توظيف الأسطورة والرمز في النص الأدبي الحداثي..

قراءة جماليّة في قصيدة ‘ العودة الى سنّار ‘ للدكتور محمد عبد الحي ..
الكاتب د/ إحسان الله عثمان

تمثل الأسطورة وشفافية الرمز في الخطاب الشعري مرتكزا وقيمة جماليةً-معرفية لخطاب الهوية السودانية والإنسان والوطن وعناصر فنية أسهمت في بناء وتشكيل النصوص خلال مجموعة (العودة إلى سنّار) من أعمال الدكتور محمد عبد الحي احد رواد مدرسة الغابة والصحراء (حركة شعرية ثقافية حداثية تأسست عام 1962 في جامعة الخرطوم).

.

في محاولة للكشف عن الهوية بحسبانها مخبوءة في تأريخ الوطن والجغرافيا يصوًر الشاعر الماضي حيث الشمس الغارقة في عتبات المغيب بين علق البحار وموات الحياة.. ومصابيح القري تطفو مرًة وتدنو في الضباب وعلى التلال؛ صورا رمزية تحاكي عسر بدايات التكوين وصيرورة الهوية…

وكانتِ الشَّمسُ على المِياه أمشاجًا من الفسْفُور واللَّهيبْ
الشجر الميت والحياة في ابتدائها الصامتِ
بين علق البحارْ
في العالمِ الأجوفِ
حيث حشرات البحرِ في مَرَحِها الأعْمَى
تدب في كهوفِ الليفِ والطحلب
وفي الظَّلاَمْ…
كانتْ مصابِيحُ القُرى
على التِّلالِ السُّودِ والأشجَارْ
تطْفُو وتدْنُو مَرَّةً
وَمَرَّةً تَنْأى تَغُوصْ
في الضَّبَابِ والبُخارْ

نشيد البحر المكثف بالرموز والرؤى يذكر المملكة الزرقاء دلالة تاريخيّة ويكشف عن المرأة رمزية الهُوية والوطن تستدعي اللغة والسكان والحراس عبر مخيال تاريخي يعني اكتمال الهُوية والهجنة المزدوجة الماثلة في قمصان الماء وجلد الفهود..

الليلة يَسْتَقبَلُني أهْلِي
خَيْلٌ تَحْجُلُ في دائرةِ النَّارْ
وتَرْقُصُ في الأجْرَاسِ وفي الدِّيِباجْ
امْرَأةٌ تَفْتَحُ بابَ النَّهْرِ وتَدْعُو
مِنْ ظُلمَاتِ الجَبَلِ الصَّامِتِ والأحْرَاجْ
حُرَّاسَ الُّلغَةِ ــ المَمْلَكَةِ الزَّرْقَاءْ
ذلك يَخْطِرُ في جِلْدِ الفَهْدِ،
وهذا يَسْطَعُ في قِمْصَانِ الماءْ

وينطلق الشاعر من هذا التكوين عبر تأويلات الرؤى الشعرية وزخم التاريخ والموروث الشعبي الثقافي في ايماءات واشارات لتأصيل الهوية وايقاظ اللاوعي الجمعي الكامن في الأسطورة والرمز؛ ‘النخلة والأبنوس’..

أرواح جدودي تخرج من
فضَّة أحلام النّهر، ومن ليل الأسماءْ
تتقمص أجساد الأطفالْ.
تنفخ في رئةِ المدّاحِ
وتضرب بالساعد عبر ذراع الطبّالْ.
أهدوني مسبحةً من أسنان الموتى
إبريقاً جمجمةً،
مصلاة من جلد الجاموسْ
رمزاً يلمع بين النخلة والأبنوسْ
لغةً تطلعُ مثلَ الرّمحْ
من جسد الأرضِ
وعبَر سماء الجُرحْ
‭ ‬
تظل‭ ‬قصيدة‭ ‬‮ العودة‭ ‬إلى‭ ‬سنّار، المركزية في التجربة الشعرية‭ ‬للدكتور محمد‭ ‬عبدالحي عامرة بعناصر التاريخ والبعد الزماني والمكاني والنغمة الصوفية عوالم ومناخات غنية بالمخلوقات والشموس الساطعة والصور والأصوات والأنغام والألوان وخليط من ذاكرة الوطن المبعثرة في عتمات المغيب ..

