يورو 2024.. اختبار جديد للفصل الوهمي بين الرياضة والسياسة
تاريخ النشر: 19th, June 2024 GMT
في سعيها لتحصيل لقب كأس أمم أوروبا للمرة الرابعة في تاريخها، قررت ألمانيا أن تلقي بالسياسة خلف ظهرها هذه المرة وأن تضع نصب عينها مهمة إنجاح البطولة المقامة على أرضها رياضيا وأمنيا.
وعلى خلاف كأس العالم في قطر 2022، لم يكن هناك حديث هذه المرة في الدوائر الأوروبية والألمانية عن شارات القيادة الداعمة لمجتمع المثليين على أذرع اللاعبين ولا أيضا الشعارات العلنية المؤيدة لأوكرانيا في حربها ضد روسيا.
غير أن الزخم المتزايد خلف الاحتجاجات المنددة بالحرب الإسرائيلية الدامية ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، من شأنه أن يجعل برلين واقفة على قدم واحدة.
وفي حين يسعى الساسة الألمان -وبإيعاز من الاتحاد المحلي لكرة القدم- إلى مشاهدة بطولة خالية من السياسة بالملاعب والمدرجات وساحات المشجعين، فإن هذه المهمة لا تبدو مضمونة قياسا إلى التداخل التاريخي بين السياسة والرياضة وإلى الظرفية العالمية المتوترة راهنا.
ألمانيا تأمل مشاهدة بطولة خالية من السياسة بالملاعب والمدرجات وساحات المشجعين (غيتي) الفصل الوهميلطالما كانت السياسة في قلب الرياضة منذ بدايات الألعاب الحديثة بالقرن العشرين، مثل الألعاب الأولمبية في برلين بالذات عام 1936، والتي مثلت الركن الأساسي في الدعاية النازية آنذاك ومختبرا للتدليل على نظرية تفوق العرق الآري قبل أن يحبطها العداء الأميركي ذو البشرة السمراء جيسي أوينز الحائز على 4 ميداليات ذهبية في الدورة ذاتها.
وتعد "حرب كرة القدم" بين هندوراس والسلفادور عام 1969 أبرز أدلة القرن العشرين بشأن التداخل بين السياسة والرياضة ومدى قدرة كرة القدم على الاستقطاب.
إذ كانت المواجهات الثلاث بين منتخبي البلدين الجارين، بما في ذلك المباراة الفاصلة للتأهل إلى نهائيات كأس العالم بالمكسيك 1970، كفيلة بإشعال حرب استمرت 4 أيام بين البلدين غذتها أزمات سابقة عالقة ترتبط بالهجرة والتملك الزراعي لمهاجري السلفادور في هندوراس.
View this post on InstagramA post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)
لقد ظلت الكره في كثير من السياقات التاريخية والثقافية مرادفا لـ"الحرب" وهو ما لخصه الصحفي سايمون كوبر في كتابه "الكرة ضد العدو" بقوله إن فوز هولندا على ألمانيا أو أيرلندا على إنجلترا بمثابة الفوز بحرب، نظرا للعداوة التاريخية والسياسية المتجذرة بين تلك الدول.
ولم تكن الرياضة بعيدة عن تلك القاعدة تحت غطاء الحرب الباردة، فكان مونديال 1974 في ألمانيا بالذات عنوانا بارزا لأحد فصول هذا الصراع عندما تواجه منتخبا ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية وجها لوجه في دور المجموعات في مباراة سيطر عليها الشحن الأيديولوجي.
وقد بلغ هذا الصراع ذروته لاحقا، عندما تبادل المعسكران الغربي والشرقي المقاطعة الرياضية لأولمبياد موسكو 1980 ومن ثم لوس أنجلوس 1984 بالمثل.
وتحتفظ ذاكرة الرياضة بأكثر المباريات "حربية" بالقرن العشرين عندما حمل أسطورة كرة القدم دييغو مارادونا على عاتقه مهمة رد الاعتبار إلى الأرجنتين بعد هزيمة حرب فوكلاند ضد بريطانيا، ليسجل هدفين ضد الإنجليز بالدور ربع النهائي من مونديال مكسيكو 1986، أحدهما معروف بـ"يد الآلهة" والآخر هدف خارق.
