توظيف الأسطورة والرمز في النص الأدبي الحداثي..قراءة جماليّة في قصيدة ‘ العودة الى سنّار ‘ للدكتور محمد عبد الحي ..
تاريخ النشر: 18th, June 2024 GMT
توظيف الأسطورة والرمز في النص الأدبي الحداثي..
قراءة جماليّة في قصيدة ‘ العودة الى سنّار ‘ للدكتور محمد عبد الحي ..
الكاتب د/ إحسان الله عثمان
تمثل الأسطورة وشفافية الرمز في الخطاب الشعري مرتكزا وقيمة جماليةً-معرفية لخطاب الهوية السودانية والإنسان والوطن وعناصر فنية أسهمت في بناء وتشكيل النصوص خلال مجموعة (العودة إلى سنّار) من أعمال الدكتور محمد عبد الحي احد رواد مدرسة الغابة والصحراء (حركة شعرية ثقافية حداثية تأسست عام 1962 في جامعة الخرطوم).
في محاولة للكشف عن الهوية بحسبانها مخبوءة في تأريخ الوطن والجغرافيا يصوًر الشاعر الماضي حيث الشمس الغارقة في عتبات المغيب بين علق البحار وموات الحياة.. ومصابيح القري تطفو مرًة وتدنو في الضباب وعلى التلال؛ صورا رمزية تحاكي عسر بدايات التكوين وصيرورة الهوية…
وكانتِ الشَّمسُ على المِياه أمشاجًا من الفسْفُور واللَّهيبْ
الشجر الميت والحياة في ابتدائها الصامتِ
بين علق البحارْ
في العالمِ الأجوفِ
حيث حشرات البحرِ في مَرَحِها الأعْمَى
تدب في كهوفِ الليفِ والطحلب
وفي الظَّلاَمْ…
كانتْ مصابِيحُ القُرى
على التِّلالِ السُّودِ والأشجَارْ
تطْفُو وتدْنُو مَرَّةً
وَمَرَّةً تَنْأى تَغُوصْ
في الضَّبَابِ والبُخارْ
نشيد البحر المكثف بالرموز والرؤى يذكر المملكة الزرقاء دلالة تاريخيّة ويكشف عن المرأة رمزية الهُوية والوطن تستدعي اللغة والسكان والحراس عبر مخيال تاريخي يعني اكتمال الهُوية والهجنة المزدوجة الماثلة في قمصان الماء وجلد الفهود..
الليلة يَسْتَقبَلُني أهْلِي
خَيْلٌ تَحْجُلُ في دائرةِ النَّارْ
وتَرْقُصُ في الأجْرَاسِ وفي الدِّيِباجْ
امْرَأةٌ تَفْتَحُ بابَ النَّهْرِ وتَدْعُو
مِنْ ظُلمَاتِ الجَبَلِ الصَّامِتِ والأحْرَاجْ
حُرَّاسَ الُّلغَةِ ــ المَمْلَكَةِ الزَّرْقَاءْ
ذلك يَخْطِرُ في جِلْدِ الفَهْدِ،
وهذا يَسْطَعُ في قِمْصَانِ الماءْ
وينطلق الشاعر من هذا التكوين عبر تأويلات الرؤى الشعرية وزخم التاريخ والموروث الشعبي الثقافي في ايماءات واشارات لتأصيل الهوية وايقاظ اللاوعي الجمعي الكامن في الأسطورة والرمز؛ ‘النخلة والأبنوس’..
أرواح جدودي تخرج من
فضَّة أحلام النّهر، ومن ليل الأسماءْ
تتقمص أجساد الأطفالْ.
تنفخ في رئةِ المدّاحِ
وتضرب بالساعد عبر ذراع الطبّالْ.
أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى
إبريقاً جمجمةً،
مصلاة من جلد الجاموسْ
رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوسْ
لغةً تطلعُ مثلَ الرّمحْ
من جسد الأرضِ
وعبَر سماء الجُرحْ
تظل قصيدة العودة إلى سنّار، المركزية في التجربة الشعرية للدكتور محمد عبدالحي عامرة بعناصر التاريخ والبعد الزماني والمكاني والنغمة الصوفية عوالم ومناخات غنية بالمخلوقات والشموس الساطعة والصور والأصوات والأنغام والألوان وخليط من ذاكرة الوطن المبعثرة في عتمات المغيب ..
سأعودُ اليوم، يا سنّارُ، حيث الرمزُ خيطٌ،
من بريقٍ أسود، بين الذرى والسّفح،
والغابةِ والصحراء، والثمر النّاضج والجذر القديمْ
وعرق الذَّهب المبرق في صخرتيَ الزرقاء،
والنّار التي فيها تجاسرت على الحبِّ العظيمْ
فافتحوا، حرَّاسَ سنّارَ، افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
– “بدوىُّ أنتَ؟”
– “لا”
– ” من بلاد الزَّنج؟”
– “لا”
أنا منكم. تائهٌ عاد يغنِّي بلسانٍ ويصلَّي بلسانٍ
كافراً تهتُ سنيناً وسنينا
مطراً أسود ينثوه سماءٌ من نحاسٍ وغمام أحمر. شجراً أبيض – تفاحاً وتوتاً – يثمرُ
حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام.
