تلبيس إبليس: المسألة الابراهيمية الخادعة.. قاموس المقاومة (31)
تاريخ النشر: 19th, June 2024 GMT
من مقصود "قاموس المقاومة" أن يذكرنا بمقولات مفتاحية أو كتابات معاصرة أو تراثية؛ فمن المهم تعلم معنى التلبيس ومداخله وطرقه الخادعة ومسالكه أن نتوقف فيه فهما وفطنة عند معاني التلبيس التي رصدها "ابن الجوزي" في كتابه "تلبيس إبليس". وهذا الكتاب يرشدنا الى مزالق الخلق والأنام؛ ومضلة الأفهام ومزلة الأقدام؛ ومداخل مذلة النفوس وغياب كل معاني المقاومة والإقدام، "فأقبل الشَّيْطَان يخلط بالبيان شبها وبالدواء سما وبالسبيل الواضح جردا مضلا وما زال يلعب بالعقول إِلَى أن فرق الجاهلية فِي مذاهب سخيفة وبدع قبيحة.
"التلبيس إظهار الباطل فِي صورة الحق، والغرور نوع جهل يوجب اعتقاد الفاسد صحيحا والرديء جيدا، وسببه وجود شبهة أوجبت ذلك. وإنما يدخل إبليس عَلَى الناس بقدر مَا يمكنه ويزيد تمكنه منهم ويقل عَلَى مقدار يقظتهم وغفلتهم وجهلهم وعلمهم. واعلم أن القلب كالحصن وعلى ذلك الحصن سور وللسور أبواب وفيه ثلم وساكنه العقل، والملائكة تتردد إِلى ذلك الحصن، وإلى جانبه ربض فيه الهوى، والشياطين تختلف إِلى ذلك الربض من غير مانع. والحرب قائمة بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم؛ فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم، وأن لا يفتر عَن الحراسة لحظة فَإِن العدو مَا يفتر. قَالَ رجل للحسن البصري: أينام إبليس؟ قَالَ لو نام لوجدنا راحة".
"وهذا الحصن مستنير بالذكر مَشْرِق بالإيمان، وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صور كل مَا يمر به، فأول مَا يفعل الشَّيْطَان فِي الربض إكثار الدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة؛ وكمال الفكر يرد الدخان وصقل الذكر يجلو المرآة. وللعدو حملات فتارة يحمل فيدخل الحصن فيكر عَلَيْهِ الحارس فيخرج، سلوك مبطن مركب يجمع ما بين ديانة مصطنعة زائفة كاصطناع دولة بني صهيون؛ وظواهر التصهين التي تمثلت في احتلال الثقافات والعقول؛ ومظاهر التطبيع التي اجتلبت كل كلمات الادعاء والتبرير؛ فاستغرقت في كل ذلك وانغمست فيه وهرولت إليه وركبت كل مركب يهدف الى تشويه كل مقاومة في الأمةوربما دخل فعاث وربما أقام لغفلة الحارس وربما ركدت الريح الطاردة للدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة فيمر الشَّيْطَان ولا يدري به، وربما جُرح الحارس لغفلته وأُسر واستُخدم وأقيم يستنبط الحيل فِي موافقة الهوى ومساعدته؛ وربما صار كالفقيه في الشر. قال بعض السلف: رأيت الشَّيْطَان فَقَالَ لي قد كنت ألقى الناس فأعلمهم فصرت ألقاهم فأتعلم منهم. وربما هجم الشَّيْطَان عَلَى الذكي الفطن ومعه عروس الهوى قد جلاها فيتشاغل الفطن بالنظر إليها فيستأسره. وأقوى القيد الذي يوثق به الأسرى الجهل وأوسطه فِي القوي الهوى وأضعفه الغفلة، وما دام درع الإيمان عَلَى المؤمن فَإِن نبل العدو لا يقع فِي مقتل".