مارادونا يسجل هدفه بيده في مرمى إنجلترا في مونديال مكسيكو 1986 (مواقع التواصل) دبلوماسية كرة القدمولكن كرة القدم لم تكن "ساحة حروب" فقط، فهناك ما يكشف عن دبلوماسية فعالة للرياضة في إذابة الجليد والتغلب على العداوات بين الدول والشعوب، إذ ساعدت "معجزة بيرن" -التي حققها المنتخب الألماني بفوزه بمونديال سويسرا عام 1954 ضد العملاق المجري آنذاك- في إعادة التعريف بألمانيا على الساحة الدولية فترة ما بعد الحقبة النازية المظلمة.
وللمفارقة، منح مونديال 1990 في إيطاليا زخما احتفاليا واسعا لألمانيا الموحدة بعد أشهر قليلة من سقوط جدار برلين تحت وطأة الثورات الملونة التي اجتاحت دولا من المعسكر الشرقي، لاسيما وأنه تزامن مع التتويج باللقب ضد منتخب الأرجنتين.
ويحسب لدبلوماسية الكرة أنها نجحت في جمع زعيمي تركيا وأرمينيا لأول مرة على مدى نحو مئة عام -على خلفية العداء التاريخي بين البلدين والجراح المتوارثة عن مذابح الأرمن أثناء الحكم العثماني- وذلك أثناء مباراة ودية بين المنتخبين عام 2008 في يريفان حضرها آنذاك الرئيس التركي عبد الله غول والرئيس الأرميني سيرج سركسيان.
ومثلما شرح كوبر كيف أن الكرة قد تتحول كذلك إلى موقف ومسار تصحيحي للسياسة، فقد شكل رياضيون في مرتبة الأيقونات بمواقفهم النضالية اختراقا ضد سياسات القمع والعنف والدكتاتورية والتمييز العنصري، وهو ما يتضح في موقف اللاعب مسعود أوزيل حين ندد بقمع أقلية الإيغور المسلمة في الصين، وهو ما يعد أحد أكثر المواقف النضالية المدوية بوجه السلطة المركزية في بكين.
وقبل ذلك بعقود نجح العداءان الأميركيان تومي سميث وجون كارلوس في الصدع بأكثر التعبيرات السياسية قوة في التظاهرات الرياضية، ولفت أنظار العالم الى التمييز العنصري ضد السود بالولايات المتحدة. ولا تزال تحيتهما الشهيرة -على منصة التتويج في أولمبياد مكسيكو لعام 1968 ملوحين بقبضتيهما الموشحتين بقفازات سوداء- تلهم الكثير من الأجيال اللاحقة.
ويقول كايل لونجي مدير برنامج الحرب والمجتمع جامعة تشابمان في مقال لـ"واشنطن بوست" نشر بمناسبة أولمبياد طوكيو عام 2021 "قياسا على حوادث التاريخ، قد يضج المحافظون بالشكوى من تسييس الأولمبياد دون الاعتراف بأن المنظمين البيض والعنصريين لطالما نظروا إلى المباريات باعتبارها ساحة لتعزيز وجهات نظرهم السياسية. لقد شكلت العنصرية -ومازالت- تشكل جانبا من الرياضة وهي قائمة لدى بعض المجتمعات".
تومي سميث أمام صورة تاريخية له مع جون كارلوس يرفعان قبضتيهما للتعبير عن معارضة العنصرية (الفرنسية) الظرفية العالميةتجري بطولة أمم أوروبا بألمانيا في أعقاب زلزال سياسي أحدثه الفوز الكبير لليمين المتطرف في مناطق بأرجاء أوروبا أبرزها فرنسا، وفي ألمانيا بالذات حيث بات حزب "البديل" المتطرف فعليا القوة السياسية الثانية في البلاد مع ما يحمله هذا الفوز من دفعة قوية لأطروحاته المناهضة للهجرة والإسلام داخل البلاد.
كما يعني فوز اليمين المتطرف انتكاسة لـ"العقد الأوروبي الأخضر" ولخطط الاتحاد لتحقيق خطة "الحياد المناخي" وهذا قد يحفز الآلاف من المتحمسين لقضايا المناخ تقليديا للاحتشاد في المدن الألمانية أثناء البطولة بهدف رفع أصواتهم.
وكانت الجبهة اليمينية في البرلمان الأوروبي قدمت مقترحا لإسقاط "قانون استعادة الطبيعة" الذي اقترحته المفوضية، وفي النهاية أقره البرلمان بفارق ضئيل (12 صوتا) في يوليو/تموز 2023.