ضحكات الهيكل العظميِّ، واللحم المذابْ
فوق فُسفورِ العبابْ
أنا منكم.. جرحكم جرحي
وثنيٌ مجَّد الأرضَ وصوفيٌّ ضريرٌ
مجَّد الرؤيا ونيران الإلهْ
تشكل قصيدة العودة إلى سنّار حوارات عزيزة مع النفس ما بين الغابة والصحراء، تخاطب الطبيعة والمخلوقات وصور الحضور الطقوسي و تشكلات التاريخ والتراث عبر الأسطورة والرمز …
في الشفق البنفسجيِّ بين آخر النجوم والصباحْ
تسمع في الحلم حفيف الرِّيش حين يضرب الجناحْ
عبر سماوات الغيابْ
أو خشخشة الشوك الذي يلتفّ حول جسد القمرْ
حين ترقص الأسماك في دوائر النجوم في النَّهر.
تمثالاً من العاجِ، وزهرة
ثعباناً مقدساً وأبراجاً
وأشكالاً من الرخامِ والبلور والفخّارْ.
في هاجرةِ الصَّحْراء أزيح قباب الرمل
عن نقشٍ أسودَ، عن مَلِكٍ
يلتفّ بأسماء الشفرةِ والشمسِ
والرمز الطّافر مثل الوعلِ
فوق نحاسِ الصَّحراءْ.
الطيور تعود فجرا وبدايات الصباح عقب البحر والمدينة والليل والحلم، تكتمل شمس الهوية ويتصل الضوء بالأصول البعيدة في ليل الجذور وتبدو سنارُ شمسًا جديدة في أفق الوطن خلال أُقنومها المزدوج إيماءات لأبدية المصير وميلاد أمة تاهت زمنا في عتمة الغياب وجدل الهوية تمثلات للوطن الحلم المشتهى.
مرحى! تطلُّ الشمسُ هذا الصبحَ من أفق القبولْ
ووهجَ مصباحٍ من البلّورِ في ليل الجذورِ،
وبعضَ إيماءٍ ورمزٍ مستحيلْ.
رجعت طيور البحر فَجْرَاً من مسافات الغيابْ
اليومَ يا سنّار أقْبَلُ فيكِ أيّامي بما فيها من العشب الطفيليِّ
الذي يهتزُّ تحتَ غصونِ أشجارِ البريقِ.
اليومَ أقْبَلُ فيكِ أيّامي بما فيها من الرّعب المخمَّر في شراييني. وما فيها من الفرح العميقِ…
ihsanali6@gmail.com
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
إقرأ أيضاً:
كيف يعيد دونالد ترامب إحياء الأسطورة الأمريكية المتعلقة بـ الحدود؟
نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريراً ناقشت فيه كيفية استغلال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أسطورة "الحدود" في الخطاب السياسي الأمريكي، مستحضراً روح التوسع التاريخي للولايات المتحدة لتبرير طموحاته الجيوسياسية وتبرير انتهاكاته المختلفة للمعايير الأخلاقية، مثل محاولته ضم غرينلاند.
وقالت الصحيفة، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إنه وفي 4 آذار/مارس، وخلال خطاب أمام الكونغرس، وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسالة تهديدية قال فيها: "إلى شعب غرينلاند الرائع"، هذا "الإقليم الكبير جدًا" الذي يحتاجه الأمريكيون "لأمنهم الدولي": "أعتقد أننا سنحصل عليه بطريقة أو بأخرى، سنحصل عليه. سنضمن لكم الأمن، وسنجعلكم أغنياء، وسنرفع غرينلاند إلى مستويات لم تكونوا تتخيلونها من قبل".
وأشارت الصحيفة إلى أن الطموحات التوسعية المتكررة لترامب سواء تجاه غرينلاند، أو كندا أو قناة بنما يمكن تفسيرها من خلال مبررات اقتصادية وجيوسياسية واضحة. لكن هذه الطموحات تتصل أيضًا بخيال وطني قديم: أسطورة "الحدود"، التي تجعل من أمريكا دولة لا تتوقف عن توسيع أراضيها.
ترامب وأسطورة الحدود
وذكرت الصحيفة أنه من الصعب تخيل شخصية أبعد عن أسطورة "غزو الغرب" من دونالد ترامب، الذي وُلد مليارديرًا في نيويورك ويمتلك شقة فاخرة في قمة ناطحة سحاب، وكان معروفًا حتى ذلك الحين بتركيزه على تعزيز الحدود الجنوبية للبلاد بجدار.
ومع ذلك، صرح ترامب في خطاب تنصيبه: "روح الحدود مكتوبة في قلوبنا"، مؤكدًا أن "دعوة المغامرة الكبرى المقبلة" تدوي في أعماق نفوسنا. وأضاف أن أسلاف الأمريكيين حولوا مجموعة صغيرة من المستعمرات على حافة قارة شاسعة إلى جمهورية قوية تمتد على آلاف الكيلومترات عبر أرض وعرة.