سأعودُ اليوم، يا سنّارُ، حيث الرمزُ خيطٌ،
من بريقٍ أسود، بين الذرى والسّفح،
والغابةِ والصحراء، والثمر النّاضج والجذر القديمْ
وعرق الذَّهب المبرق في صخرتيَ الزرقاء،
والنّار التي فيها تجاسرت على الحبِّ العظيمْ
فافتحوا، حرَّاسَ سنّارَ، افتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
– “بدوىُّ أنتَ؟”
– “لا”
– ” من بلاد الزَّنج؟”
– “لا”
أنا منكم. تائهٌ عاد يغنِّي بلسانٍ ويصلَّي بلسانٍ
كافراً تهتُ سنيناً وسنينا
مطراً أسود ينثوه سماءٌ من نحاسٍ وغمام أحمر. شجراً أبيض – تفاحاً وتوتاً – يثمرُ
حيث لا أرض ولا سقيا سوى ما رقرق الحامض من رغو الغمام.
ضحكات الهيكل العظميِّ، واللحم المذابْ
فوق فُسفورِ العبابْ
أنا منكم.. جرحكم جرحي
وثنيٌ مجَّد الأرضَ وصوفيٌّ ضريرٌ
مجَّد الرؤيا ونيران الإلهْ

تشكل قصيدة العودة إلى سنّار حوارات عزيزة مع النفس ما بين الغابة والصحراء، تخاطب الطبيعة والمخلوقات وصور الحضور الطقوسي و تشكلات التاريخ والتراث عبر الأسطورة والرمز …

في الشفق البنفسجيِّ بين آخر النجوم والصباحْ
تسمع في الحلم حفيف الرِّيش حين يضرب الجناحْ
عبر سماوات الغيابْ
أو خشخشة الشوك الذي يلتفّ حول جسد القمرْ
حين ترقص الأسماك في دوائر النجوم في النَّهر.
تمثالاً من العاجِ، وزهرة
ثعباناً مقدساً وأبراجاً
وأشكالاً من الرخامِ والبلور والفخّارْ.
في هاجرةِ الصَّحْراء أزيح قباب الرمل
عن نقشٍ أسودَ، عن مَلِكٍ
يلتفّ بأسماء الشفرةِ والشمسِ
والرمز الطّافر مثل الوعلِ
فوق نحاسِ الصَّحراءْ.

الطيور تعود فجرا وبدايات الصباح عقب البحر والمدينة والليل والحلم، تكتمل شمس الهوية ويتصل الضوء بالأصول البعيدة في ليل الجذور وتبدو سنارُ شمسًا جديدة في أفق الوطن خلال أُقنومها المزدوج إيماءات لأبدية المصير وميلاد أمة تاهت زمنا في عتمة الغياب وجدل الهوية تمثلات للوطن الحلم المشتهى.

مرحى! تطلُّ الشمسُ هذا الصبحَ من أفق القبولْ
ووهجَ مصباحٍ من البلّورِ في ليل الجذورِ،
وبعضَ إيماءٍ ورمزٍ مستحيلْ.
رجعت طيور البحر فَجْرَاً من مسافات الغيابْ
اليومَ يا سنّار أقْبَلُ فيكِ أيّامي بما فيها من العشب الطفيليِّ
الذي يهتزُّ تحتَ غصونِ أشجارِ البريقِ.
اليومَ أقْبَلُ فيكِ أيّامي بما فيها من الرّعب المخمَّر في شراييني. وما فيها من الفرح العميقِ…
ihsanali6@gmail.com

الوسومالشاعر محمد هبد الحي العودة إلى سنار النص الحداثي د/ إحسان الله عثمان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

إقرأ أيضاً:

صدور الهدهد الأزرق للدكتور غسّان عبد الخالق

عمّان - العُمانية: صدر للكاتب الدكتور غسّان عبد الخالق كتاب "الهدهد الأزرق؛ نحو مختبر تطبيقي في الأدب الرقمي" في 250 صفحة، وذلك عن دار فضاءات للنشر والتوزيع.

واشتمل الكتاب على إهداء جاء فيه: "إلى مجلاّت الحائط المنسية في مدارسنا العتيقة"، وإشارة استحضرت قصيدة محمود درويش: "يغتالني النقاد أحيانًا، وأنجو من قراءَتهم، وأشكرهم على سوء التفاهم؛ ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة"، ومقدّمة، وتمهيد، وتوقيعات، وملحقَين؛ وخاتمة.

ومما جاء في المقدّمة: "قُيّض لي سابقًا، أن أقارب التأثير الحاسم لوسائل التواصل الاجتماعي، في أبرز أبحاثي (معجم ألفاظ الربيع العربي) الذي صدّرت به كتابي (بلاغة الشارع؛ دراسات تطبيقية في ضوء النقد الثقافي). وها أنا ذا أفي بالوعد الذي قطعته على نفسي أكثر من مرة، وأعني به التصدّي لتوثيق تجربتي في (الفيسبوك)؛ سياقًا ونصًّا".

ويضيف عبد الخالق: "مع أنني أدرك أن الانشغال بهذا الشأن قد يثير استهجان أو استغراب بعض المتزمّتين، فإنني أُقدم عليه بكل اطمئنان، لأنني عوّدت قرّائي ودرّبتهم على التعامل معي بوصفي ناقدًا ثقافيًّا مهجوسًا بخطاب الجمهور في المقام الأول، ومن واجبي –لذلك- أن أشتبك مع كل نسق ثقافي معلن أو مضمر، بلا هوادة ودون مجاملة، ولأنني أَعدُّ النقد الثقافي التزامًا شاملًا، وليس (بريستيجًا) أكاديميًّا أو نقديًّا، أفعّله هنا ولا أفعّله هناك، لغاية في نفسي أو لغاية في نفس غيري".

مثّل التمهيد للكتاب تشخيصًا للأنساق المضمرة في (الفيسبوك)، وخاصة على صعيد نسق الدوافع السياسيّة الذاتيّة أو الجمعيّة، ونقرأ للمؤلف في ذلك: "ليس سرًّا أن كثيرًا من المغامرين السياسيين، قد نقلوا مماحكاتهم ومهاتراتهم وآمالهم وطموحاتهم السياسيّة، من الشارع إلى شاشة الحاسوب المحمول أو الهاتف المحمول، وراحوا يصبّون جام غضبهم وإحباطاتهم وتطلّعاتهم عبر الفيسبوك. وقد أشاع كثير منهم حالة من الابتذال السياسي المكشوف، المصحوب بمظاهر التنمّر والعدمية والعبث والضحك الأسود، وتطبيع ثقافة التخوين والاتهام والتجريح".

وفيما شغلت التوقيعات -التي سبق للمؤلف أن نشرها في صفحته بين عامي 2012 و2020- مئة وخمسًا وستين صفحة؛ فقد ضمّ الملحق الأول أبرز ما أُهدي له من قصائد شعرية فيسبوكية، وضم الملحق الثاني مقالات تابع المؤلف من خلالها تطورات موقفه من وسائل الاتصال الاجتماعي، مشيرًا إلى أنه حدّد سمات التوقيع بـ: الفكرة، والمفارقة، واللغة الشعرية، والإيجاز، والبساطة.

وختم المؤلّف كتابه قائلًا: "حينما عرضت هذا الكتاب على ثلّة من الزملاء والأصدقاء الذين أثق برأيهم؛ بادر الأكاديميون منهم لتأكيد قناعتهم بأنه قد يكون فاتحة لعدد من التجارب التوثيقية الإبداعية والدراسات الثقافية الجادة في حقل الأدب الرقمي. وأضاف بعضهم قائلًا: إذا أُحسن توجيه طلاب الدراسات العليا إلى بعض المدوّنات النوعية في الفضاء الأزرق؛ الأدبية والاجتماعية والسياسية -ومن منظور النقد الثقافي- فإن الحصاد سيكون وفيرًا، وخاصة إذا نظرنا بعين الاعتبار، إلى حقيقة أن وسائل التواصل الاجتماعي الآن، تمثل المنابر الأولى للجمهور، على اختلاف مرجعياته وتوجهاته، وأن هذه الوسائل توفر للباحثين فرصًا ذهبية، لرصد التفاعلات الموثّقة بين المرسل والمستقبل بالسنة والشهر واليوم والساعة".

مقالات مشابهة

  • الطواف في رحاب الميثولوجيا الشعبية
  • صدور الهدهد الأزرق للدكتور غسّان عبد الخالق
  • بحضور ترامب وماسك.. صاروخ ستارشيب يفشل في العودة إلى منصته ويهبط في البحر
  • بحضور ترامب وماسك.. صاروخ ستارشيب يفشل في العودة لمنصته ويهبط في البحر
  • «من حق الكفيف».. قصيدة من إبداعات الشاعر المبدع محمد رجب
  • أمام أنظار ترامب وماسك.. صاروخ ستارشيب العملاق يفشل في العودة لمنصته
  • صاروخ ستارشيب العملاق يفشل في العودة إلى منصته
  • محمد أبو هاشم: الكذب من صفات الفجور.. و3 حالات فقط يجوز فيها
  • انسحاب المدمرة الإيطالية ‘أندريا دوريا’ من البحر الأحمر
  • ندوة “قراءة في كتاب.. الهوية الوطنية في الإمارات بين خصوصية الثوابت والقيم وعالمية المعايير”