موقع النيلين:
2024-06-27@07:52:50 GMT

عزمي عبد الرازق: بصرف النظر عن كل الكلام

تاريخ النشر: 19th, June 2024 GMT

رحم الله شوقي حين أيقظه الشوق، أنات الفقد، مما استوحش فيه، فبلغ يجاري كل ذلك الدمع، “كل المنــاهل بعد النِّيــلِ آسِـنَةٌ ما أَبعـدَ النِّيــلَ إلاّ عن أَمانِينَـــا” وأنا مثله، أعرف تلك المُكابدة، لكنني، هنا، أو في ذلك الجسر المعلق، قُبالة توتي، الجزيرة الأُخرى، حين لم أدرك قيمة المكان ولا العمامة التي ابتلعت رأسي، أي كانت توحي، لبلاد الخرتيت، أو لدولة ٥٦، فكل ما يهمني ويهمكم، أنني فقدت كثير من الأشياء العزيزة، كل ما أملكه حرفياً، أو آلفته، شارع الجرائد، البيتش، إذاعة القرآن، مسجد السيدة سنهوري، الحديقة النباتية، الباخرة كهرمان، وأشيائي الصغيرة، كُتبي، مفتاح الشقة، الشقة كلها، الجاكيت الأزرق، اللابتوب، ألبوم الصور، نصف دزينة من الأحذية، صورة قلب وسهم نحيل، والسيارة أخيرًا، تم شفشفتها قبل العيد بيوم، بعد تشليعها بحقد، لسبب غامض، لا يتعلق بقيمتها على الأرجح، ولذا حين سمعت بالخبر، قلت كما قال دوستويفسكي “لقد سرقوا مني كل شيء تقريباً، ثم أعطيتهم الباقي من تلقاء نفسي!”، أصبحت أقرأ له كثيراً، دوستويفسكي، الحبر الأعظم للرواية الروسية، وقد تجلى في الليالي البيضاء، الجريمة والعقاب، في قبوي، الإخوة كارامازوف، الرسائل كلها، الى ماريا دوستوفسكايا، لكنه صعقني مرة آخرى، كاتبي المفضل، ولم أظنه سيكتبني “انتهى الزمن الذي كان فيه أهلنا يخافون علينا في الغربة، وأصبحنا نحن في غربتنا نخاف عليهم في الوطن”، هل قال ذلك؟ نعم.

من يقصد؟ نحن بالطبع، الجميع، دياسبورا الملاجئ الجديدة، أليس ذلك البيت يخصنا؟ وتلك الحديقة، موتور المياه، الثلاجة، متجر الورثة، المزاريب، ألواح الطاقة الشمسية، مخزن الكراكيب القديمة، زكائب المرح المحشوة بالهواء، الصحاب، الجارة الجميلة، والجَارِ ذي القُربى والجارِ الجُنُب.

بصرف النظر عن كل الكلام، كنت أسأل دائماً ولا أجد الإجابة، مع يقيني المطلق، أنه لا يوجد أكثر تضرراً من الناس الذين لا تصطحبهم المفاوضات، أي مفاوضات، في جولاتها، وهو القلق الحاضر، هل سوف يسدد حميدتي فاتورة ما نهبته قواته، أو دمرته، في سبيل تحقيق مآربها، رغبته القاتلة، أو من استأجره، أو بالأحرى، كيف ستعوضنا، تشاد، الإمارات بما ألحقت بنا من أذى، أم ستكتفي بطرود التمر والشاش وخيم الإيواء؟ وهى إجابة تقريبًا، لفرط التشاؤم، أو من خذلان ما رأينا أعرفها، مثل ما أعرف وقع خطوات أمي في الظلام، لا شك أنني أفتقدها، هذه الأيام، ولم أتخيل بعد هذا العمر، أنني لا زلت، رغم البعد، عالق في حِجرها، وكذلك أفتقد الجزيرة وكناراتها، وتلك القرى التي استباحها الجنجويد، وضبوا إليها ضبوء السّبع للطريدة، قال لهم أميرهم، رهين المحابس الخليجية، إن مجزرة ود النورة كانت معركة عسكرية ضد الفلول، يا عيب الشؤم على خطاب العيد!

