مائدة السودان المستديرة أين ولماذا؟
تاريخ النشر: 19th, June 2024 GMT
أماني الطويل
على الرغم من أن وقفا لإطلاق النار في السودان يبدو بعيدا نسبيا بالمعطيات العسكرية الراهنة، والإرادات السياسية المرتبطة بها، إلا أن قطاعا من النخب السودانية قد يكون محدودا، يحافظ علي موقعه كناشط معزول عن معطيات الواقع في الحل السياسي للمعضلة السودانية، ومعزول أيضا عن حالة الناس العادية، ومدى حاجتهم إلى السلم والأمن وسط محارق مستدامة للمدنيين على امتداد الجغرافيا السودانية، ومعزول ثالثا عن المتغيرات التي أفرزتها الحرب السودانية وتداعياتها المنتظرة على النسيج الاجتماعي السوداني، والذي بات منقسما على قاعدة الكراهية المتصاعدة والمهددة لكيان الدولة.
في هذا السياق، نشهد طرحا من جانب البعض بشأن أين تعقد مائدة للحوار الوطني السوداني، حيث يتم استبعاد القاهرة على اعتبار، أنها سوف تكون غير حادبة على تحول ديمقراطي في السودان، وعلى اعتبار، أنها يجب أن تدفع ثمنا دبلوماسيا لعدم وقوفها مع القوي السياسية السودانية إبان ثورة ديسمبر، وعلى اعتبار أنها حاضنة سياسية للمكون العسكري الرسمي الذي يمثله الفريق عبد الفتاح البرهان.
وفي حقيقة الأمر، لن أدافع عن القاهرة باعتبارها واحة للديمقراطية فهي ليست كذلك، ولكن هل مصر وحدها في المنطقة التي لا تريد تحولا ديمقراطيا في السودان، هل منطقتنا التي نعيش فيها هي دول ديمقراطية تدفع نحو تحول سياسي في السودان، وتدافع عن ديمقراطيته، بينما تقف مصر في المعسكر الآخر تحارب السودان ودول المنطقة معا من أجل الديمقراطية في السودان.
والسؤال إذا كانت شعوب المنطقة نعاني من نظم شمولية غير ديمقراطية بشكل عام، فلماذا تسكت هذه الشريحة من النخب السودانية عن الآخرين الذي مارسوا نفس الممارسات، بل زادوا عليها بتسليح ودعم قوات الدعم السريع التي مارست كل أنواع الانتهاكات غير الإنسانية والتي تم إدانتها دوليا!!!
السؤال الثاني، لماذا يتم إنكار وتجاهل عامل الانقسام السياسي السوداني؟ والذي يملك بعدا ثأريا تاريخيا كعامل مقوض للتحول الديمقراطي السوداني، وهو العامل الذي أسهم بدرجات متفاوتة في إجهاض نظم حكم ديمقراطية قامت بالفعل في السودان بعد ثورتي أكتوبر ١٩٦٤ وإبريل ١٩٨٥، حيث نجحت القوي السياسية الديمقراطية في الوصول الي سدة الحكم، ولكنها لم تستطع، أن تحافظ عليه بالممارسات الذاتية الانقسامية، الأمر أتاح للنخب العسكرية فرص الانقلاب عليها بأريحية، بعد أن ضج الناس من تعطل المصالح وفشل الأجهزة التنفيذية للدولة.,
السؤال الثالث، هل أصل الصراع السوداني هو بسبب معركة التحول نحو الديمقراطية فقط، أم أن هناك أسبابا عرقية وقبلية وراء هذا الصراع؟ شكلت تحديات أساسية أمام ثورة ديسمبر ٢٠١٨، هل نسينا مثلا الصراعات المسلحة التي بزغت في دارفور الي درجة استدعت زيارات عاجلة لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى الإقليم، وهي الزيارات التي تم في أحدها نجاة وزير العدل من محاولة اغتيال، هل ننسي العامل القبلي في شرق السودان؟ وكيف تم استخدامه وتوظيفه ضد قوي الثورة بعد ارتكابها أخطاء في فهم التركيبة القبلية في هذه المنطقة وارتكابها أخطاء في احتواء هذا الواقع والتعامل معه؟
هل نسينا موقف الحزب الشيوعي السوداني من الشراكة المدنية العسكرية ودوره في انقسام قوي الثورة السودانية، والتي كانت تداعياتها المباشرة هي في انقسام تجمع المهنيين الذي كان النواة الصلبة للثورة السودانية، وأحد أهم مظاهر وحدتها وقوة المدنيين إزاء المكون العسكري السوداني بشقيه.