إن من شأن التلبيس إلباس ثوب غير الحقيقة، وهي عملية تقوم على التخفي والتسلل والتعمية والتضليل؛ والتغرير والتزييف والتزوير؛ والخلط في الأوراق والتخليط؛ واستخدام زخرف القول غرورا؛ والإخفاء للمقصد والغاية؛ والتغطية على الفساد الظاهر منه والكامن والمستور ضمن عمليات تستر كبرى؛ وإغراء بما لا ينفع؛ والحديث بالأماني والتمنيات ليمد لهم في غيهم يعمهون؛ ويكون ذلك بتحسين القبيح وتقبيح الحسن؛ فيلبسون على الحال والمآل جملة؛ وما وجدنا من ظواهر تتصل بذلك خاصة في تعامل الأمة مع عدوها الصهيوني في صراع حضاري ووجدي ومصيري؛ فتخرج علينا تلك الظواهر متعللة ومتسللة تحت عناوين ضالة ومضلة؛ لا طائل منها ولا نفع من ورائها "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء".
يا له من سلوك مبطن مركب يجمع ما بين ديانة مصطنعة زائفة كاصطناع دولة بني صهيون؛ وظواهر التصهين التي تمثلت في احتلال الثقافات والعقول؛ ومظاهر التطبيع التي اجتلبت كل كلمات الادعاء والتبرير؛ فاستغرقت في كل ذلك وانغمست فيه وهرولت إليه وركبت كل مركب يهدف الى تشويه كل مقاومة في الأمة؛ وتوهين والتهوين من كل معاني العزة والكرامة والصمود.
وهم يدخلون ضمن أبواب التطبيع التي شرعوها؛ ومداخل التصهين التي ركبوها وارتكبوها؛ وروجوا لها واصطنعوها؛ وقد اختلقوا لها غطاء دينيا هذه المرة أسموه بـ"الإبراهيمية" في بدعة ابتدعوها؛ وهم الذين ابتدروا في كل آن يصرخون ويَعوُون؛ لا تجعلوا من الصراع مع الصهاينة أمر عقيدة أو دين؛ وهم إذا قال الصهاينة بـ"يهودية الدولة" أمّنوا على قولهم وقالوا آمين؛ ولم يعتبروا ذلك أمر دين؛ بل جعلوا من ذلك أمرا مفعما بالعنصرية والتعصب المهين؛ فإن قلنا إن شأن الصراع للأمة مع الكيان الصهيوني هو أمر عقيدة ودين؛ وأقصى وبيت مقدس في فلسطين؛ قالوا لا تخلطوا الأوراق وهم المدلسون.
ومن هنا ففي كل مرة يستدعون الدين في خدمة أغراضهم الخبيثة وما يريدون؛ فاعلم أن هذا من تلبيس الأبالسة وتدليس المدلسين؛ فجعلوا من ديانة ابتدعوها مطية لأغراضهم الدنيئة والدنية وما يقصدون؛ من هزيمة للأمة بغير حرب ويجردونها من المقاومة والمدافعة والجهاد كذروة سنام لهذا الدين؛ فيهزموننا من غير حرب أو تمسك بشرعة وعقيدة ودين.
وكانت التسويات السياسية التي تمت في جغرافية الأمة مع الكيان الصهيوني من أبرز الأسباب التي أدت إلى زيادة الهيمنة لبني صهيون على كامل أراضي فلسطين، والتأثير في هيكل وبنية الأمة وعالم أفكارها وجغرافيتها وتدينها؛ ومكان ومكانة الأمة من عرب ومسلمين، منذ وعد بلفور بين الإمبراطورية البريطانية والصهاينة في عام 1917 والذي نص صراحة إعلانه عن تأييده لإنشاء "وطن قومي لليهود" على حساب الفلسطينيين، وبدء موجات النزوح اليهودي إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى.