لهفي عليك يا أم الفقراء، ولدك البطل في القيادة، ينافح عن شرفه العسكري، عن بلاده لتبقى عزيزة، والآخر اصطحب الأخوات، وفر إلى مصر، عبر المفازات، بكاسي اللبن، من مهانة إلى مهانة، زحف طويلاً، حتى وقع في قبضة الصحراء العنيدة، عند التخزينة، بالقرب من الكسارات، ماتت شقيقته بضربة شمس، ولحقتها الآخرى، عطشى، دفنهم هنالك، ودفن معهم قلبه، أخرسه الدمع، لم يعرف هل يواصل أم يعود، لهفي عليك يا أمه، تبقى لك الصبر، لعل الله يوفيك أجرك بغير حساب.

وأيضاً في تلك القرية التي نحبها، كانت لحظة لا يمكنك أن تتخيلها، سيناريوهات الدم، مقتل أمير ود العمدة، أمام والدته المريضة التي يرعاها، وهو الذي لا يعرف، ولا يهتم بالسياسة، أو بالحكم، لا يتذكر حتى اسم آخر معتمد للكاملين، فجأة أصبح أبلده أم قاش، فلولي مُندس، وهو في الحقيقة كل ما يهمه، أو يستغرق تفكيره، الخريف، السعر التركيزي لقنطار القطن، بابور الحراتة، سوق المحاصيل في المعيلق، وإن أبعد النُّجْعَة، ربما يسأل عن أخبار شبكة بنكك، لأن ثمة حوالة عالقة، فيا رب أن أمير ود العمدة، خالي، ومئات الشهداء، في رحابك، وأنت الرحيم، يا من لن يُضطهد من آوى إلى ظلّ كفايتك، يا خالق الوحش والسوسنة، يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.

عزمي عبد الرازق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

حلو الكلام.. صديقتي.. شدت على يدي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق صديقتي.. شدت على يدي،
وقالت: لن أجىء غرفتك
لا بد أن نبقى معا إلى الأبد..
ولم أرد
لأن ثوب العرس في معارض الأزياء
نجمة تدور في سراب
لم أزل أدق بابا بعد باب..
وخطوتي تنهيدة،
وأعيني ضباب..
حتى وصلت غرفتي في آخر المطاف
وهرتي تلد..
مواؤها عذاب أثنى ليلة المخاض
أنثى وحيدة تلد..
وأخلد الجيران للسكون
وقطهم جاف على نافذة بين
يعلق في فروته الناصعة البياض
يعلق عن فروته عذاب هرتى المتحد
.. سعت إليه ذات ليلة،
ولم تسله ثوبًا للزفاف
لأن ثوب العرس في معارض الأزياء
نجمة تدور في سراب

مقالات مشابهة

  • حلو الكلام.. سماء صافية وحديقة خضراء
  • رئيس شعبة الأجهزة الكهربائية يطالب الحكومة بإعادة النظر في قرار غلق المحال 10 مساء
  • حلو الكلام.. الشهداء لا يتشابهون
  • إرضاء الناس غاية قد تدرك
  • النهوض من القاع: شاب يروي قصة نجاته من المخدرات
  • روحي تعبة بعد أن فقدت وهج المحبة
  • حلو الكلام.. صديقتي.. شدت على يدي
  • مصطفى عبد الرازق.. مؤسس المدرسة الفلسفية العربية
  • بن تاهية: المفوضية مضطرة لاعادة النظر في المدد الممنوحة للتسجيل
  • السوداني يوجه بصرف مكافأة لكل بحث يُنشر في المجلات العالمية