هل نسينا أيضا أن صيغة الشراكة المصنوعة في أغسطس ٢٠١٩، هي صيغة أمريكية بالأساس وعرابها إثيوبيا، وتم الاهتمام فيها بدمج مكون الدعم السريع في بنية فترة الانتقال أكثر من اهتمام واشنطن بإبعاد القوات المسلحة عن معادلة الحكم في السودان، أي أن التحول الديمقراطي نفسه لم يكن علي الأجندة الأمريكية بقدر ضمان وجود المكون العسكري في التفاعلات الداخلية، ولعل شهادة نعمة الباقر المتداولة عبر الأسافير، والتي تأكدت منها شخصيا عبر مقابلة خاصة، تثبت هذه الحقيقة، وكانت وراء تساؤلات طرحتها في مقالي على هذا الموقع “ماذا تريد واشنطن من الدعم السريع”؟
هل نسينا ثالثا أن قوي الحرية والتغيير الداعية للتحول الديمقراطي فشلت في تكوين المجلس التشريعي الانتقالي، بعد تكوين الحكومة المدنية الأولى؛ بسبب خلافاتها البينية، بل أن هذه الخلافات قد وصلت إلى حد أن يطرح رئيس الوزراء عبد الله حمدوك مبادرات شخصية في محاولة رأب الصدع بين القوي السياسية السودانية!!
وأخيرا وليس آخرا في هذا المقام هل نسينا أطماع المكون العسكري في الوصول إلى السلطة بشقيه، وكل طرف له داعم إقليمي مناصر له (مع الفروق الواضحة في حجم الدعم ونوعيته) فلماذا يذكر أحد الداعمين ولا يذكر الداعم الثاني في مقولات المهتمين بشيطنة القاهرة وحدها، وتجاهل تفاصيل كل هذا الواقع السوداني الذي يملك أبعادا معقدة ومركبة، لا يمكن نكرانها.
السؤال الأخير لماذا يتم شيطنة القاهرة تاريخيا مع كل تحول سياسي في السودان، ولماذا يتبنى قطاع من النخب السودانية هذا الموقف الذي ينكر المسئولية الذاتية السودانية، ويمارس استسهالا في تحميل الأطراف الخارجية مسئولية فشله في إدارة فترات الانتقال عبر التاريخ السوداني الحديث.
في تقديري، أن العامل الخارجي له دور كبير، في حالة السعي لإبعاد القاهرة عن حالة التفاعل الطبيعي مع السودان، حيث أن لها أسبابا مرتبطة بمخططات الاستفراد بالسودان، وعدم فتح المجال للتفاعل الإيجابي بين الطرفين حتى، لا يكونا قوة وازنة في تفاعلات منطقة الشرق الأوسط ، وهي حالة تمارس فيها الإدارات الغربية وبعض العواصم الإقليمية وأجهزة الإعلام دورا مقدرا، يساعد فيه أن أدوات وآليات القاهرة في التعامل مع السودان تحتاج إلى تطوير وإعادة نظر، وهو الموقف الذي انعكس علي تفاعلات قوي الحرية والتغيير مع القاهرة إبان الثورة، إذ وقعت أسيرة لصورة ذهنية تاريخية للقاهرة لم تسع لا لاحتوائها، ولا لتطويرها، بغية الحفاظ علي الثورة أولا، وتحقيق فرص نجاح للتحول الديمقراطي ثانيا، حيث تم تجاهل الإعلان المصري، أن القاهرة تحترم خيارات الشعب السوداني وذلك في يناير ٢٠١٩.
من هذه الزوايا، جاء الصدام بين القوى المدنية السودانية وبين مصر، وهو صدام تم تصحيحه لحد كبير مع استقبال مصر للجزء الأكبر للهاربين من جحيم الحرب، حيث تعد الحاضنة الأولي من حيث الحجم، ومن حيث النوعية، إذ أن تمثيلا سياسيا لكل القوى السياسية السودانية هو في مصر، وليس في غيرها من العواصم، وهو ما يجعلها موضوعيا هي عاصمة المائدة المستديرة، وذلك في تقديري لسببين: الأول هو أن المشكل السوداني في جانب كبير منه هو مشكل هوياتي عرقي، وبالتالي فإن القاهرة تقدم نموذجا ملهما في حالة الاندماج الوطني، الذي يشكل القاطرة الحقيقية للوعي بمصالح الدولة السودانية وضرورة استمرارها.
أما السبب الثاني، أن القاهرة باعتبارها نموذجا ملهما للاندماج الوطني لن تنحاز لعرق أو قبيلة وهي مسألة أساسية في معادلة وقف الحرب السودانية، وتحقيق التوازن المطلوب بين الأطراف القبلية والعرقية في اليوم التالي للحرب.
أما المسألة الثالثة، فإنه ليس للقاهرة مصالح واضحة ولا أجندة مسبقة في الموارد الاقتصادية السودانية ذات القيمة الكبرى، وذلك على اعتبار، أنها لا تملك لا قاعدة صناعية ولا تكنولوجية مناسبة للاستفادة من هذه الموارد على النحو الذي تستفيد منه الدول الكبرى.
وفي النهاية، فإن الموقف الأخلاقي والسياسي المسئول لأي من أفراد أو قطاعات النخب السودانية، هو نقاش وحدة القوى السياسية السودانية أولا، وليس شرذمتها، والسعي لبلورة معادلة لوقف الحرب وإنهاء معاناة المدنيين وتضحياتهم، هنا فقط لن تستطيع أي عاصمة، مهما كانت أدواتها فرض أجندتها على الأطراف السودانية. وهنا أيضا لن يظهر هؤلاء الذين يمارسون مراهقة سياسية تفتقد القدرة على قراءة المشهد بكل معطياته ومفرداته، وأهمها ضرورة وقف إطلاق النار وبناء عملية سلمية.
نقلا عن مصر 360
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السیاسیة السودانیة النخب السودانیة فی السودان على اعتبار
إقرأ أيضاً:
من بحري إلى بيالي: قصة الموسيقار اللاجئ الذي يبحث عن الأمل في المنفى
في مدينة بيالي الأوغندية، بعيدًا عن ضجيج الحرب وضياع الأحلام في السودان، يروي آلاف اللاجئين السودانيين قصصهم التي تتأرجح بين المعاناة والنجاح في المنافي القسرية. من بين هؤلاء، تبرز حكاية الموسيقار سعود، الذي كان يسكن منطقة الخوجلاب بمدينة بحري قبل أن تدفعه الحرب إلى مغادرة وطنه، تاركًا خلفه ذكريات عمر كامل، ليبدأ رحلة جديدة في معسكرات اللجوء.
كمبالا: التغيير
الحرب التي تجاوزت عامًا ونصف أجبرت آلاف الأسر السودانية على النزوح القسري، حيث بحثوا عن الأمان داخل البلاد وخارجها. يعيش معظمهم في ظروف إنسانية صعبة، تعكس حجم المعاناة التي فرضها النزاع على حياتهم اليومية.
سعود، المتخصص في العزف على البيانو والجيتار والكمنجة، يصف مسيرته الفنية بأنها رحلة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود، بدأت منذ طفولته في الحفلات المدرسية، واستمرت بالدراسة في معهد الموسيقى والمسرح، الذي أصبح لاحقًا كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان.
لحظة قاسيةيقول سعود: “الموسيقى كانت جزءًا من حياتي حتى قبل الحرب، لكن النزوح أضاف لها أبعادًا جديدة. رغم أصوات الرصاص التي أحاطت بنا، كانت الموسيقى دائمًا بداخلي؛ المعاناة كانت مصدر إلهام، وبدل أن تقيدني، فتحت لي آفاقًا للإبداع”.
عبر سعود مع أسرته الحدود إلى أوغندا، متجهًا إلى معسكر نيومانزي عبر منطقة اليقوا بجنوب السودان. يصف لحظة وصوله بأنها كانت قاسية: “كنا في حالة مزرية، وكانت ذكريات الوطن تطاردني. تركنا خلفنا كل شيء، ووجدنا أنفسنا أمام واقع جديد تمامًا”.
وسط هذه الظروف، كانت الموسيقى طوق النجاة. أطلق سعود مبادرة لدعم اللاجئين نفسيًا عبر الموسيقى، حيث شكّل فرقًا صغيرة من الأطفال والشباب لتقديم جلسات غنائية ودعم نفسي. يروي سعود: “في أول حفل نظمته، رأيت الدموع في عيون الناس، خاصة النساء. قالوا لي إن الأغاني أعادتهم إلى السودان، فبكيت معهم”.
تدريب الأطفالرغم التحديات، استمر سعود في تقديم تدريبات موسيقية للأطفال والشباب، على الرغم من انعدام الكهرباء وضيق المساحات في المعسكر. أنتج ست مقطوعات موسيقية خلال إقامته، لكنه لم يتمكن من تدوينها لعدم توفر النوتات الموسيقية.
يعاني اللاجئون السودانيون من أوضاع نفسية صعبة، حيث تلاحقهم ذكريات الفقد والنزوح القسري. ورغم ذلك، يواصل الكثيرون، مثل سعود، صناعة الأمل وسط الألم.
يقول سعود: “الموسيقى ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل هي رسالة أمل وسلام. سأستمر في استخدامها لتوحيد السودانيين وإعادة بناء الوطن”. في معسكرات اللجوء، تبقى أصوات الفنانين السودانيين شاهدًا على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى إبداع، وعلى قوة الموسيقى في خلق حياة جديدة حتى وسط أقسى الظروف.
الوسومآثار الحرب في السودان اللاجئين السودانيين في يوغندا معسكر بيالي للأجئين يوغندا