أن تكون منطلقا نحو الثّغور لكنّها لا تصلح أن تكون هي الثّغور على الإطلاق.
الرّسالة الثّانية: إلى علماء السّلاطين وعلماء الإعلانات التّجاريّة
تأتي الدّماء التي تزيّن أجساد العشرات من علماء ودعاة وخطباء غزّة لتصفع العديدَ من العلماء والدّعاة ممّن تصدّروا الفضائيّات والشّاشات ووسائل التّواصل الاجتماعي؛ فاستخدموا الشّريعة لخدمة الحكّام حينا، أو لخدمة أغراضهم التّجاريّة فغدت صفحاتهم وحساباتهم مرتعا للإعلانات المأجورة للعطور والأدوات المنزليّة وغير ذلك، ولتضعهم في مأزقٍ أخلاقيّ جديد أمام أنفسهم التي أهانوها وأمام الشّريعة التي يحاولون تجميل صورتهم بها.
كما أنّ استشهاد هذه الثلة المباركة في غزّة العزّة يضع النّاس أمام نموذجين للعلماء وحاملي الشّريعة؛ نموذج يضحّي بالشّريعة لأجل رضى الحاكم ويستخدمها للنفاق والمداهنة والتكسّب، وهذا النّموذج يتمّ تصديره وترميزه والاحتفاء به فيظنّ المتابعون أنّه حامل الشّريعة وممثّلها.
ثم تأتي غزّة لتفصح عن النّموذج الثّاني، وهو نموذج العالم الذي يخدم الشّريعة بصمتٍ، ويتقدّم إلى مكامن الخطر، لا يداهن ولا ينافق، بل يضحّي بروحه لأجل فكرته، ويذود بنفسه عن مبدئه؛ فيعرف النّاس حينها من بكى ممن تباكى، ويفرّقون بين النّائحة المستأجرة والثّكلى.
وإنَّ بروز هذا النّموذج هو من حفظ الله تعالى لدينه، وحمايته للأجيال التي بدأت يتزعزع الإيمان بالفكرة في أعماقها من هول ما يرون من مواقف تبعث على الغثيان من العلماء الذين باعوا دينهم بدنياهم حينا وباعوا دينهم بدنيا الحكّام أحيانا أخرى؛ حيثُ يرى النّاس نموذجا حقيقيّا لحمل الشريعة يتّفق مع ما في وعيهم عن صورة العالم الحقّ.
الرّسالة الثّالثة: في مسؤوليّة العلماء تجاه فلسطين وما يجري بها
البيانات التي تبيّن الحكم الشرعيّ الواجب مهمّةٌ وضروريّة؛ لكنّ الاكتفاء بها هو تخلٍّ عن المسؤوليّة بطريقة أو بأخرى، وكما حمل ثلة من دعاة غزة سلاحهم وتقدّموا الصّفوف مشتبكين ولقيت ثلة أخرى منهم ربها وهم مرابطون في ميدان التثبيت للناس في هذه الحرب غير المسبوقة
عندما يقدّم ثلة من علماء ودعاة فلسطين دمهم وروحهم على خطوط الاشتباك المتقدّمة مع الاحتلال الإسرائيلي؛ فهم بهذا يطرحون على العلماء في الأمّة -وكثيرٌ منهم صادقٌ متحرّق- سؤالا مفاده: ما هو واجبكم أنتم اليوم سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى المؤسّسات في مواجهة الحرب الإجراميّة الصهيونيّة على غزّة والعدوان الصهيونيّ المستمر على القدس والأقصى؟
إنّ البيانات التي تبيّن الحكم الشرعيّ الواجب مهمّةٌ وضروريّة؛ لكنّ الاكتفاء بها هو تخلٍّ عن المسؤوليّة بطريقة أو بأخرى، وكما حمل ثلة من دعاة غزة سلاحهم وتقدّموا الصّفوف مشتبكين ولقيت ثلة أخرى منهم ربها وهم مرابطون في ميدان التثبيت للناس في هذه الحرب غير المسبوقة، فسلاحكم اليوم هو الكلمة والموقف ولا قيمة للسلاح إذا لم يُشهَر ويستخدم، ولا وزن للموقف إن كان في الصّفوف الخلفيّة، ولا قيمة للفعل إن لم يكن مرابطة مستمرّة.
ألم يقل سيّد قطب يوما: "ستبقى كلماتنا عرائس من شمع، حتّى إذا متنا في سبيلها دبّت فيها الرّوح وكتبت لها الحياة".