وقد توقع خبراء من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية -في تقرير لهم- انتكاسة قوية للقانون نفسه، في حال لو صوت عليه البرلمان الجديد بعد انتخابات 2024 وبفارق مريح للجبهة اليمينية يفوق 70 صوتا.
وكما ظهرت دعوات علنية ورسمية لوقف الإبادة الإسرائيلية بغزة في نهائي دوري أبطال أوروبا سيدات في بلباو بإسبانيا، فسيكون من الصعب تجاهل الدعوات ذاتها في منافسات اليورو لا سيما مع صدور انتقادات صريحة من دول مثل إسبانيا وبلجيكا تجاه السياسات الإسرائيلية.
وعلى الرغم من التزام الجهات الألمانية، فإن ما يحدث ضد الفلسطينيين يتوقع أن يكون له صدى في اليورو كما كان الأمر في الشوراع والساحات والجامعات، خاصة في ظل وجود منتخبات تمثل دولا ملتزمة بدعم القضية على غرار ألبانيا وتركيا ذات الجالية الكبيرة في ألمانيا.
وفي حديثه مع الجزيرة نت، أوضح محمد أمين كناني الإعلامي بمؤسسة "سكاي الرياضية" الألمانية أن الوضع برمته في ألمانيا يبدو على كف عفريت، فمن جهة جاءت نتائج الانتخابات البرلمانية مزلزلة للائتلاف الحكومي ومن جهة أخرى تريد برلين النجاح في البطولة واستعادة ثقة الجماهير بعد خيبات متتالية.
وتابع كناني في تحليله "فقد المنتخب التعاطف وضاعف من ذلك الفشل الرياضي، وقبل البطولة كان هناك إدراك داخل المنتخب بأن السياسة طغت على اللعبة وهذا ما جعل المنتخب تحت الضغط. والآن هناك رغبة بالتركيز على كرة القدم فقط، وقد ظهر ذلك في مباراة أوكرانيا الإعدادية.. لكن السياسة دائما موجودة وهي مقترنة بسياسات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم".
Cuando yo digo que las mujeres van a liberar el mundo…Final de la Champions Femenina y este es el mensaje que se lanza al mundo. Lo que los machitos del fútbol no han hecho: ¡Alto al GENOClDl0! ????????????????????pic.twitter.com/a5L4DI1irY
— El Necio (@ElNecio_Cuba) May 25, 2024
ألمانيا في قلب العاصفةلم تكن ألمانيا موفقة في اختبار "الحياد الرياضي" على الأقل قبل انطلاق البطولة، ويأتي هذا الإخفاق مضاعفا كونه ارتبط بجدل أخلاقي جديد، من خلال استطلاع محطة دبليو دي آر التلفزيونية المثير للجدل بشأن مدى التأييد لوجود المزيد من البيض في المنتخب.
وعلى الرغم من الانتقادات السياسية والرياضية التي لحقت الاستطلاع، فإنه يكشف عن حالة من الانقسام المجتمعي تجاه قضايا الاندماج والهجرة وآخرها نظرة الألمان إلى المواطنين الملونين، ولا تبدو الحكومة بدورها بمعزل عن سهام النقد في ظل الأداء السياسي والمواقف الدبلوماسية المتعثرة مما يحدث في قطاع غزة.
ومع ذلك، فإن الهاجس الأمني يظل التحدي الأول لألمانيا وهو ما اعتبره المستشار أولاف شولتس ووزيرة الداخلية نانسي فيزر "أولية قصوى" في مواجهة احتجاجات متوقعة، سواء تلك الداعمة للفلسطينيين أو المدافعة عن حماية المناخ، إلى جانب التهديدات الإرهابية المحتملة عقب هجوم الطعن المميت الذي راح ضحيته شرطي في مدينة مانهايم.
ولا تخفي المنظمة الشاملة لمساعدة المشجعين الألمان مخاوفها من انتهاكات للشرطة ضد الحريات والحقوق المدنية للمشجعين، على خلفية ما حدث في احتجاجات سابقة.
ويقول الإعلامي والمحلل السياسي الألماني كيرستن كنيب للجزيرة نت "لقد أظهرت الأشهر القليلة الماضية على وجه الخصوص أن الأحداث الكبرى لها دائما علاقة سياسية. وبالنسبة لكثير من الناس، لم يعد من الممكن الفصل بين الرياضة والفن من ناحية والسياسة من ناحية أخرى".
ويتابع "ينشأ النقاش حول هذا الارتباط دائما عندما تقام أحداث كبرى في دول تمثل إشكالية من وجهة نظر غربية، مثل تلك التي تقودها سلطة استبدادية".