كانت هناك ثلاث حروب بين العرب والكيان الصهيوني والسيطرة الإمبريالية الصهيونية على الفلسطينيين، مما أدى إلى تشريد ملايين اللاجئين ومئات الآلاف من القتلى من الفلسطينيين منذ حرب عام 1948. لم يكن هناك أي نوع من العلاقات الدبلوماسية القوية مع إسرائيل باستثناء مصر والأردن، "ومع ذلك، فإن التغيرات الجيوسياسية على مدى العقد الماضي قد تم اختزالها في شكل أزمات جديدة مثل ثورات الربيع العربي، وظهور الإخوان المسلمين وداعش، وقوى الهيمنة غير العربية الجديدة مثل إيران وتركيا على مدى العقد الماضي.. غيرت هذه التطورات منظور الملكيات العربية لفكرة الأمن القومي العربي؛ حيث يرون أن القضية الفلسطينية مجرد إلهاء عن التهديدات المباشرة الحقيقية". ولذلك وللأسف كانت وقامت اتفاقات أبراهام بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل ومن ثم اتفاق بين البحرين وإسرائيل، والتي ستكون له تداعياتها المريرة على الأمة وخرائطها الجغرافية والثقافية.
"ورغم سعي أغلب الدول الى إبعاد الدين عن السياسة اتباعا للمدرسة الواقعية التي ترفض أي وجود للدين وفق معتقدها العلماني الفج منذ قرون، ونفت أي دور للدين في العملية السياسية وحملت شعار فصل الدين عن الدولة، بل وفصل الدين عن مجمل الحياة بكاملها، لكن اليوم يشهد العاﻟﻢ مدا جديدا كمحدّد للعلاقات والتوازنات والتفاعلات داخل السياسة الدولية، فجاء اليوم مفهوم "الدبلوماسية الروحية"،هكذا بدأت القصة سياسيا وثقافيا وحضاريا؛ لم تكن اتفاقات إبراهام إلا وعد بلفور جديد أسميناه "وعد أبراهام"؛ حاولت فيه القوى التي اصطنعته وقدمته غزوا معنويا وحضاريا؛ ثقافيا وفكريا؛ واحتيالا دينيا وعقديا؛ ومدا جغرافيا ومكانيا متصهينا وتطبيعيا؛ وطمسا لتاريخ الأديان وترسيما مستجدا تاريخيا لتسكين الكيان الصهيوني ومشاريعه الاستيطانية والإحلالية دينيا وجغرافيا وتاريخيا وتطوّر ليكون مدخلا للحلّ والتسوية، وبدأ الحديث عن مفهوم يؤكّد أنّ الدين مصدر الصدام قد تغير، وأن "السلام الديني العالمي" المقرّر الوصول إليه عبر مفهوم "الدبلوماسية الروحية" وما ستقدّمه من حلّ غير تقليدي للصراعات الدينية. وضمن مفهوم جديد إلى الأديان السماوية الثلاثة تمّ طرح ما يسمى بـ"الديانة الإبراهيمية الجديدة"؛ ويتم تداول المفهوم بهدف "حل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية".
هكذا ذكرت ورقة نعدها تأسيسية في المسألة الإبراهيمية تحت عنوان "الإبراهيمية الجديدة: خديعة أمريكية صهيونية" وضعها مركز الاتحاد للأبحاث، فـ"بداية قصة الدين الابراهيمي الجديد كانت في تسعينات القرن العشرين، حيث قامت الإدارة الأمريكية بإنشاء برنامج أبحاث لدراسات الحرب والسلام، وبدأت في اختبار المفهوم الإبراهيمي، عن طريق جامعة هارفارد الأمريكية، حيث قامت الجامعة بإرسال فريق من الباحثين لاختبار فرضية وضع نبي الله إبراهيم كعنصر تتجمع حوله الدول المختلفة، من أجل محاولة وضع دين يساعد على حلّ القضية الفلسطينية والاعتراف بإسرائيل كدولة من خلال هذا التجمع حول الدين الإبراهيمي الجديد. وقد توصل هؤلاء الباحثون الى أن الثقافة الدينية والرأي العام في المنطقة يحمل مكانة كبيرة للنبي ابراهيم سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما".