وإنّ أقلّ المطلوب من العلماء حتّى تدبّ بقيّة روح في كلماتهم وبياناتهم وفتاواهم المناصرة لفلسطين؛ أن يضعوها على قائمة أولويّاتهم تحرّكا وعملا وبرمجة وتخطيطا وتنفيذا.
مطلوب منهم أن يقفوا مليّا أمام صور علماء ودعاة وخطباء غزة المتسربلين بدمهم وقد أدّوا ما عليهم وأدّوا حقّ العلم الذي يحملونه بين جنبيهم؛ وأن يسألوا أنفسهم: وماذا عنّا نحن؟!
x.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العلماء غزة الشهداء الكلمة غزة علماء شهداء الكلمة مقالات مقالات مقالات رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من العلماء وتقد م
إقرأ أيضاً:
يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان
بعد سقوط البشير واستقالة صلاح قوش ومن بعده جلال الشيخ، تغولت الاستخبارات العسكرية على ملفات جهاز المخابرات وسيطرت على معظم موارده، وتقاسمته مناصفة مع الدعم السريع، الاستخبارات على المعلومات والتحليل والقرار، والدعم السريع على المقار والموارد الفنية..
تحول جهاز المخابرات إلى جسد بلا روح، يتم ابتزازه سياسياً من قبل قحت بماضيه وانتماءات منسوبيه لنظام الإنقاذ. كثير من عناصره انحنوا للعاصفة، فمنهم من تم إقالته ومنهم من دخل في حالة كمون وانتظار ومنهم من طاوع الحكام الجدد وأدار ظهره لولائه السابق ومنهم من قاوم مشروع الحكم الجديد بممانعة صامتة..
كان الهدف بعد سقوط البشير وبعد حادثة هيئة العمليات أن تكون السيطرة الكاملة لصالح الاستخبارات العسكرية، وكان الرأي الغالب لدى قيادات الجيش أن يدار الجهاز بواسطة ضباط من داخل المؤسسة العسكرية، مثل الفريق جمال عبد المجيد. لم تنجح التوجهات الجديدة لأسباب تتعلق بعدم دراية هؤلاء الضباط بطبيعة الثقافة المؤسسية الطاغية على عمل الجهاز وبطبيعة العمل الأمني في شقه المدني ولغياب الرؤية المشتركة بين الضباط القادمين من الجيش مع الشباب الذين تخرجوا من مؤسسة الجهاز، بالإضافة لتعدد الولاءات داخل الجهاز نفسه بين ولاءات تقليدية وولاءات حديثة مرتبطة بالعناصر المدخلة من قبل مجموعة حميد-تي والنظام الجديد ..
صحيح لم يستطيع حميدتي ابتلاع الجهاز كلياً، لكنه أحدث فيه اختراقات عميقة وخلق حالة من الاهتزاز الداخلي جعله جهاز فاقد للفعالية ومكبل بعزلة سياسية وحالة عداء شعبي مرتبط بديسمبر والخطابات الميدانية الرافضة لعناصره. فحالة الهياج الشعبي الرافض للجهاز ولعناصره وظفها حميدتي لجعل دور الجهاز محصور فقط في جمع المعلومات وتكبيل اي خطوات وقائية يمكن أن يقوم بها وحصرها فقط على الد-عم السريع ..
الأن وبعد قيام الحرب ومع بدء الجهاز في استعادة توازنه وفك قيود التكبيل التي مارسها عليه حميد-تي، يجب على قيادة الدولة أن تسمح بإعادة جهاز الأمن إلى عمله وفق هيكلة جديدة تعيد له صلاحياته الفنية في التحليل والتأمين والتحرك خاصة في الأحياء السكنية وملء الفراغ الاستخباراتي داخل المدن. المطلوب هو فك الارتباط والتداخل بين استخبارات الجيش والجهاز ، خصوصاً على الملفات الأمنية ذات البعد المدني وترك إدارتها للجهاز ، مع زيادة التنسيق بينهم بعيداً عن التعامل مع الجهاز بنظرة ديسمبرية قللت من فعاليته وساهمت في تهميشه. يجب منح الجهاز صلاحيات جديدة تتناسب مع حالة الحرب وتتلاءم مع طبيعة المهددات الأمنية التي تهدد السودان .
حسبو البيلي
#السودان