وفي 14 كانون الثاني/يناير، نشر إريك تيتسل، نائب رئيس مركز تجديد أمريكا، مقالًا في مجلة "World"، حيث وضع اقتراح ترامب بشأن غرينلاند في تقاليد "المستكشفين الذين يواجهون المصاعب في السعي وراء حياة أفضل". وقال تيتسل في مقاله: "لسنوات طويلة، كانت السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة مدفوعة بمطلب السيطرة على مصيرنا من محيط إلى آخر. ترامب يعيد إحياء هذه الروح".
أسطورة الحدود والتاريخ الأمريكي
ووفقا للصحيفة؛ تعتبر "نظرية الحدود" التي وضعها المؤرخ فريدريك جاكسون تيرنر في 1893 أحد الركائز الأساسية في الفهم الأمريكي للهوية الوطنية. حيث يعتبر أن استعمار الحدود الأمريكية كان حاسمًا في تشكيل ثقافة الديمقراطية الأمريكية وتميزها عن الدول الأوروبية.
ويعرض تيرنر الغرب وأوروبا كقوى متعارضة، حيث يسعى الأول نحو الحرية، بينما الثاني يسعى للسيطرة عليها. مشيراً إلى أن "الديمقراطية الأمريكية لم تولد من حلم نظري؛ لقد وُلدت من الغابة وزادت قوتها كلما وصلت إلى حدود جديدة".
وافترضت فرضية تيرنر أن التحليل التاريخي يتجاوز ليأخذ طابع الأسطورة منذ طرحها: "الغرب هو منبع الشباب السحري الذي يعيد شباب أمريكا"، كما قال في خطاب له عام 1896، إلا أن أسطورة الحدود قد تم استبدالها بصورة قوية أخرى ناتجة عن الحرب العالمية الثانية، مثل أمريكا زعيمة العالم الحر".
الحدود كاستراتيجية سياسية
وأفادت الصحيفة أن جون كينيدي، في خطاب تنصيبه كمرشح ديمقراطي في 1960، استخدم صورة "الحدود الجديدة"، للإشارة إلى مجالات العلم والفضاء، وقضايا السلام والحرب، والفقر.
وفي عام 1993، قال الرئيس بيل كلينتون "الاقتصاد العالمي هو حدودنا الجديدة". من جانبه، استخدم ترامب هذه الصورة في أبسط صورها، كما يراها ريتشارد سلوتكين: أمريكا التي ازدهرت من خلال التوسع غير المحدود والبحث عن الطاقة الأحفورية.
وكتب المؤرخ غريغ غراندين في مجلة نيويورك تايمز. "يبدو أنه يعلم أن القومية الغاضبة والمنطوية على نفسها التي سمحت له بالوصول إلى السلطة قد تكون مدمرة ذاتيًا".
وفي عام 1787، كتب جيمس ماديسون: "وسّعوا الأراضي، وسوف تضعفون التطرف السياسي وتمنعون الصراع الطبقي"، فيما قال توماس جيفرسون في 1805: "كلما كانت أمتنا أكبر، قلّ تأثير النزاعات المحلية".
ترامب رجل الحدود
وأضافت الصحيفة أن ترامب، الذي يعيد صياغة صورته من خلال أسطورة الحدود، يستخدم هذه الصورة لتبرير خروجه عن القواعد الأخلاقية والقانونية.
كما تلاحظ عالمة الاجتماع أولينا ليبنيك، فإن تضمين ترامب في هذه الأسطورة حوّل غموضه الأخلاقي إلى دليل على أصالة بطل الحدود، حيث يتم تصوير "رجل الحدود" كرمز للاستقلال والفردية.
لكن هذه الصورة تتجاهل الحقيقة التاريخية بأن التوسع في الغرب تم بفضل دعم حكومي، من خلال بناء السكك الحديدية وحماية الجيش. ورغم ذلك، لا تزال هذه الصورة تجد صدى في بعض الأوساط، مثل وادي السيليكون، حيث يموّل رجال الأعمال مشاريع تهدف إلى الهروب من القيود المفروضة من قبل الديمقراطيات الليبرالية.
نحو حدود جديدة: الفضاء
ونوهت الصحيفة إلى أنه بالنسبة لترامب، فإن غرينلاند تمثل مجرد بداية نحو "حدود" جديدة، وهي الفضاء. وقد صرح في خطابه الافتتاحي: "سنتبع مصيرنا المحتوم حتى النجوم"، في إشارة إلى عقيدة "القدر المتجلي" التي استخدمها الأمريكيون في القرن التاسع عشر لتبرير الاستعمار الأبيض لأمريكيا الشمالية، وألهمت سياسات أدت إلى إبادة السكان الأصليين.
واختتمت صحيفة "لوموند" تقريرها بالتأكيد على قول ريتشارد سلوتكين أن فكرة ترامب تظل ثابتة: "من غرينلاند إلى كندا، ومن غزة إلى الفضاء؛ نستولي على هذه الأرض البدائية، وسنجعلها جنة، كل ما عليكم فعله هو طرد السكان الأصليين منها".
للاطلاع إلى النص الأصلي (هنا)