هكذا بدأت القصة سياسيا وثقافيا وحضاريا؛ لم تكن اتفاقات إبراهام إلا وعد بلفور جديد أسميناه "وعد أبراهام"؛ حاولت فيه القوى التي اصطنعته وقدمته غزوا معنويا وحضاريا؛ ثقافيا وفكريا؛ واحتيالا دينيا وعقديا؛ ومدا جغرافيا ومكانيا متصهينا وتطبيعيا؛ وطمسا لتاريخ الأديان وترسيما مستجدا تاريخيا لتسكين الكيان الصهيوني ومشاريعه الاستيطانية والإحلالية دينيا وجغرافيا وتاريخيا، فقدمت بذلك نموذجا لتلبيسات الأبالسة.. وللقصة الإبراهيمية بقية.
x.com/Saif_abdelfatah
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التطبيع الدين إسرائيل إسرائيل التطبيع الدين الابراهيمية مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الکیان الصهیونی
إقرأ أيضاً:
العيد مناسبة يحتفي بها الشعراء في كل زمان ومكان
شكلت المناسبات الإسلامية مادة خصبة للشعراء منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وتفاوت أحاسيسهم بها قوة وضعفُا، عبادة وعادة، وأخذ هذا الاهتمام مظاهر عديدة، ومن هذه المناسبات، مناسبة العيد، هذه المناسبة التي تتكرر كل عام مع اختلاف الظروف والأحداث التي قد تمر بالشاعر خاصة أو تمر بالأمة الإسلامية عامة، ويعتبر مفهوم “العيد” أحد العناصر المؤثرة في تشكيل شعر أغلب قصائد شعراء العربية، وبخاصة في شعر المناسبات والتهنئة، حيث ارتبط العيد بمظاهر البهجة والسرور، والفرحة والحبور، وأشكال التضامن الاجتماعي، وكان توظيف هذه المعاني التي يشتمل عليها “العيد” بمظاهره الجميلة.
وقد تفاعل الشعراء خلال القرون السابقة وحتى عصرنا الحاضر مع الأعياد تفاعلاُ قويًا ظهر في أغراض شعرية منوعة نرصد منها:
تحري رؤية الهلال
يستبشر المسلمون بقدوم العيد ويتحرون رؤية هلال العيد ويستبشرون به وقد قال الشاعر ابن الرومي في ذلك:
ولما انقضى شهـر الصيـام بفضله
تجلَّى هـلالُ العيـدِ من جانبِ الغربِ
كحاجـبِ شيخٍ شابَ من طُولِ عُمْرِه
يشيرُ لنا بالرمـز للأكْـلِ والشُّـرْبِ
وأما الشاعر ابن المعتز فيقول عن عيد الفطر:
أهـلاً بفِطْـرٍ قـد أضاء هـلالُـه
فـالآنَ فاغْدُ على الصِّحاب وبَكِّـرِ
وانظـرْ إليـه كزورقٍ من فِضَّــةٍ
قـد أثقلتْـهُ حمـولـةٌ من عَنْبَـرِ
ويقول الشاعر يحيى توفيق في قصيدته «ليلة العيد»، حيث يرى في العيد مصدرا للبشر والفرح والسعادة، حيث يقول فيها:
بشائر العيد تترى جمة الصور
وطابع البشر يكسوا أوجه البشر
وموكب العيد يدنو صاخباً طرباً
في عين وامقة أو قلب منتظر
حقيقة معنى العيد
الكثير من المسلمين يغفلون عن المعنى الحقيقي للعيد فيظنوه في لبس الجديد واللهو واللعب فقط، وإن كان ذلك من سمات العيد ولكن هناك أمورًا أخرى ينبه إليها أبو إسحاق الألبيري حول حقيقة معنى العيد يقول الأبيات التالية:
ما عيدك الفخم إلا يوم يغفر لك
لا أن تجرَّ به مستكبراً حللك
كم من جديد ثيابٍ دينه خلق
تكاد تلعنه الأقطار حيث سلك
ومن مرقع الأطمار ذي ورع
بكت عليه السماء والأرض حين هلك
وهو قول ينم عن عمق معرفة بحقيقة العيد، وكونه طاعة لله وليس مدعاة للغرور والتكبر.
