آفاق الحرب والمفاوضات في ضوء مجزرة النصيرات
تاريخ النشر: 19th, June 2024 GMT
بعد أكثر من ثمانية أشهر على اجتياح قطاع غزة، نجح جيش الكيان الصهيوني في استعادة أربعة فقط من إجمالي الأسرى المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، في إطار عملية عسكرية ضخمة، ارتُكبت خلالها مجزرة بشعة راح ضحيتها ما يقرب من 1000 فلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود.
وأشارت تقارير صحافية متعددة إلى أن هذه العملية تمت بمساعدة أمريكية مباشرة، أخذت شكل الدعم الاستخباري والدعم اللوجستي، معاً، وأن الرصيف العائم، الّذي ادعت الولايات المتحدة أنها أقامته لزيادة قوافل الإغاثة الإنسانية، استُخدم بصورة أو بأخرى في هذه العملية، بل إن بعض هذه التقارير أشار إلى أن عناصر من القوات الأمريكية المتخصصة، الموجودة حالياً في «إسرائيل»، شاركت أيضاً، وبصورة مباشرة، في هذه العملية.
يصعب على أي مراقب يحترم نفسه أن يرى في هذه العملية إنجازاً استراتيجياً من شأنه التأثير في مسار الحرب المشتعلة في القطاع. صحيح أنها نجحت في تحرير أربعة أسرى، لكنها أسفرت، في الوقت نفسه، عن مصرع ثلاثة أسرى آخرين، أحدهم يحمل الجنسية الأمريكية، بالإضافة إلى أرنون زامورا، رئيس وحدة الكوماندوس، «يمام»، التي شاركت في هذه العملية.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم حجم الوحشية التي ظهر فيها الجيش الصهيوني في إبان تنفيذه هذه العملية، وما أسفرت عنه من كوارث ومآسٍ إنسانية مروّعة، لَتَبَيَّن لنا بوضوح تام أن نتنياهو كان يبحث يائساً، بأي ثمن، عن صورة نصر تمكّن أخيراً من الحصول عليه بأحط الوسائل وأكثرها خسة.
لقد حاول نتنياهو تصوير هذا «الانتصار» على أنه إنجاز عظيم الأهمية. ادّعى أنه يثبت أن «الجيش» الإسرائيلي ما زال يتمتع بكامل لياقته، وأنه استعاد ثقته بنفسه وبدأ يبرز من جديد كواحد من أعظم جيوش العالم وأكثرها قدرة على صنع المعجزات.
الأغرب من ذلك أن نتنياهو عاد ليلوك الأسطوانة المشروخة نفسها، مدّعياً أنه كان على حق حين أكد أن المفاوضات وحدها لن تؤدي إلى تحرير «الرهائن»، وأن الضغط العسكري هو وحده الكفيل بإجبار حماس على الانصياع للشروط وللمطالب الإسرائيلية، وأنه بات مطمئناً تماماً إلى قدرة «الجيش» الإسرائيلي، إن آجلاً أو عاجلاً، على استعادة جميع الأسرى المتبقين، وفق الطريقة نفسها.
ربما يكون من المفيد هنا التذكير بأن «عملية النصيرات» جرت في وقت بدت الحكومة الإسرائيلية معرضة للتفكك والانهيار، وخصوصاً عقب قرار بيني غانتس إمهال بنيامين نتنياهو حتى يوم الـ8 من يونيو، كموعد نهائي لتقديم استقالته من مجلس الحرب، ما لم يغير نتنياهو سياساته ومواقفه إزاء المفاوضات المتعلقة بتبادل الأسرى، وأيضاً إزاء ما يجب أن يكون عليه الوضع في غزة بعد توقف القتال.
واعتقد نتنياهو أن نجاح «الجيش» الإسرائيلي في استعادة بعض الأسرى بالقوة سيدعم مركزه كثيراً، وسيجبر غانتس على إعادة حساباته ومراجعة موقفه والعدول بالتالي عن قرار الاستقالة، وهو ما لم يحدث.
لذا، إن إقدام بيني غانتس، ومعه غادي آيزنكوت، على تقديم استقالتيهما من مجلس الحرب بعد تنفيذ عملية النصيرات، ليس له سوى مغزى واحد، وهو قناعتهما بأن هذه العملية لن يكون لها أي قيمة أو مردود استراتيجي واضح، وأنها قد تصب في مصلحة نتنياهو، لكن ليس في مصلحة «إسرائيل».
