بقلم عمر العمر
علينا إعادة إعمال الذهن لبلورة مصطلحات متداولة على نحو مغلوط. ففي هذه الحرب اللعين تكشّف خلطنا بين الوطن والمواطنة، بين الدولة والحكومة فذهبنا في الغفلة لجهة الخلط عمدا بين الدين والدولة حتى بلغنا المماهاة بين الحق والباطل ،كما بين الطهر والعهر.فأزمتنا المذلة نتاج مراكمة خرقاء لخمول فكري -لا أقول فجور سياسي- بلغ دركه إبان سني الإنقاذ ثم استفحل فيما تلاها.
*****
فالوطن (عش المرء الذي فيه درج ومنه خرج،مجمع أسرته ومقطع سرته)حسب التعريف المبسط لرفاعة الطهطاوي.أما الوطنية فهي الشغف العاطفي بالانتماء لتلك الرقعة الجغرافية و الاعتداد بشعبها حد الاستعداد للتضحية من أجله وفي سبيل مصالحه. بينما الدولة هي نظام الحكم المتفق عليه لتسيير الحيويات السياسية ،الاقتصادية والاجتماعية لذلك الشعب في ذاك الوطن.أما الحكومة فهي آلية إدارة سلطة تلك الدولة. من هنا يجب الحديث بوضوح عن الدفاع عن الوطن والحفاظ على مؤسسات الدولة وتطوير أداء الحكومة دونما وجل . فنقد الإدارة الحكومية لا مساس له بأمن الدولة.كما أن اتهام قيادة الجيش بالتقصير يوازي مثله في حق إدارة ضمؤسسة المصارف -مثلا-أو العدل،غايته إصلاح حال الوطن. تلك الممارسة نقيض فاقع للخيانة الوطنية.
*****
مأزق الجماعة الإسلامية لا يتجسد فقط في منهجها الاجتراري .بل في تناقضها البنيوي.فهي تستهدف مقارعة خصومها بكسوة الدولة بالدين بينما يرتكز مشروعها الإلهي إلى إلغاء الوطن ومن ثم الدولة وصولا إلى أممية إسلامية.فكل دعاة الحركة الإسلامية يستهدفون تذويب الروابط الحزبية، الوطنية والقومية تحت وهج عصبية الوحدة الإسلامية. ربما من المفارقة اتساق هذه الرؤية مع الحلم الماركسي بذبول الدولة وصولا إلى دكتاتورية البروليتاريا. لكن على نقيض مفكري اليسار ينأى الإسلاميون عن مصطلحات سياسية مثل الديمقراطية، الانتخابات ، البرلمان ، الليبرالية والاشتراكية. بل يدمغها غالبيتهم بالإلحاد! ربما يناقض هذا الفكر حقيقة تاريخية. فمشروع الدولة الإسلامية ارتكز على محور قبلي إذ نشأ وترعرع في ظل قريش . ثم اتخذت محاولات الخروج علي القبيلة والعشيرة أشكال الصراع السياسي منذ التجاذب على خلافة الرسول الكريم مرورا بالدولة العباسية ثم الأموية إلى الإمبراطورية التركية.
**** *
نظام الإنقاذ يعج بكل هذه التناقضات.لعل أبرزها إعادة إذكاء عصبية القبيلة.هذا نهج ليس يضاد فقط مشروع الدولة الإسلامية بل داء يفت في جهود إقناع الشعب بقيادة تستحدث منظومة سياسية لصهر التنوع داخل بوتقة عدلية إنمائية جاذبة. كما لم يستوعب هذا المنهج تاريخ الدولة الإسلامية ، لم يواكب مفردات العصر السياسية فساهم في استفحال المحنة الراهنة. من المضحك المبكي انفجار الاقتتال الدموي الكارثي بين معسكرين يدعيان الانتماء إلى جذر قبلي واحد. فوفق أكثر الدعاوى ترويجا تصوير الحرب اللعين بأنها صراع بين عرب الغرب من جهة وعرب الوسط والشمال على الجبهة المقابلة. لعلها ادعاء فيه شيء من حقيقة لكنه ينطوي على كثير من الجهل. فالأكثر صدقًا وموضوعية إنها حرب زبانية نظام واحد تدثّر زورا وبهتانا بكساء الإسلام. بين العربيْن غانمون وخاسرون لكنهم ليسوا أكثر ضحاياها.
*****
ما لم نُعد قولبة مصطلحاتنا وفق رؤى حداثية لن ننجح في إعادة تأسيس دولة أفضل استقرارا.وقف الحرب هي الخطوة الأولي الملحة على هذا الدرب .المناداة ب(مخاطبة جذور الأزمة) في هذه المرحلة تستهدف القضية في مستنقع المحنة.فمن الممكن لك إعادة بناء بيت لكن من المستحيل عليك إعادة بناء حي سكني واحد في المدينة - تتباين امكانات ساكنيه - خلال الوقت نفسه. فما بالك حينما ترتبط المهمة بوطن كامل! النجاح في اسكات الحرب يمهد لاعادة بناء العقليات قبل الأحياء . من ثم تفكيك الأوهام المتخيلة العالقةبالمصطلحات كالربط بين المواطنة والإلحاد! دون تجذير المواطنة لن نستطيع بناء منظومة ديمقراطية.لا خلاف على أهمية القبيلة في المعمار المجتمعي.لكنها هي بؤر للتشظي ،الارتياب والتكتل خارج مركزية الدولة.
*****
اقصر الطرق لإعادة البناء الوطني يأتي عبر إسناد هذه المهمة إلى وجوه جديدة من غير النخب المتورطة في لعبة لحرب القذرة . فهذه قيادات ذات عقليات خربة حاملة انتماء ات ضيقة ،رؤى سياسية رومانسية ساذجة وأطماع فردية .لهؤلاء باع طويل في استفحال المحنة.كما تؤكد التجربةالمعيشة توغلهم في الإخفاق أكثر من جنوحهم إلى بر النجاح منذ قبولهم تقرير مصير الثورة بمحاورة العسكر.تلك لخطة تاريخية استوجبت وجود قيادات أنفذ رؤية وأكثر جرأة وأشد وفاءًا لشعارات الثورة.هذه نفسها شروط تأهيل قيادات الخروج من تحت ركام الحرب وانقاض الأزمة . فإعادة بناء معمار سياسي حداثي يسبق حتما إعادة بناء الدولة .
aloomar@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: إعادة بناء
إقرأ أيضاً:
المبعوث البريطاني يدعو القادة السودانيين لإعادة بناء المجتمع والنظام السياسي مع اقتراب الحرب من إكمال عامها الثاني
الخرطوم: «الشرق الأوسط» دعا المبعوث البريطاني إلى السودان، ريتشارد كراودر، زعماء البلاد، اليوم الأربعاء، إلى إعادة بناء المجتمع والنظام السياسي لمنع الانزلاق إلى الحرب مرة أخرى، وذلك مع اقتراب الحرب بين الجيش و«قوات الدعم السريع» من إكمال عامها الثاني، ونقل المركز الإعلامي لمجلس السيادة السوداني عن المبعوث البريطاني قوله بعد لقاء مع رئيس المجلس وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان إن التقدم الذي حققه الجيش خلال الأيام الماضية «سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة للسودانيين».
ويستضيف وزير الخارجية البريطاني، ديفيد لامي، مؤتمراً لدعم السودان في لندن بمشاركة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومنظمات دولية، وقال المبعوث البريطاني إن المجتمع الدولي سيتوحد لدعم السودان.
وأشار المبعوث البريطاني إلى أن هدف مؤتمر لندن هو «جلب السلام للشعب السوداني وإنهاء معاناة السودانيين، وليس بغرض فرض حلول من الخارج»، بحسب بيان مجلس السيادة السوداني. وقال كراودر إنه لم تتم دعوة أي كيان سياسي سوداني إلى مؤتمر لندن.
وذكر وكيل وزارة الخارجية السودانية، حسين الأمين، أن البرهان أوضح للمبعوث البريطاني أن الشعب السوداني «بحاجة إلى أن ينظر المجتمع الدولي لمعاناته جراء الانتهاكات التي تقوم بها ميليشيا (الدعم السريع)».
ونقل الأمين عن البرهان تأكيده رغبة الشعب السوداني في «وقف الانتهاكات في الفاشر ومعسكرات النازحين (في شمال دارفور) أكثر من حاجته إلى عقد مؤتمرات هنا وهناك»، وفقاً لبيان مجلس السيادة السوداني.
ويخوض الجيش السوداني حرباً ضد «قوات الدعم السريع» منذ أبريل (نيسان) 2023 بعد خلافات حول خطط لدمجها في القوات المسلحة في أثناء عملية سياسية للانتقال إلى حكم مدني.