مَرَّ رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- ببعيرٍ قد لَحِقَ ظَهرُه ببطنِه، فقال: «اتَّقوا اللهَ في هذه البهائمِ المُعجَمةِ، فاركَبوها صالحةً، وكُلوها صالحةً»، بمناسبة عيد الأضحى أعاده اللّه عليكم باليُمن والبركة، أردت أن أقرن صلةً بين شعوبِ الغرب التي تتّخذ من الرفق بالحيوان شعارا ودثارا وبيانا لعمق المشاعر التي لا تظهر إلاّ مع الحيوان والتصوّر الإسلامي للتفاعل مع الحيوان، وهو تصوّر لا يقوم على اتّخاذ الأمر شعارا، وإنّما هي عقيدة في التعامل مع البشر ومع الشجر ومع مختلف كائنات هذا الكون الذي وجب أن نحفظه ونُحافظ عليه، هذا التصوّر الذي يصل حدّ لعْن معذّب الحيوان، فقد قال رسولنا الكريم: «أمَا بَلَغَكُمْ أنِّي لَعنْتُ مَن وسَمَ البَهيمةَ في وجْهِها، أوْ ضَرَبَها في وجْهِها»، وكان آباؤنا وأجدادنا يُخفون السكّين عن الذبائح ولا يسنّونها أمام أعينها.
ذبح الأضاحي ليس خطيئة في كونٍ يقتات من النبات ومن الحيوان، وتلك سُنّة هذا الكون، الخطيئةُ الكُبرى في تعذيب الحيوان، في التمثيل به، ولذلك فإنّ الدعاوى التي تظهر على الساحة في كلّ عيد أضحى هي دعاوى ساقطة، وعلى رأسها ما كان مِن وَسْم عيد الأضحى بأنّه «يوم الحداد الدمويّ» على لسان الممثّلة الفرنسية الشهيرة، صاحبة اللّواء في الدفاع عن
حقوق الإنسان، عفوا عن حقوق الحيوان. وبالرغم من أنّي لا أقف ضدّ الدفاع عن حقوق الحيوان ولا أستهين بجماعات الرفق بالحيوان، إلاّ أنّي أعجب حقّا من عقل هذا الكون، أفلا يرون غير الحيوانات التي تُذْبَح في الأضاحي بطرق تضمن سلامة الذبيحة ولا تُدخلها آلة تفرمها؟ أفلا يرى هذا العقل العاطفي الذي يهزّه الوجد ويقضّ مضجعه ذبح الأضاحي عند المسلمين، تلك الحيوانات التي تحترق تحت نيران القصف الهمجي للكيان الإسرائيليّ في غزّة، فحتّى حيوانات غزّة لم تجد شفيعا ولا نصيرا، هل تستهين بنا هذه المنظّمات الحيوانيّة وتشجب وتُصدر البيانات نُكرانا لـ«قتلنا» الأضاحي، وتخرس ألسنتها وتصمت أمام نيران تأكل الحيوانات في غزّة، وتكسر أرجلها وتخنق أنفاسها وتقبرها حيّة تحت الركام، وقد تبقى أيّاما تحتضر ولا تجد ماءً ولا هواء؟ دعونا من البشر في غزّة، فدمهم ليس دما، «دمهم دم ودمنا ماء». هل لهذا الكون عقلٌ يُدبِّر ويُفكّرُ أو هي «نهاية التاريخ»؟ كتب الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين تدوينة على موقعه الإلكتروني بعنوان «صمتُ غزّة» قال فيها: «أعلن علماء من كلّية علوم النبات في جامعة تل أبيب، في الأيام الأخيرة، أنّهم سجلوا بمكبرات صوت خاصّة حسّاسة بالموجات فوق الصوتية صرخات الألم التي تُصدرها النباتات عند قطعها أو عندما تفتقر إلى الماء. في غزة لا توجد مكبرات صوت!»، يسمعون أنين النبات، وتُصمّ آذانهم عن صرخات نبات غزّة، ذاك هو العالم المتحضّر اليوم الذي يرقُّ قلبه لأضاحي المسلمين ولا تتحرّك له شعرة لحيوانات ونباتات غزّة التي تُقْصَف وتُخنَقُ كلّ ثانية من الزمن، أمّا البشر في غزّة فلا أنين لهم، تتعطّل آلاتهم عن الإنصات لكلّ ما هو في غزّة، كلّ ما يُوجَد في غزّة هو إرهابٌ، النبات إرهابي، الحيوان إرهابيّ، الجماد إرهابيّ. البشر بعد غزّة نوعان، بشر العرب، بشر فلسطين، بشر المسلمين، وهم متّهمون دوما، متّهمون بالشرّ، متّهمون بالرجعيّة، متّهمون بالفوضى لا يرتقون إلى الصنف الأوّل من البشر الذي هو دوما على حقّ، ورؤيته هي الأسلم والأَقْوم، حتّى وإن كانت رؤية بلهاء ساذجة، ومن نكد الدهر أنّ فينا من العرب من يُعْلي من رؤية هذا الغربيّ الذي يبحث عن تطهير نفسه من عُقَد