بعبارة أخرى، يمكن القول إن إقدام غانتس وآيزنكوت على تقديم استقالتيهما، بعد مضي أكثر من ثمانية أشهر على بدء الحرب في غزة، يعني أنهما أصبحا مقتنعين تماما بأن السياسات، التي انتهجها نتنياهو منذ «طوفان الأقصى»، لن تؤدي إلى تحقيق «النصر المطلق»، والذي يعني في المقام الأول استعادة كل الأسرى أحياءً، وتدمير حماس.
لقد عجزت سياسات نتنياهو، في الواقع، ليس عن تحقيق أي من أهداف هذه الحرب فحسب، لكنها أدت أيضاً إلى إصابة الكيان الصهيوني بأضرار فادحة لن يكون في مقدوره أن يبرَّأ منها بسهولة. لقد أصبح هذا الكيان متهَماً أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، كما أصبح قادة فيه معرَّضين للقبض عليهم والمثول أمام محكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وخسر هذا الكيان سمعته كواحة للديمقراطية في المنطقة، وأصبحت صورته لدى الرأي العام العالمي هي صورة الكيان المنبوذ، الذي يمارس سياسة الفصل العنصري، ويضع نفسه فوق القانون وخارج إطار الشرعية الدولية، وتم إدراجه أخيراً في «قائمة العار» التي تضم الدول الأكثر قتلاً للأطفال في العالم.
كانت نسبة الإسرائيليين المؤيدين لاستمرار الحرب أكثر من 90 % في أكتوبر الماضي، لكنها انخفضت الآن إلى أقل من 30 %، ثم يحلو للبعض تفسير الدوافع وراء استقالة غانتس وآيزنكوت بأنها تعبير عن رغبة في القفز من سفينة تواجه الغرق، وهو ليس بالأمر المستبعد، في كل حال.
مع ذلك، تبدو مواقف إدارة بايدن بشأن ما يجري داخل الكيان الصهيوني ملتبسة ومراوغة في الوقت نفسه. ففي العلن، تتبنى هذه الإدارة مواقف وسياسات تبدو مغايرة، إلى حد كبير، عن تلك التي يتبناها نتنياهو، وخصوصاً ما يتعلق منها بالمساعدات الإنسانية وبمستقبل القطاع بعد توقف القتال.
أما في الخفاء، فتتبنى مواقف وسياسات يمكن أن تفسَّر على أنها تصب في النهاية لمصلحة نتنياهو، وتساعده على تقوية مركزه. والأمثلة على ذلك كثيرة، آخرها قيام إدارة بايدن بتحميل حركة حماس المسؤولية عن فشل المفاوضات الرامية إلى وقف إطلاق النار.
ربما يكون من الصعب علينا، في الوقت الحالي، أن نستشرف مجمل الآثار المترتبة عن استقالة كل من غانتس وآيزنكوت، وخصوصاً على صعيد التفاعلات الداخلية في «إسرائيل»، ومع ذلك، لا شك في أن هذه الاستقالة كانت كاشفة، من ناحية، عن تزايد الشعور العام بفقدان الثقة بشخص نتنياهو، ومن ناحية أخرى، عن ترسخ القناعة باستحالة وقف الحرب في ظل التركيبة الحالية للحكومة الإسرائيلية.
صحيح أن نتنياهو قد يستطيع، نظرياً على الأقل، اللجوء إلى وسائل متعددة لمعالجة بعض الآثار الناجمة عن هذه الاستقالة، واستعادة التماسك والاستقرار داخل ائتلافه الحاكم، كأن يلجأ إلى حل مجلس الحرب، أو إلى إدخال عناصر أخرى من المعارضة، مثل جدعون ساعر أو أفيغدور ليبرمان، في الائتلاف الحاكم، من أجل الإيحاء في أن الحكومة، التي يقودها في زمن الحرب، لا تزال تمثل شريحة واسعة من الناخبين في «إسرائيل»، غير أن احتمال نجاعة هذا النوع من الإجراءات يبدو محدوداً للغاية.
فالشروخ، التي يعانيها «المجتمع الإسرائيلي»، لا تزال عميقة ومستمرة في الاتساع، ثم يُتوقع أن تتصاعد الاحتجاجات التي تقودها أُسَر المحتجزين، ويزداد زخمها كثيراً بانضمام شرائح وفئات مجتمعية جديدة، وخصوصاً بعد انسحاب غانتس وآيزنكوت من مجلس الحرب.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن رقعة الخلافات بين نتنياهو ووزير الأمن، يوآف غالانت، مرشحة للاتساع مع مرور الوقت، وخصوصاً بعد قرار الأخير عدم التصويت لمصلحة مشروع القرار الخاص بتجنيد «الحريديم»، يمكن التوصل إلى نتيجة مفادها أن عوامل التفكك وعدم الاستقرار، سواء في «المجتمع الإسرائيلي»، أو في مراكز صنع القرار، آخذة في التصاعد، وليس في الانحسار.
أياً يكن الأمر، ففي تقديري أنه لن يكون في مقدور أي حكومة إسرائيلية جديدة أن تذهب في عنفها وإجرامها إلى أبعد مما ذهبت إليه الحكومة الحالية. لذا، ليس أمام فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة من وسائل لضمان تحقيق النصر في هذه الجولة من جولات الصراع مع «إسرائيل»، على نحو يساعد على فتح الطريق أمام تسوية حقيقية للقضية الفلسطينية، سوى الصمود في الميدان، وإلى طاولة المفاوضات معاً.
فالصمود في الميدان سيمكّن هذه الفصائل من إلحاق أكبر قدر من الخسائر في صفوف «الجيش» الإسرائيلي، وبالتالي تحويل الحرب الراهنة إلى حرب استنزاف حقيقية ومكلفة.
أما الصمود إلى طاولة المفاوضات فسيمكنها من فرض شروطها للتوصل إلى تسوية، أو بالأحرى إلى صفقة للتبادل، وهي شروط معقولة وعادلة تماماً، وقابلة للتحقق أيضاً. فمن غير المنطقي أصلاً بناء عملية تفاوضية على معادلة معوجة تقوم على: «تسليم كل الأسرى كي يسهل على إسرائيل بعد ذلك سحق فصائل المقامة المسلحة وإنهاء وجودها».
لذا، يمكن القول، من دون أي مبالغة أو انحياز: إن تعاطي حماس مع «خريطة الطريق»، التي اقترحها بايدن في خطابه، وهي في الأصل خريطة إسرائيلية، كان معتدلاً وينم عن قدر كبير من المرونة وحسن النية.
فمجرد قبول حماس، من حيث المبدأ، تسليم عدد من المحتجزين لديها، في مرحلة أولى تبدأ قبل التزام «إسرائيل» الوقف التام لإطلاق النار، يُعَدّ تنازلاً كبيراً من جانبها، ثم يبرر إصرارها على الحصول على ضمانات مكتوبة، من «إسرائيل» ومن الوسطاء جميعاً في الوقت نفسه، تتعلق بالوقف التام للقتال، وبانسحاب «الجيش» الإسرائيلي من كل شبر من القطاع، قبل بدء المرحلة الثانية، وبرفع الحصار وبدء الإعمار عند انطلاق المرحلة الثالثة.
في سياق ما تقدم، يمكن القول: إن إصرار إدارة بايدن على تحميل حماس وحدها المسؤولية عن استمرار القتال يُعَدّ موقفاً منحازاً تماماً إلى «إسرائيل»، ويعكس طبيعة المأزق الذي تواجهه هذه الإدارة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: غانتس وآیزنکوت فی هذه العملیة مجلس الحرب فی الوقت
إقرأ أيضاً:
هآرتس : بعد مرور 400 يوم.. سنسمي الولد باسمه: “حرب سلامة نتنياهو”
#سواليف
قبل بضع سنوات، طلبت من #نتنياهو أن يوقف الكارثة في حالها ويوقف إضحاكنا برواية الضحية هذه. تحدثت عن الشاعرة زلدا، التي رغم الفجوة في جيلنا (تعلمت الحبو في بيتها)، واعتقدت أنها صديقتي. وصفت كيف توسلت لأمي، من الجيل الثاني الكلاسيكي، بألا تحدثني كثيراً عن #الكارثة.
الآن، أطلب من نتنياهو ترك النهضة في حالها، والتوقف عن إزعاجنا بهذه الرواية الخيالية. نتنياهو فنان الكلام ويعرف كل نظريات الرواية ومبناها. في جميع خطاباته في الفترة الأخيرة، بدءاً بالاحتفالات الحكومية بذكرى 7 أكتوبر وحتى الاحتفال بإنهاء دورة للضباط، كرر “النهضة”، وكأنه إذا كرر هذه الكلمة سنصل إلى الهدف.
مثل كل أولاد #إسرائيل، ترعرعت على الانتقال من الكارثة إلى النهضة. في الروضة والمدرسة ومعهد اللغة والخدمة الوطنية – وقفنا في هذه الاحتفالات وأنشدنا كل الأناشيد. انتقلنا في غضون أسبوع من بطولة الفدائيين إلى يوم الذكرى ويوم الاستقلال. ترعرعت بين الحروب والانتفاضات، وعمليات “صغيرة” وحافلات متفجرة، وصواريخ وكاتيوشا. ولكن لم يهيئنا أحد لأحداث 7 أكتوبر الفظيعة وحرب الفوضى المستمرة منذ ذلك الحين. قرأت بأن ليئات تسيلي النبيلة، التي عادت من أسر حماس، شرحت لطلابها أثناء جولة في “يد واسم” بأن كل يوم في الكارثة “كأنه 7 أكتوبر”. لذلك، سأمتنع عن تسمية هذا اليوم الفظيع بـ “الكارثة”. سأستخدم في هذا المقال المصطلح التاريخي “المذبحة”، المصطلح الذي ينطوي على القتل، والاغتصاب، والسلب، والتدمير، والإحراق، والخنق، والاختطاف وبالأساس العجز.
مقالات ذات صلة شهداء ومصابون بقصف إسرائيلي شمال ووسط قطاع غزة 2024/11/14جميعنا، كل من وقف ذات يوم في الاحتفالات وهو يرتدي أزرق – أبيض، عرف هذا العجز من الروايات. لم نصدق أن ستحدث في إسرائيل مذبحة بهذا الحجم، أو يخفق #الجيش_الاسرائيلي في الدفاع حتى عن نفسه. بهذا المعنى، كانت 7 أكتوبر لحظة “مذبحة”. في المذابح الكثيرة التي مرت علينا، وأيضاً في الكارثة، لم يكن لدينا جيش أو دولة. أما هنا فلنا دولة وجيش، والجميع لم يقم بعمله. هذا يسمى إهمالاً إجرامياً، لذلك لا كلمات لوصف ذلك. ولكن إذا كانت لأحد حاجة قوية لطرح أسماء فلدي عدد منها: حرب الإهمال والتخلي، حرب الغطرسة، حرب #الفوضى، حرب حقائب الأموال، حرب التصور، حرب المذبحة، حرب الجنوب والشمال.
بعد مرور 400 يوم والعجز لم ينته، بل يتفاقم. يكون في الأنباء خليط غير معقول من قتلى الحرب كل يوم، مع صفارات إنذار وصواريخ، وعدم اهتمام بالكثيرين المخلين، وإحصاء صغير للأيام، أما المخطوفون فما زالوا في غزة. هل يحاول أحد وبحق تحقيق أهداف الحرب؟ ربما الانشغال بالأسماء أسهل من الاعتراف بقدرتنا الحقيقية ومن إعادة المخطوفين إلى البيت.
عندما يعود كل المخطوفين، وبعد أن أسمع الموسيقى وأذهب الى المقهى لأول مرة بعد 7 أكتوبر (الأمور التي ابتعدت عنها منذ ذلك الحين)، وأتطوع لتجنيد مجموعة من مؤلفي النصوص الموهوبين لوضع الاسم الأكثر نجاحاً لهذه الحرب. ولكن حتى ذلك الحين، أعتقد أنه من المفيد لنا تسمية الولد باسمه، أو الحرب باسمها، حرب “سلامة نتنياهو”. أهداف هذه الحرب واضحة، وهي قابلة للتحقق، وها نحن في الطريق إليها!