تهاني الشعراء للملوك
ويلاحظ المتتبع لموضوع العيد في الأدب العربي أن المدائح بمناسبة العيد قد شغلت حيزاً كبيراً من أشعار العيد، وأن بعضها يعتبر من غرر الشعر العربي. ومن هذه القصائد رائية البحتري التي يهنئ بها الخليفة العباسي (المتوكل) بصومه وعيده ويصف فيها خروجه للصلاة:
بالبر صمت وأنت أفضل صائم
وبسنة الله الرضية تفطر
فانعم بعيد الفطر عيداً إنه
يوم أغر من الزمان مشهر
فيما قال المتنبي مهنئًا سيف الدولة عند انتهاء شهر رمضان:
الصَّوْمُ والفِطْرُ والأعيادُ والعُصُر
منيرةٌ بكَ حتى الشمسُ والقمرُ
ويهنئه بالعيد فيقول:
هنيئاً لك العيد الذي أنت عيده
وعيد لكل من ضحى وعيدا
ولازالت الأعياد لبسك بعده
تسلم مخروقاً وتعطي مجددا
فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى
كما كنت فيهم أوحداً كان أوحدا
هو الجد حتى تفضل العين أختها
وحتى يكون اليوم لليوم سيدا
الشكوى والمنغصات
لا يخلو العيد في كثير من الأحيان من منغصات قد يتعرض لها الشاعر خاصة في نفسه أو أهله وقد عبر عن ذلك كثير من الشعراء في قصائد خلدها التاريخ، يكاد من يقرأها يشارك الشاعر معاناته ويلامس صوره وأحاسيسه، ولعل أشهر ما قيل في ذلك دالية المتنبي في وصف حاله بمصر والتي يقول في مطلعها:
عيـدٌ بأيّـةِ حـالٍ جِئْـتَ يا عيـدُ
بما مضـى أم بأمْـرٍ فيكَ تجديـدُ
أمّـا الأحِبـة فالبيـداءُ دونَـهــم
فليـت دونـك بيـداً دونهـم بيـدُ
وما شكوى الشاعر المعتمدُ بن عباد بعد زوال ملكه، وحبسه في (أغمات) بخافية على أي متصفح لكتب الأدب العربي، حين قال وهو يرى بناته جائعات حافيات في يوم العيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
وكان عيدك باللّذات معمورا
وكنت تحسب أن العيد مسعدةٌ
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعةً
في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا
معاشهنّ بعيد العــزّ ممتهنٌ
يغـزلن للناس لا يملكن قطميرا
أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه
ولست يا عيدُ مني اليوم معذورا
وكنت تحسب أن الفطر مُبتَهَـجٌ
فعاد فطرك للأكبــاد تفطيرا
وقال الشاعر الأمير “أبو فراس الحمداني” وهو أسير ببلاد الروم وقد أتى عليه العيد:
يا عيد ما جئت بمحبوب
على معنى القلب مكروب
يا عيد قد عدت على ناظر
عن كل حسن فيك محجوب
يا وحشة الدار التي ربها
أصبح في أثواب مربوب
قد طلع العيد على أهلها
بوجه لا حسن ولا طيب
ما لي وللدهر وأحداثه
لقد رماني بالأعاجيب
ويبث الشاعر العراقي السيد مصطفى جمال الدين شكوى أيام صباه الأولي في قصيدة رائعة قال فيها:
العيدُ أقبلَ تُسْعِـدُ الأطفـالَ ما حملتْ يـداه
لُعَباً وأثوابـاً وأنغامـاً تَضِـجُّ بهــا الشِّفاه
وفتاكَ يبحثُ بينَ أسرابِ الطفولةِ عن (نِداه)
فيعـودُ في أهدابه دَمْعٌ، وفي شفتيـه (آه)
ويقول في قصيدة أخرى:
هـذا هـو العيـدُ أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ
ضاقـتْ بهِ النَّفْسُ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟!
وأيـنَ أحبابُنـا ضـاعـتْ مـلامحُـهـم
مَـنْ في البلاد بقي منهم، ومن نزحوا؟!
حال الأمة
لم تعرف الأمة في عهودها السابقة حالة الاستضعاف التي شهدتها في عصرنا الحاضر، لذلك كثر وصف الشعراء لمآسي الأمة وأحزانها خصوصًا كلما عاد العيد ومن ذلك قول الشاعر عمر بهاء الدين الأميري:
يمـرُّ علينا العيـدُ مُـرَّا مضرَّجـاً
بأكبادنا والقدسُ في الأسْـرِ تصـرخُ
عسى أنْ يعـودَ العيـدُ باللهِ عـزّةً
ونَصْـراً، ويُمْحى العارُ عنّا ويُنْسَـخُ
فيما يشكو الشاعر عمر أبو الريشة:
يا عيـدُ ما افْتَرَّ ثَغْرُ المجدِ يا عيد
فكيـف تلقاكَ بالبِشْـرِ الزغـاريـدُ؟
يا عيدُ كم في روابي القدسِ من كَبِدٍ
لها على الرَّفْـرَفِ العُلْـوِيِّ تَعْييــدُ؟
سينجلـي لَيْلُنا عـن فَجْـرِ مُعْتَرَكٍ
ونحـنُ في فمـه المشْبوبِ تَغْريـدُ
أما الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي فيقول في قصيدته (عندما يحزن العيد) راثياً حال الأمة الإسلامية بما يشاهده من معاناتها:
أقبلت يا عيد والأحزان نائمـة
على فراشي وطرف الشوق سهران
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي
قلوبنا من صنوف الهمِّ ألـــوان؟
من أين نفرح والأحداث عاصفة
وللدُّمى مـقـل ترنـو وآذان؟
العيد والقضية الفلسطينية
ثم ينتقل العشماوي إلى الجرح الذي لم يندمل، والذي يؤرق الأمة الإسلامية ألا وهو جراحات مقدساتها العظيمة التي سلبها عدوّها لما نام عنها راعيها من المسلمين فقال:
من أين والمسجد الأقصى محطمة
آمالـه وفؤاد القـدس ولهـا؟
من أين نفرح يا عيد الجراح وفي
دروبنا جدر قامـت وكثبـان؟
وتتفاعل الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان مع أخواتها اللاجئات الفلسطينيات بين الخيام لتصور مأساتهن وما يعانينه من آلام التشرد واللجوء في يوم العيد فتقول:
أختاه، هذا العيد رفَّ سناه في روح الوجودْ
وأشاع في قلب الحياة بشاشة الفجر السعيدْ
وأراك ما بين الخيام قبعتِ تمثالاً شقيًّا
متهالكاً يطوي وراء جموده ألماً عتيًّا
يرنو إلى اللاشيء.. منسرحاً مع الأفق البعيدْ
أختاه، مالك إن نظرت إلى جموع العابرينْ
ولمحت أسراب الصبايا من بنات المترفينْ
من كل راقصة الخطى كادت بنشوتها تطيرُ
العيد يضحك في محيّاها ويلتمع السرورُ
أطرقتِ واجمة كأنك صورة الألم الدفينْ؟