لجريدة عمان:
2024-06-26@19:51:04 GMT

تنويعات على ماهلر

تاريخ النشر: 18th, June 2024 GMT

عندما كتب توماس مان رائعته «الموت في البندقية»، اختار كاتبا ليكون شخصيته الرئيسية. الأمر عينه نجده في اقتباس الرواية من قبل بنيامين برايتن لعمله الأوبرالي. أما المخرج الإيطالي لوتشينو فيسكونتي، فحين حول العمل إلى تحفة سينمائية، جعل من الشخصية، موسيقيا، ما أتاح له بجعلنا نسمع «صوت المبدع». من هنا جاء اختياره لموسيقى ماهلر الذي كان معروفا يومها لدى الجمهور الواسع، لكنّ الفيلم قدمه على نطاق أوسع وجعله رائجًا منذ أكثر من نصف قرن.

ربما لذلك أصبح فيلم فيسكونتي أكثر شهرة من الرواية، وقد تولد انطباع يومها بأن البطل «التعِس» لــ «الموت في البندقية» لم يكن سوى ماهلر نفسه.

لو عدنا إلى التاريخ قليلا، لوجدنا أن المؤلف الموسيقي الذي مات في مدينة البندقية، في نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، لم يكن ماهلر، (توفي في فيينا العام 1911 وليس بالكوليرا)، بل هو فاجنر، (توفي عام 1883)، على الرغم من أن ما يرويه توماس مان لا يمكن له أن ينطبق على حياة ماهلر. بينما كان اختيار فيسكونتي مبررًا تمامًا، فإن لم يكن بسبب ما اختبره ماهلر في حياته، فعلى الأقل بسبب نغمة موسيقاه الخاصة، التي كانت مناسبة لتوضيح اضطراب جوستاف فون أشينباخ (بطل الرواية).

وعلى الرغم من أن توماس مان لم يُخفِ أبدًا حقيقة أنه «وضع» نفسه في شخصية أشينباخ، بما في ذلك انجذابه المضطرب للمراهق الوسيم تادزيو، فإنه كان يفكر أيضًا في ماهلر، الذي توفي قبل أسبوع من رحلته إلى البندقية. وقد كتب روايته هذه في الأشهر التي أعقبت هذه الوفاة. حتى أن بطله يحمل نفس الاسم الأول مثل ماهلر (جوستاف)، الذي يتمتع بمظهره الجسدي؛ وإذا لم يكن أرملاً وقت وفاته، فهو أيضًا في الخمسينيات من عمره. لذلك كان اختيار فيسكونتي الموسيقي واضحًا بذاته. في استحضار مشاعره «الفينيتسية» (نسبة إلى فينيتسيا)، ربما فكر توماس مان أيضًا في ماهلر، وإن كان بطريقة أقل وحشية مما كان سيفعله بعد فترة طويلة فيما يتعلق بشونبيرج، الذي تم تصويره كاريكاتوريًا في «دكتور فاوستوس».

من الصعب ألا نفكر في هذا الكتاب، وهذه الأوبرا، وهذا الفيلم، عندما نقرأ نوفيلا الكاتب النمساوي روبيرت سيثالر «الحركة الأخيرة» (100 صفحة، ترجمة فرنسية عن منشورات «فوليو»)؛ وليس في كلامي هنا أي كلام عن «سرقة» أدبية، بل نحن نواجه مثالًا ساطعا لما يسمى بالتناص الكامن في التنويع على موضوع معروف. يبدو أن المؤلف قد استلهم مشاهد معينة من الكتاب، من تكوينه العام، لتطبيقها على ماهلر. فالمشاهد التي تدور على سطح السفينة تستدعي تلك الموجودة على شاطئ البحر في نهر الليدو. فــ أشينباخ حساس تجاه تجسيد الجمال الذي يزعج الروائي الأبولوني بداخله. لأن ماهلر الذي يرسمه سيثالر لا يملك هذا النوع من المشاعر أمام الصبي الصغير المسؤول عن إحضار الشاي له، وهو يعترف بأنه يعتني به، وهو رجل يبلغ من العمر خمسين عامًا ويشعر، مثل بطل توماس مان، بالشيخوخة والمرض. لكن القارئ الذي يتذكر «الموت في البندقية» يتوقع شيئًا من هذا القبيل، إذ تسهم ذكريات الكتاب (المثال) إلى حدّ كبير في التشويق الذي يتحكم بالقراءة.