ووفق المحلل الألماني، فإن الدعوة إلى الفصل بين الرياضة والسياسة أمر صعب، ولكنه يستدرك "قد يكون من المنطقي أن نطلب من جميع المشاركين -بما في ذلك الرياضيون والجمهور- الامتناع عن الإدلاء بتصريحات أو إظهار رموز سياسية في الملعب، وهذا من شأنه أن يجعل الأجواء في الملعب أكثر هدوءا على الأقل".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات فی ألمانیا کرة القدم وهو ما
إقرأ أيضاً:
ما بعد الأحزاب.. مستقبل السياسة في السودان
لهفي على السودان من دخلائه
لهفي على السودان من أحزابه
ليست الحرب وتداعياتها فقط ما يجب أن يخشاه السودانيون على مستقبلهم، فما الحرب إلا نتيجة لداء أعظم وأفدح، وما تداعياتها إلا عنوان فرعي لمحتوى مأساوي ومخيف. ما يجب أن يخيف السودانيين هو تفكك عُرى المؤسسات المعنية بالمحافظة على تماسك الوحدة الوطنية من ناحية، وعلى التخطيط المحكم للمستقبل من ناحية أخرى.
فقد تهاوت المنظومات السياسية والمؤسسات الاجتماعية التي بدأت في التشكل منذ فترة الحكم الثنائي الإنجليزي المصري (1898-1956)، تحت متوالية الفشل المستمر لكل أنظمة الحكم الوطني التي تعاقبت على السودان منذ فجر استقلاله الباكر، وإلى تاريخ الحرب الحالية التي تحكي مآسيها قمة فشل النخبة السياسية السودانية بجميع تياراتها المتصارعة (على اللاشيء).
وبالنظر المتعمق للراهن الوطني اليوم، تبرز الحقيقة المؤلمة أن السياسة في هذا البلد المنكوب قد وصلت إلى مرحلة الإفلاس الفكري التام، وتحطمت كل التجارب الفكرية يسارية ويمينية، قومية وإسلامية، طائفية وعسكرية دون أن تحقق المطلوب الوطني المتلخص في بناء نهضة شاملة تصون كرامة المواطن السوداني وتحقق طموحاته وأحلامه.
وما من خطر يهدد مستقبل الشعوب وراهنها إلا الوصول إلى مرحلة فقدان البوصلة نحو الأمام، وفراغ كنانتها من أي فكرة صالحة للتطبيق. وهل يجادل مجادل اليوم، وعلى وقع ما نعيشه، أننا استنفدنا طاقة التجريب لكل الأفكار ووصلنا إلى هذه النتيجة؟ نتيجة الانهيار الفكري الشامل والذي علامته غياب المشروع الفكري للدولة، وازدراء العقل وكل ما ينتج عنه من مواقف، وسيادة ثقافة التفاهة وتعظيم رموزها، وتناسل الكيانات الهلامية، والاستكانة للواقع المرير أو ما يمكن تسميته بالعجز المطلق.
إعلانولم يكن أمر الوصول لنقطة الفشل هذه غائبًا عن كل وطني مخلص، أو مثقف مستبصر، أو مواطن سليم الفطرة والنظر. ذلك أن جرثومة الفشل وُلدت باكرًا مع ميلاد الحركة الوطنية السودانية.
يقول غسان علي عثمان في كتابه عنف النخبة: "يصح لنا القول في هذه النقطة إن النخبة الأولى وعلى رأسها إسماعيل الأزهري هي من وضعت اللبنة الخبيثة في جسد الدولة السودانية عبر انتخاب أضعف الأهداف والتركيز على الهروب من الأسئلة المركزية".
ومع تمام الاتفاق مع غسان، نضيف أن هذه اللبنة الخبيثة سبقت تكوين مؤتمر الخريجين، إذ بذرت بذرتها مع ميلاد مجتمع المثقفين بعيد تأسيس كلية غوردون التذكارية التي بدأت في رفد الواقع السوداني بشريحة جديدة هي طبقة الأفندية، أو البروليتاريا الفكرية بحسب سبنسر تريمنغهام، الذي يصفهم بأنهم: "الذين تلقوا التعليم العصري ويرتدون الملابس الغربية، ويعانون التمزق الثقافي والحياة الدينية. كلهم تلقوا تعليمهم في السودان، إن أسلوب ومحتوى التدريب فيما عدا الدين هو الأسلوب والتدريب الغربي، وتأثيره تأثير ممزق، فضلًا عن كونه تأثيرًا موحدًا. لقد عرض عقولهم لدمار هائل وترك أرواحهم جائعة. لقد تعلموا كيفية أداء العمل الكتابي والفني ولكن ليس كيف يعيشون".
إذن، لقد كان لضعف التكوين الروحي والفكري للطبقة الجديدة دور كبير في طريقة تعاطيهم مع المعضلات الوطنية لاحقًا، وهو الذي انتهى بهم إلى الارتماء في أحضان الطائفية التي حاربوها ابتداءً، أو إلى التصالح مع فكرة الانقلابات العسكرية ورعايتها أو المشاركة فيها. وذلك بعد أن انهزمت دعوتهم لبناء كينونة مستقلة تجترح مسارًا وطنيًا بعيدًا عن الطائفية السياسية ورموزها التقليدية، من بعد ما "اكتشف المثقف السوداني أنه يعيش مرحلة تشكل وطني غير ناضج"، بحسب أبو القاسم حاج حمد، أو ضعيف الحيلة كما يعرفه غسان علي عثمان: "كثير الخطابة، عظيم الطلب، قليل الحيلة".
إعلانومن رحم ذلك الفقر في الرؤية، وانعدام الاستشراف المستنير للمستقبل، وُلدت الأحزاب السياسية بمخاض استبق تاريخ الاستقلال بسنوات قلائل. ومع بدايات فترات الحكم الوطني، استبان أن النخبة الوطنية التي وُلدت من رحم المؤسسات الاستعمارية لا تمتلك الحس التاريخي الكافي للتعامل مع وطن بحجم السودان، متعدد الأعراق والثقافات، متباين الديانات والأفكار.
بدأ الفشل حين عجزت هذه النخبة عن بناء مؤسسات وطنية مستقلة ومحايدة تكون ترياقًا للفساد والتسييس المُضر. عوضًا عن ذلك، تمسكت النخبة بما ورثته دون أي تطوير يضفي عليه روح الاستقلال الوطني، أو كما يقول وائل حلاق وهو يصف حال النخبة في البلاد العربية: "حافظت على هياكل القوة التي ورثتها من التجربة الاستعمارية التي حاربتها أثناء الحقبة الاستعمارية بعدما نالت بلادها ما يُطلق عليه اسم الاستقلال".
تجربة الحكم الوطنيتراوحت تجربة الحكم الوطني بين ثلاث حكومات ديمقراطية وثلاث حكومات عسكرية. كانت تجارب الحكم الديمقراطي من نصيب الأحزاب التقليدية: (حزب الأمة وطائفة الأنصار، والحزب الديمقراطي وطائفة الختمية).
كان العامل المشترك لحكم الأحزاب هو الانغماس في الخلافات الصغيرة، واتباع التكتيكات والمناورات (والانقسام على أسس شخصية وأيديولوجية)، كما لخّص روبرت كولينز صراعات الحزب الشيوعي. انسحب هذا الأمر على عدم قدرة هذه الأحزاب على المحافظة على الديمقراطية أولًا، وعلى عدم تقديم أي مشروع إستراتيجي للتنمية ثانيًا.
تحت هذا الفشل المتواصل من ناحية، وفي ظل التضييق الذي تعرضت له جراء الانقلابات العسكرية من ناحية أخرى، تحولت الأحزاب الطائفية إلى ما يشبه (الملكية الأسرية)، حيث ضاقت قياداتها التاريخية بالآراء الحرة وبالدعوات من أجل التجديد والانفتاح.
ومن المعلوم أن كبت الحريات داخل الأحزاب لا بد أن يؤدي إلى الانفجار والانقسام، وهو ما حدث بالفعل. حيث انتهى حزب الأمة إلى أكثر من خمسة أحزاب تحمل نفس الاسم وتتكئ على ذات الشريحة الاجتماعية التي ناصرت الحزب أول أمره بعد الاستقلال.
إعلانأما صنوه، الحزب الاتحادي الديمقراطي، فلا يقل انقسامًا وتشظيًا عن خصمه التاريخي. هذا الواقع المتشظي انتهى بهذه الأحزاب إلى ما يشبه الشلل التام، والعجز عن إطلاق أي مبادرة ذات قيمة وطنية.