اليهود التاريخيّة بإفناء الفلسطينيين، وقد يؤكل الأسود من بعد ذلك. لا أحبّ كثيرا إطلاق المفاهيم الغائمة الفضفاضة، وأحبّ أن أطرح المعنى دوما خلوا من كلّ تلطيف أو تهذيب أحيانا، ولذلك فإنّ مفاهيم مثل «المجتمع الدولي»، و«حقوق الإنسان» و«حقوق الحيوان» و«الأمم المتّحدة» و«السلم الكوني» وغيرها من المفاهيم التي صنعها الأقوياءُ لتصريفها وفق أهوائهم لم تعد تعني لذي العقل شيئا، وإنّما الأساسُ الصارخ اليوم أنّنا إزاء فكرتين وعالمين وكونين كشفت حدودهما حرب غزّة، وهما العالم المُسيْطر آنيّا وقد صنع سرديّة هَوَت عناصرها ولم تعد رائجة ولا مُقنعة، وهي سرديّة «السلم الكوني»، وصُنّاع هذه السرديّة هم علّة خراب الكون، وعالم أضعف ماديّا أقوى روحيّا، يُقاوِم بطش الباطشين وهمجية الهمج وأسلحة العالم بقوّة الإيمان، بقوّة الإنسان لا بقوّة الحيوان. حتما ستنتهي حرب غزّة وسيتبدّل العالم من بعد ذلك، وستتبدّل السرديّة الغربيّة المدافعة عن حقوق إنسانٍ مخصوص لا حقوق الإنسان مُطلقا، وسنبحث عن حكاية جديدة، وعن صناعة آفاق اعتقاد قد تُقنع الفكر المتأزّم الكافر بمفاهيم الديمقراطيّة والإنسانيّة والنسويّة والعدالة والقيم الكونيّة، وثقتي في ذلك الوقت ألاّ يلحق النسيان الفكر العربيّ، فالعرب ينسون بيسر، رغم أنّ في تراثنا حكاية تروقني جدّا وهي مثال التفكّر والتدبّر، هي حكايةٌ مثليّة ضربها داهية العرب عبد الملك بن مروان في خُطبة من خُطبه بيانا لصلته بالمخاطَبين، وهم أهل المدينة، التي لا يمكن أن تصفو أبدا ولا أن تتحوّل إلى ودّ، وأورِدُها كاملة لحكمةٍ فيها وجب أن تظلّ نصب أعيننا، يقول عبد الملك بن مروان مخاطبا أهل المدينة «إِنَّمَا مثلنَا ومثلكم كَمَا قَالَ النَّابِغَة. وَأنْشد: (أَبى لي قبرٌ لَا يزَال مقابلي/ وضربة فأسٍ فَوق رَأْسِي فاقره). ثمَّ قَالَ: إِنَّه كَانَت حيةٌ مجاورةً رجلا فوكعته فَقتلته ثمَّ إِنَّهَا دعت أَخَاهُ إِلَى أَن يصالحها على أَن تدي لَهُ أَخَاهُ فعاهدها ثمَّ كَانَت تعطيه يَوْمًا وَلَا تعطيه يَوْمًا فَلَمَّا تنجز عَامَّة دِيَته قَالَت لَهُ نَفسه: لَو قتلتها وَقد أخذت عَامَّة الدِّيَة فيجتمعان لَك، فَأخذ فأسًا فَلَمَّا خرجت لتعطيه الدِّينَار ضربهَا على رَأسهَا وسبقته فأخطأها وَنَدم، فَقَالَ: تعالي نتعاقد وَلَا نغدر وتنجزي آخر ديتي. فَقَالَت: أَبى الصُّلْح الْقَبْر الَّذِي بَين عَيْنَيْك والضربة الَّتِي فَوق رَأْسِي. فَلَنْ تحبّني أبدا مَا رَأَيْت قبر أَخِيك وَلنْ أحبّك مَا كَانَت الضَّرْبَة برأسي. إِنَّا لن نحبكم مَا ذكرنَا مَا صَنَعْتُم بِنَا وَلنْ تحبّونا مَا ذكرْتُمْ مَا صنعنَا بكم». ختاما، وقد بدأتُ بعيد الأضحى، وأنتهي به، لن نكون أبدا ضحايا هذا العصر، ولن نكون كما قال مظفر نوّاب «سنصبح نحن يهود التاريخ/ ونعوي في الصحراء/ بلا مأوى»، بل ستبقى الأرض، وسيعلو العرض، وستسود رؤيتنا تفاعلا مع عناصر الكون، مع الحيوان الذي نحن أرفق به ممّن يفرمه وهو حيّ، ونحن أرأف به ممّن يمتلك آلات دمار يقصف بها البيئة فلا يُبقي ولا يَذر، يزرع خبيث الأمراض في كلّ كائنات الأرض والسماء، فلسنا نحن من جُنّ بسببه البقر، ولسنا نحن من خرم الأوزون، ولسنا نحن من أعلّ الطيور وأنفق الأسماك، فلهذا العالم أن ينتبه للعلّة الأولى المُدمّرة للكون، أمّا بالنسبة إلينا، فنحن نقرأ التاريخ جيّدا كما لا يعرفه بنو صهيون، ونُدرك جيّدا أنّنا سنواصل عباداتنا، وسنذبح الأضاحي لا البشر، وأنّا سننادي بـ«لكم دينكم»، وأنّنا سنقف ضدّ من يُتاجر بدمائنا، ونعرف جيّدا، أنّه «سيطلع من هذي العتمة قمر».
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية:
هذا الکون
عن حقوق
فی غز ة
التی ت
إقرأ أيضاً:
في أفواه وأمعاء البشر.. تعرّف على كائنات حية مجنونة اكتشفها العلماء
اكتشف العلماء، في الآونة الأخيرة، شكلا جديدا وغريبا ممّا وصفوها بـ"كائنات حية مجنونة" داخل جسم الإنسان، تُشبه الفيروسات، وتحمل أسرارا قد تغير الفهم المعروف عن الكائنات الدقيقة.
وتعتبر هذه الكائنات الحية التي أطلق عليها العلماء اسم "المسلاّت" (obelisks)، بمثابة قطع دائرية من المادة الوراثية تحتوي على جين أو جينين وتنظم نفسها بشكل يشبه العصا.
وتظهر "المسلاّت" في أفواه نصف سكان العالم، بينما يحملها 7 في المئة فقط في أمعائهم، فيما تم اكتشافها عندما كان العلماء يبحثون عن أنماط لا تتطابق مع أي كائنات حية معروفة في المكتبات الجينية.
أيضا، تحتوي "المسلاّت"على جينومات من حلقات الحمض النووي الريبوزي (RNA) تشبه "الفيرويد" (أو أشباه الفيروسات)، وهي ممرضات نباتية، ما يترك الخبراء في حيرة من أمرهم حول سبب وجودها في بكتيريا مرتبطة بالبشر.
وبحسب العلماء، تستعمر "المسلاّت" البكتيريا داخل أفواه وأمعاء البشر، وتعيش داخل مضيفها لمدة تصل إلى عام تقريبا، غير أن العلماء لا يعرفون كيف تنتشر.
وفي هذا السياق، قال عالم الأحياء الخلوية والتطور الذي لم يكن مشاركا في البحث، مارك بييفر، لمجلة "ساينس": "إنه أمر جنوني. كلما نظرنا أكثر، رأينا أشياء أكثر جنونا".
وأوضح أنه من غير الواضح ما إذا كانت "المسلاّت" ضارة أو مفيدة؛ لكن الفريق أشار إلى أنها قد "تعيش كركاب تطوريين متسللين".
وأبرز العلماء أن هذه الكائنات الصغيرة والبدائية قد تكون لعبت دورا حيويا في تشكيل التنوع البيولوجي الذي يوجد على الأرض اليوم، حيث قد تكون قادرة على إصابة كائنات من أنواع حية مختلفة طوال تطورها.
إلى ذلك، لا يزال العلماء غير متأكدين ممّا إذا كانت هذه الكائنات الحية المكتشفة حديثا قادرة على جعل البشر مرضى، ولكن هناك نوعا واحدا من الفيروسات النباتية يمكنه ذلل، وهو التهاب الكبد الوبائي د.
أيضا، يشير العلماء إلى أن "المسلاّت" والفيروسات النباتية والفيروسات، هي كائنات غير حية من الناحية الفنية وتعتمد على المضيف للبقاء على قيد الحياة. فهي لا تأكل، ولا تتجدد، ولا تتكاثر. فيما يعتقد بعض العلماء الآخرين، أن الفيروسات النباتية وأقاربها، وربما "المسلاّت" أيضا، تمثل أقدم "الكائنات الحية" على كوكب الأرض.
تجدر الإشارة إلى أن الفريق الذي اكتشف "المسلاّت" من خلال تحليل بيانات من قاعدة بيانات حمض نووي ريبوزي (RNA) تحتوي على آلاف التسلسلات التي تم جمعها من أفواه وأمعاء البشر ومصادر أخرى، قد قادته عالمة الكيمياء الحيوية في جامعة ستانفورد، إيفان زيلوديف.
يشار إلى أن جميع "المسلاّت" التي تم اكتشافها حتى الآن تشفر بروتينا رئيسيا يسمى "أوبولين" (obulin)، والكثير منها يشفر أيضا شكلا أصغر من هذا البروتين. يعد "الأوبولين" مختلفا تماما عن جميع البروتينات المعروفة الأخرى، وما يزال العلماء غير متأكدين من الغرض منه أو كيفية عمله.