طيلة كتاب سيثالر يتوقع القارئ موت البطل، وهو أمر يتمتع الروائي بمهارة عدم سرده. وكان بإمكانه بسهولة أيضا تجنب هذه الشجاعة عندما ينقلها إلى وفاة ماريا، الابنة الكبرى لماهلر التي توفيت في الخامسة من عمرها بسبب الدفتيريا، والتي لا يزال والداها وأختها الصغيرة آنا يحتفلان بعيد ميلادها في 3 نوفمبر من كل عام، حين يرتبان الطاولة كما لو كانت الفتاة الصغيرة قادمة. لم يكن ماهلر يعلم (بالطبع) أنه بعد وفاته ستتزوج زوجته من عشيقها المهندس المعماري والتر جروبيوس، وأنها ستنجب منه ابنة، مانون، التي بدورها ستموت مبكرًا، ضحية شلل الأطفال في الثامنة عشرة من عمرها. يظهر المهندس المعماري بشكل خجول فقط في هذا الكتاب، لكن كل سطر يستحضر وفاة ماريا ماهلر الصغيرة يتردد صداه مع كونشرتو ألبان بيرج في «ذكرى ملاك»، حتى لو كان هذا العمل مخصصًا لذكرى مانون، في عام 1935.

لا يغيب موضوع الاضطراب الذي يسببه الجمال المتجسد عن ماهلر، حيث إن هدفه هو ألما المعشوقة والباردة، من دون أن يقال أي شيء عن رجولية الملحن الذي لم يسمح لزوجته بمتابعة عملها الخاص. ليس من المفاجئ أن يأخذ الروائي جانب الذاتية الكاملة لبطله، لكننا كنّا نود أن يمنحه هذا الاختيار الفرصة لتحليل عمل الملحن، أو عمل قائد الأوركسترا، أو الصعوبات في الجمع بين هذين الجانبين من جوانب مهنة الموسيقي. وبدلًا من ذلك، نجد أن الكتابة بهذا الترتيب لا تقدم أي خصوصية موسيقية تقريبًا، بل تذهب للحديث عن ثقل العمل والقيود الاجتماعية، لذا لم يكن الأمر ليختلف كثيرًا لو اختار المؤلف لزوج ألما أي مهنة بدلا من أن يكون موسيقيا. لا تشكل الموسيقى موضوع الرواية التي تركز، مثل الموت في البندقية، على مرض هذا الفنان البالغ من العمر خمسين عامًا والذي يشعر بأنه كبير في السن، مفتونًا بهذا التجسيد للجمال الذي لا يمكن الوصول إليه والذي هو، في الواقع، ألما.

في أسطورة جانيميد ، التي اعترف توماس مان بأنه فكر فيها في «الموت في البندقية»، فإن تجسد الجمال له شيء زائل، يكاد يكون غائبًا، لدرجة أنه، كما يقول هوميروس، «أجمل البشر على الإطلاق» كان «مختطفًا من الأرض»، ليخدم الآلهة كساقّ. في كتاب سيثالر، ألما، أجمل النساء، لديها نوع آخر من التلاشي: فهي لا تقترب أبدًا من ماهلر، الذي تعتني به من بعيد فقط. لكن ربما لو تحول الكاتب إلى فكرة أخرى لكنّا أمام كتاب مختلف تمامًا.

يتوقع القارئ الذي يكتشف هذه الرواية كتابًا يتمحور حول أعمال موسيقي لامع. صحيح أن اسم جوستاف ماهلر يظهر في الجملة الأولى لكننا لن نعرف الكثير عن الإبداع الموسيقي فيما يشبه إلى حدّ كبير الاختلاف في موضوع الموت في البندقية. وبرغم خيبة الأمل الأولية البسيطة، نجد أنفسنا ندخل في لعبة القراءة إلى النهاية.

كان جانيميد، ابن تروس، ملك طروادة، ذا جمال عظيم لدرجة أن جوبيتر أراد أن يجعله ساقيا له.