أما الحزب الشيوعي السوداني، الذي كان ذات يوم أقوى الأحزاب الشيوعية في أفريقيا، فيبدو أنه قد استقال من الأدوار الوطنية البناءة متأثرًا بتداعيات انقلاب هاشم العطا بداية السبعينيات (والمقتلة التي قام بها النميري ضد قياداته). حيث أصبحت مواقفه دائمًا مبنية على الرفض المطلق لكل الحلول، بينما يقوم بالتعاون مع الحركات المسلحة ذات الصبغة اليسارية مكتفيًا في ذلك بدور المؤازرة والاحتجاج.
أما عن إنتاجه الفكري، فإنه في ظل تمسكه العنيد بسلفيته اليسارية العتيدة غادرته جموع مثقفيه الحائرين بين الليبرالية الجديدة والحنين إلى الاشتراكية المستحيلة. أما الحزب، فقد استبدل الأفكار بالأشعار، وأراح نفسه من الديالكتيك غير المنتج بأطروحة التغيير الجذري الغامضة والمبهمة.
لم يتبقَ من قوة مؤثرة في المشهد إلا (الإسلاميون)، الذين يتفوقون على كل هذه القوى السياسية بالحضور الجماهيري في القطاعين التقليدي والحديث. على أن رؤيتهم الكلية ومشروعهم الفكري لمستقبل البلاد بحاجة لمراجعات عميقة وإصلاحات جذرية، خاصة بعد خروجهم من تجربة الحكم الممتدة ثلاثين عامًا، وتعرض المشروعية الأخلاقية لأطروحة الحكم الإسلامي المستندة إلى فكر الصحوة الإسلامية لتحديات كبيرة، من حيث تصالحها مع المتغيرات الفكرية العالمية، وقدرتها على مخاطبة المخاوف المحلية والدولية، والتعايش مع واقع تتباين حقائقه مع جوهر النظرية التي تقوم عليها دعائم فكر الحركة الإسلامية الحديثة.
أما الشواغل الخاصة بالإسلاميين، فتتمثل في قدرتهم على تجاوز ما أفرزته تجربة سقوط الحكم على وحدتهم والمحافظة على فاعلية التيار الإسلامي، توظيفًا لقدراته البشرية فيما ينفع الوطن ويتجنب تجارب الأحزاب السودانية النزّاعة للانقسام (على أسس شخصية وذاتية).
إعلانوعلى الرغم من وجودهم المؤثر في مشهد معركة الكرامة، فإن (حجم التشويه الذي تعرض له التيار الإسلامي وعظم الضغوط الإقليمية) قيّدت طلاقته الوطنية الجهيرة وكبّلت قدرته على إطلاق مبادرات وطنية توازي حجم تأثيره المجتمعي.
يزيد هذا المشهد الحزبي المتداعي خطورة ظهور عامل جديد في السياسة السودانية، وهو (عسكرة العمل السياسي)، حيث صعدت إلى الواجهة حركات مسلحة تمارس السياسة، لا هي أحزاب بالمفهوم التقليدي للحزب ولا هي جيش نظامي يحتكر العنف لصالح الدولة كما ينادي ماكس فيبر. وبالتأكيد، لا يُنتظر منها رؤية لمشروع وطني للنهضة والازدهار.
يبقى أن نقول إن الأحزاب السياسية استنفدت طاقتها خلال المسيرة الطويلة، والمشهد بحاجة ماسّة لتأسيس جديد تقوم دعائمه على توافق وطني واسع وعريض يتفق على أن المسيرة السابقة قد أوصلتنا إلى (حافة الإفلاس). نحن بحاجة إلى تواضع جماعي نقر فيه بأخطائنا المشتركة، وإلى تصالح مع الذات يمنحنا القدرة على مراجعة مسلماتنا الفكرية التي ظننا أنها فوق النقد والمراجعة.
إن التطور الفكري في المجال السياسي أثبت أن الأيديولوجيات الصماء المنغلقة على نفسها قد تهاوت وتجاوزها الزمن، وأنه لا مناص من إعادة بناء المشهد السياسي على أسس علمية راسخة، وتشييد مؤسسات وطنية قوية مستقلة ومحايدة تتولى أمر التخطيط لمستقبل الدولة وصيانة وحدتها وقوتها.
أما الأحزاب السياسية، فإنها بحاجة إلى دراسة الظاهرة الشعبوية التي اجتاحت العالم وتجاوزت الدور القديم للأحزاب. وإن لم تفعل عاجلًا، فإنها لن تحافظ على الماضي ولن تبلغ المستقبل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية