ليس من قبيل التعسف الذهاب – بثقة واطمئنان – إلى أن محور المقاومة انتزع نصرًا من بين مخالب النسر الأمريكي وأنياب العدوّ الصهيوني، وأن التغير الأول في “طبيعة المواجهة” كان في تصدر شخصيات استثنائية قيادة العمل العربي، شخصيات بحجم سماحة السيد حسن نصر الله، وله في القلوب ما لا لأحد، ثمّ استكملت عقد القيادة الفريد بالسيد عبدالملك الحوثي، قائد اليمن وزعيمه، المناضل الصلد، وصاحب الانتصار المدوي على حلف الشر العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية منذ 2015م.
تبقى هذه النقطة فارقة وذات دلالة، في صراع مع عدو يفتقر لقيادة لديها الحد الأدنى من الذكاء أو شجاعة المواجهة. التشتت والدسائس وألاعيب السياسة القذرة هي كلّ ما يمارسه قادة الكيان الآن، من نتنياهو إلى غانتس إلى إيزنكوت إلى المختل بن غفير. المرض العربي المزمن انتقل في هذه اللحظة إلى الجانب الآخر، وانتقلت معه كلّ أسباب الفشل والضياع وضبابية الرؤية وطغيان الفردانية والمصالح المجردة.
خطاب السيد عبدالملك الحوثي، الخميس الماضي، وبعد 251 يومًا من عملية “طوفان الأقصى” المباركة، وضع كثيرًا من النقاط على الحروف، كلمات واضحة حادة أخّاذة، وعبارات قاطعة لا لبس فيها ولا تأويل، ووعد من قائد مخلص وفارس نبيل باستمرار الإسناد اليمني المذهل لغزّة ولطوفان الأقصى، بكلّ ما يملك اليمن من عزيمة وبأس وإمكانيات.
اختار السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي أن يطوف بجبهات القتال – بهتت كلمة إسناد منذ زمن – وأن يرصد تغيراتها العميقة والجديدة، ثمّ استعرض المراحل الشرسة التي سيقدم عليها اليمن في إطار دوره الحاسم بالنسبة للصراع العربي – الأمريكي. هذه الجملة الأخيرة هي مفتاح قراءة كلّ مواقف قادة المحور، من سماحة السيد حسن نصر الله، إلى سماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي، وهو وعي كامل بمن نحن ومن نحارب ومن هو العدو، ولو كان يتخفى خلف ألف وجه ووجه، وهو فوق ذلك نصر مبدئي، إذ أن من يعرف عدوه فقد قطع نصف طريق النصر.
الحرب العالمية المصغرة التي استمرت ثماني سنوات، وحشد لها الأمريكي معظم العالم العربي، وفوقه حلفاؤه الغربيون، لم تزد اليمن إلا إصرارًا وعنادًا وثباتًا، والسيد عبد الملك قدم لوحة لليمن – الذي نحب – بأن خروجه من الحرب الأولى لم يكن إلى هدنة أو راحة من قتال، بل خرج بجراحه وآلامه إلى حرب جديدة، لأنه جرب ويلات ما يجري بغزّة اليوم، فكانت حكمة القرار وشجاعته في الوقوف صفًا واحدًا كأنهم بنيان مرصوص أمام الحرب الأمريكية الجديدة في المنطقة.
اليمن انتصر في حرب قبل أن يخوضها من الأساس، وربح مع “شرفه وكرامته” بالموقف الشهم مع فلسطين وتحت رايتها قيمة هائلة، حولته إلى قوة إقليمية معتبرة، وعنصر أساسي في تشكيل خارطة الشرق الأوسط الجديدة، لن تكون مصر أو السعودية ذيلا الأمريكي هما المنوط بهما الوظائف في خدمة سيدهما، لكن اليمن ولبنان وسوريا والعراق وإيران ستكون هي صاحبة الدور، والفرق بين الوظيفة والدور هو الفرق بين دولة تعبر عن مصالح غيرها، أما الدور الإقليمي فهو تعبير من أصحاب المصلحة عن أنفسهم، هو الفرق بين المستقل والتابع باختصار.