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لم یکن

إقرأ أيضاً:

قانون عصر الأنوار

في صيف عام 1764، في مدينة ليفورنو بإيطاليا، وتحت تأثير روح فلسفة عصر التنوير والموسوعيين، نشر شاب إيطالي، كان يبلغ يومها ستة وعشرين عامًا، ومن دون أن يكشف عن هويته، مقالة قصيرة تناول فيها «قسوة التعذيب وعدم انتظام الإجراءات الجنائية». إلا أن هُوية الكاتب، لم تبق مجهولة لفترة طويلة، إذ سرعان ما تمّ التعرف على الماركيز تشيزره بيكاريا (1738-1794، كاتب المقالة)، بعد أن حقق النص نجاحًا هائلًا، لينتشر في جميع أنحاء أوروبا بعد أن تُرجم إلى لغات عدة، وبخاصة في فرنسا، حيث وجد هناك صدى واسعًا، ما جعل فولتير وديدرو ودالمبير يهتفون له، معتبرين أن بيكاريا يضع أسس التفكير العقابي الحديث. من هنا، تحول بيكاريا -عبر احتفال عصر التنوير به- مرجعًا أساسيًا للثورة، (وربما لغاية اليوم لا يزال تأثير فكره، يتخذ حضورًا ما في الفكر العالمي).

في الواقع، وعبر ما كتبه، بدا بيكاريا بمثابة الأخ الروحي، التوأم، للموسوعيين، إذ أراد -فيما عبّر عنه- أن يؤسس «في العقل والإنسانية» مبادئ عدالة جنائية جديدة. لذا سعى في أن يطور فكرًا أصيلًا يرى في العقوبة ضمانة للقانون وليس خروجا عن القانون. من خلال دعمه العدالة العلمانية، وحرصه على الدفاع عن المنفعة الاجتماعية، أدان بيكاريا عقوبة الإعدام وآثارها الضارة، معتبرًا أن أي عقوبة يجب أن تكون مرتبطة بالحرية وليس بالسلطة، كما أن تكون مرتبطة بالمطالب الاجتماعية وليس بتعسف الحاكم أو القاضي.

دعا بيكاريا أيضا في مقالته هذه التي حملت عنوان «حول الجرائم والعقوبات»، إلى التشكيك في جزء كبير من عمل العدالة، أي أنه شكك فيها في النظام القضائي الذي كان قائمًا في ذلك الوقت من القرن الثامن عشر. كذلك جاءت مقالته هذه، لتدين الظلم الذي كان يلحق بالأفراد، مثلما أدان، وبشكل خاص، التعذيب الذي وصفه بالقول إنه «البربرية التي تقدسها الممارسة»، والتي لا تؤدي إلا إلى انتزاع اعترافات لا قيمة لها: فالخوف من العذاب المستقبلي يجعل البشر يقولون أي شيء للهروب منه. عقوبة الإعدام لا تجد استحسانًا في عينيه أيضًا، معتبرًا أن الضغط المستمر يتخلل الضمائر وهو أكثر من مشهد عنيف.

باختصار، كانت المسألة بالنسبة له، تكمن، في المقام الأول، في الحفاظ على فرص إعادة اندماج الشخص المذنب في المجتمع، حتى لو كان ذلك مهمًا في نظره، ولكن الدفاع عن الأخير، من دون تجاوز ما هو ضروري للغاية لتحقيق ذلك، ومن دون أي تقصير أيضا. يمكننا أن نلاحظ بشكل عابر، وربما بشكل مسلّ (فيما لو جاز القول)، منطقه لصالح حمل المواطنين للسلاح، وهو بالضبط ما نسمعه من «جمعية البندقية الأمريكية» مثلا: حتى لا نترك احتكار هذه القدرة على حيازة الأسلحة لأولئك الذين لا يحترمون القانون، واستخدامها ضد المجتمع، إذ على الأخير، أن يمنح المواطنين إمكانية امتلاكها. من دون أدنى شك، يتعين علينا أن نضع هذا في سياقه التاريخي، الذي يكاد يكون أيضا سياق التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، الذي لا يزال ساريًا، ولكنه لم يعد سياق الكثير من بلدان العالم. في عصرنا هذا، من المفترض أن تعمل أجهزة الشرطة الجيدة التنظيم على تحقيق هدف حماية المواطنين بشكل أفضل بكثير مما قد تفعله لوحدها؛ بشرط، بالطبع، ألا يكون حقهم في استخدام العنف المشروع الذي من المفترض أنهم يحتكرونه بشكل غير قابل للطعن.

ما كتبه بيكاريا يومها، كان متقدمًا جدًا على عصره؛ وربما لذلك، يعتبر اليوم بأنه كان أحد رواد تصور ركائز العدالة التي نعرفها في عصرنا الحالي، أي بعد ثلاثة قرون. بدا كتاب بيكاريا حين صدر بمثابة قنبلة موقوتة، أشعلت نار المفكرين العظماء في ذلك الوقت. تمت ترجمته بسرعة كبيرة في جميع أنحاء أوروبا ولا يزال يشكل حتى اليوم عملًا مرجعيًا لطلاب القانون وحتى للآخرين. إزاء هذا النقد، الذي وجهه إلى تلك الممارسة التي كانت سائدة في عصره، قدم بيكاريا عدة مقترحات للإصلاح، منها: الفصل بين السلطات الدينية والقضائية، وتناسب العقوبات مع الجريمة المرتكبة، وتفضيل المنع بدلًا من القمع.

ومع ذلك، تمّ التخلي عن رؤيته للعدالة جزئيًا: فقد رأى بيكاريا أن الجرائم يجب أن يعاقب عليها وفقًا للضرر الذي تسببت فيه، وليس وفقًا لنيّة الطرف المذنب كما هو الحال اليوم. لقد أراد عقوبة «شخصية» لكل نوع من الجرائم، أما في الوقت الحاضر فإن عقوبة السجن/الغرامة هي التي يتم تطبيقها على الجميع. ينبغي لكل مواطن أن يعرف دائما ما إذا كان يخالف القوانين، وهو ما يجب كتابته «بلغة واضحة وسهلة المنال» : فمن الذي يملك المعرفة الكافية بعشرات الكتب التي تشكل القانون والتي لا ينبغي لأحد أن يتجاهلها؟

وعلى الرغم من أن هذه المقالة (تعيد إصدارها منشورات غارنييه فلاماريون في سلسلة الجيب الخاصة بها) - تحتوي على أفكار وأسئلة لا تزال ذات صلة بعصرنا، إلا أن ثمة سؤالًا لا بد أن نطرحه: هل لا يزال النص شابا، كما كتبه ذلك الشاب يومها؟

من دون أدنى شك، نجد أن هذا النص قد تقدم في السنّ، ومع ذلك، فلا يزال يحتفظ بالقوة والحيوية والعمق. لذا يبدو أن إعادة قراءته أمر ضروري، في وقت نجد فيه أن الكثير من البلدان والحكومات، ترغب في إعادة عقوبة الإعدام، وحيث يريد الناس تحقيق «العدالة» بأنفسهم، ويكونون على استعداد للخلط بين الافتراض والشعور بالذنب، ويعتقدون أن الجميع باستثنائهم يستحقون العقاب والسجن، وتحرم الآخرين من أصغر مقومات الكرامة الإنسانية، وتعتبر أن المحكوم عليه ليس له حقوق، بل إنه ينبغي أن يكون سعيدًا بوجوده في السجن بدلا من رجمه... وهكذا والأفضل... باختصار، قراءتها والتأمل في كل شيء.

نص تأسيسي. للقراءة وإعادة القراءة والمناقشة. بهذا المعنى، يشكل عمل بيكاريا هذا كتابًا كلاسيكيًا في فلسفة القانون الجنائي، علينا فعلا أن نقرأه، وهو بالتأكيد ليس مخصصًا للفقهاء فقط بل ثمة هذا الجانب الإنساني الذي ينبثق من أفكار المؤلف.

كما أن مقدمة روبير بادينتر تستحق القراءة بعناية، إذ يلخص النقاط الأساسية في فكر بيكاريا ويقيم روابط مع أنظمتنا القضائية الحديثة؛ لا سيّما في ظلّ هذه المناقشات الراهنة حول العدالة ووظيفتها وإيديولوجية القضاة، وما إلى ذلك. أليس هذا هو الوقت المناسب لقراءة هذا العمل الشهير، الذي كان له على ما يبدو التأثير الكبير في الجزء الثاني من القرن الثامن عشر على الجمهور المستنير، وحتى على القضاة أنفسهم، وبلا شك في فرنسا أكثر ممّا كانت عليه في بلد المنشأ؟

مقالات مشابهة

  • شــرعيّـة الإنـجـاز
  • العيد والإجازة
  • في الصميم
  • قانون عصر الأنوار
  • حوار مع مُطَبِّع!
  • يا غائبا لا يغيب!
  • ما بعد الاضطراب "شملٌ"
  • توماس والد ميجان ماركل المنفصل يناشد مقابلة أحفاده قبل عيد ميلاده الثمانين
  • توماس كريستيانسن: بالغنا في احترام أوروجواي
  • الرئيسان السابقان لبنين توماس يايي بوني ونيسيفور سوجلو يزوران نيامي