الهيمنة الأمريكية في المنطقة باتت صدى سنوات بعيدة كئيبة، انتهت الآن، فالحقائق السياسية لا تنتظر أحدًا، وإنما هي باستمرار تشق لنفسها طرقها ومجاريها، بصرف النظر عن الشعارات والأمنيات وأنصاف المواقف والسياسات المائعة، ويوم أن قررت القيادة اليمنية الشريفة استهداف درة تاج الأساطيل الأمريكية “أيزنهاور” فإن الورطة الاستراتيجية الأمريكية قد تحولت إلى فضيحة استراتيجية ومأزق مميت، فواشنطن فشلت في حماية الملاحة في البحر الأحمر، وبات ثلثا إمدادات الطاقة وفقًا لشركات الشحن البحري، وحتّى هيئة قناة السويس المصرية النائمة، يهرب من جحيم الاستهداف اليمني إلى طرق بعيدة مثل رأس الرجاء الصالح، وللمرة الأولى سقطت الراية الأمريكية على سواحلنا بالدم والنار، ولا ينتظرها إلا سقوط بعد سقوط، وخيبة بعد خيبات، فالأهداف الأمريكية من عملية “حارس الازدهار” تاهت، بينما الحصار البحري اليمني على العدوّ وعلى الدول والشركات المرتبطة به هو الحقيقة التي لا لبس فيها.
ولأن الصعود التاريخي لا يحدث فجأة، ولا يقع دون مقدمات وأسباب موضوعية، وكون التاريخ هو العلم الأكثر قدرة على تفسير ما ناخ بكلكله على أسطورة الكيان فسحقها وأضاع كلّ وساوس الشيطان حوله، ولأن الحاضر هو الأبن الشرعي للماضي القريب، لسياساته وخياراته وخطواته ورهاناته، كما أن المستقبل هو الآخر لحظة حصاد للحاضر وتضحياته وآماله العظام، ولأن التاريخ علم له أصول وقواعد منهجية، وليس مجرد أقاصيص تروى لشغل الوقت، فإننا نحاول أن نستكمل بهذا الحديث مشهدًا ناقصًا في قصّة محور المقاومة، ونفك عقدة ملغزة وموجعة، في آن، كيف استمر الكيان 75 عامًا أسودَ في قلب العالم العربي، وهو بكلّ هذا الضعف البنيوي والمجتمعي والاهتراء السياسي والفشل العسكري، ألم يكن عيبنا أننا واجهناه دون بوصلة ودون أهداف؟ وها هو لبنان واليمن يثبتان أن “الكيان أضعف من بيت العنكبوت” حقًا وصدقًا.
شيئان فقط يستحقان استفاضة في كلمة سيد اليمن وحكيمها، أولًا: أظهر الخطاب الترفع والنبل لدى قادة محور المقاومة عن الصغار وعن الإلهاء، فلم يكن وقوف كلّ النظم الرسمية العربية في صف الكيان – جهارًا نهارًا – حجة للقعود، بل تحول إلى سبب للانتفاض في وجه واشنطن، والثاني: هو أن كلمة السيد عن رجال الله في لبنان تمنحنا فكرة عن تطوّر هذه الجبهة وتضحيات أبطالها والبيئة الحاضنة فيها، قال السيد الحوثي: “جبهة حزب الله متقدمة وفعّالة، وهي الأكثر تأثيرًا في جبهات الإسناد”، هذه الفاعلية والتقدم خلقا اليأس لدى العدوّ ومؤسساته. ويضيف السيد الحوثي: “إنّ الأوساط الصهيونية تتوقّع حدوث كارثة في حال توسّعت المواجهة مع لبنان”.
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً: