الردع النووي بين الهند وباكستان.. صناعة السلام بآلة الحرب
تاريخ النشر: 18th, June 2024 GMT
في 28 مايو/أيار من كل عام، تحتفل باكستان بمناسبة ذكرى نجاح اختبار أول قنبلة نووية لها، وتسمي هذا اليوم "يوم التكبير"، حيث دخلت في هذا اليوم من عام 1998 النادي النووي كسابع دولة تمتلك هذا السلاح على مستوى العالم، وكأول دولة إسلامية تصنع ما تسميها بعض وسائل الإعلام الغربية "القنبلة النووية الإسلامية".
وبررت إسلام آباد تجربتها النووية بأنها مقابلة بالمثل لما قامت به جارتها الهند في 11 و13 مايو/أيار من العام نفسه من إجراء سلسلة تفجيرات نووية، وكان ذلك بعد أكثر من عقدين على امتلاك نيودلهي القوة النووية عام 1974، وهو ما وضع باكستان في موقف صعب، خاصة أن البلدين قد خاضا في عامي 1965 و1971 حربين أدت الأخيرة منهما إلى تقسيم باكستان وقيام دولة بنغلاديش.
بعد ذلك، أوقفت كل من الهند وباكستان إجراء التجارب النووية دون الدخول في اتفاقية رسمية بين البلدين تحد من انتشار تلك الأسلحة.
قوة رادعةتؤكد باكستان دوما أن سلاحها النووي يعد بمثابة رادع ضد نيودلهي التي تمتلك ترسانة نووية، في موقف معاكس للهند التي تجنبت تحديد أعداء محتملين في عقيدتها النووية.
ففي تصريح لرئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 1998، قال إن بلاده لديها القدرة على الوصول إلى الأسلحة النووية، وإنه "لم يتم إجراء التجارب النووية لتحدي نظام منع انتشار الأسلحة النووية الحالي، ولا لتحقيق أي طموح لنكون قوة عظمى، لكن تم تصميمها لمنع التهديد باستخدام القوة.. وإن اختباراتنا ردا على الهند خدمت قضية السلام والاستقرار في منطقتنا".
كما أعلنت باكستان أنها "لم تكن الأولى في التجربة النووية ولن تكون أول من تستأنفها في آسيا الجنوبية"، في إشارة إلى أن الهند هي من بدأت سباق التسلح النووي.
ولكن رغم الالتزام غير الرسمي بتجنب استئناف التجارب النووية، تواصل كل من الهند وباكستان سباق تطوير الأسلحة الإستراتيجية، كالصواريخ الباليستية التي بإمكانها حمل الرؤوس النووية مثل صاروخ "أغني" الهندي العابرة للقارات الذي يصل مداه إلى 5 آلاف كيلومتر، وصاروخ "شاهين" الباكستاني الذي يصل مداه إلى ما بين 2500 و3 آلاف كيلومتر.
ويرى كثير من المحللين أن امتلاك باكستان أسلحة نووية أوجدت حالة "الردع الإستراتيجي" بين البلدين، حيث لم يقدم أي منهما منذ ربع قرن على خطوات من شأنها بدء حرب شاملة على غرار الماضي، وهو ما يعني أن كلا من إسلام آباد ونيودلهي تدركان جيدا خطورة التصعيد العسكري المؤدي إلى حرب مكتملة الأركان، قد تجر أحد الطرفين أو كليهما إلى استخدام الأسلحة النووية.
ويعتبر كثير من الباحثين أن السباق الحقيقي في مجال التسلح النووي في المنطقة -وفقا للإستراتيجية الهندية- يكون مع الصين، ولكن الجانب الباكستاني هو من يحصر إستراتيجية الردع في مواجهة الهند.
في مقال منشور في صحيفة "نيشن" الباكستانية، يقول شير علي كاكر الباحث في مركز بلوشستان للفكر "اليوم، في حين أن الوضع عبر الحدود الغربية لباكستان لا يزال عدائيا، ولا تزال الهند لديها طموحات للسيطرة على المنطقة وتستخدم أساليب ومواقف استفزازية وتهديدية، فإن الردع النووي الباكستاني يلعب دورا حاسما في هذه البيئة الأمنية المعقدة والمليئة بالمعاداة".
ويشير كاكر إلى أهمية قوة الردع النووي الباكستاني، قائلا "ساعدت القدرة النووية الباكستانية البلاد في الحفاظ على حرية قرارها الإستراتيجي واتباع سياسة خارجية مستقلة، بدلا من الاعتماد على الدعم الخارجي فيما يتعلق بمسائل الأمن القومي".
العقيدة النووية الهندية والباكستانيةفي عام 2003، أعلنت الهند عقيدتها النووية التي تتلخص أنها "لن تكون أول من يبدأ باستخدام الأسلحة النووية"، بينما لم تفصح باكستان عن عقيدتها وسياستها بالشكل الرسمي، وهو ما يفسره المراقبون بأن إسلام آباد لا تمانع بالبدء باستخدام الأسلحة النووية إذا دعت الحاجة.
وعن عقيدة باكستان النووية وإستراتيجيتها، تقول الباحثة في مشروع إدارة الذرة بجامعة هارفارد ستاره نور "على النقيض من سياسة عدم البدء باستخدام الأسلحة النووية التي أعلنتها الهند، قررت باكستان عدم اتخاذ مثل هذه السياسة، وبالتالي تركت باب التكهن مفتوحا بأنها قد تستخدم الأسلحة النووية أولا في ظل ظروف معينة".
وتضيف ستاره نور "ولأن الترسانة النووية الباكستانية تعمل بمثابة رادع ضد العدوان التقليدي والتهديدات النووية من جانب الهند، فإن إسلام آباد ترى أن من المناسب الحفاظ على خيار الاستخدام الأول، وهذا أمر ذو أهمية بالنسبة لأمن البلاد".
ورغم تصريح الهند بأنها لن تكون أول مبادر باستخدام السلاح النووي، فإن السياسات التي تتبعها نيودلهي في السنوات الأخيرة في ظل حكومة ناريندرا مودي تجاه باكستان -خاصة بعد إلغاء المادة الدستورية المتعلقة بوضع خاص لإقليم جامو وكشمير في سبتمبر/أيلول 2019، وضم الإقليم إلى الهند- تجعل بعض المراقبين لا يستبعدون أن تبدأ نيودلهي باستخدام الأسلحة النووية في ظرف معين ضد باكستان أو الصين.
يقول الكاتب الباكستاني المختص بشؤون الأمن والسياسات الدولية إعجاز حيدر إن "العقيدة النووية الهندية لعام 2003 تنص على أن الهند ملتزمة بعدم الاستخدام الأول، وإن مثل هذه الإعلانات -كما يرى الخبراء على نطاق واسع- هي بيانات سياسية وليست عملية".
وفي مقال نشر عام 2019 في مجلة الأمن الدولي، ناقش الباحثان كريستوفر كلاري وفيبين نارانغ الردع النووي بين الهند وباكستان، وخلصا إلى القول إن "المسؤولين الهنود يطورون بشكل متزايد منطق استهداف القوة المضادة، وقد بدؤوا في وضع استثناءات لسياسة الهند الطويلة الأمد -بتجنب الاستخدام الأول للأسلحة النووية- لأجل السماح بالاستخدام الوقائي للأسلحة النووية".
ويعتبر حيدر الإعلان الهندي "خدعة"، لأنه من الصعب في حالة نشوب الهجوم النووي المتبادل تحديد من بدأ استخدام السلاح النووي، خاصة في ضوء التقدم التكنولوجي وسرعة المبادرة بالهجوم باستخدام برامج وتقنيات حديثة.
وفي الإشارة إلى العقيدة النووية المعلنة للهند، يقول البروفيسور لي بين الأستاذ في جامعة تسينغهوا الصينية والخبير في الدراسات الإستراتيجية النووية، إنه "من دون معرفة حجم القوة النووية للدولة ومكونات قوتها، وتحديد دقة أسلحتها وحجم قوتها التقليدية، لا يمكن التحقق من مثل هذا الإعلان".
هل تهدد "باكستان النووية" إسرائيل؟ورغم تلك التأكيدات الباكستانية، فإنه بعد الهجوم الأميركي على مقر زعيم القاعدة أسامة بن لادن في منطقة أبت آباد الباكستانية ومقتله عام 2011، أثير في بعض الأوساط في باكستان احتمال إعادة النظر في العقيدة النووية ليشمل الردع مهاجمين آخرين بالإضافة إلى الهند.
تقول ستاره نور، في مقال لها نشر على موقع جمعية مراقبة التسلح الأميركية: "هناك نقاش بين الحين والآخر يشير إلى أن إسرائيل هي الخصم المحتمل لباكستان، ويكتسب هذا الرأي قوة في ضوء حقيقة أن إسلام آباد لا تقيم علاقات دبلوماسية مع تل أبيب، وتتخذ باستمرار موقفا ثابتا داعما للقضية الفلسطينية ضد إسرائيل في المحافل الدولية".
وعلى نحو مماثل، بحسب ستاره نور، فإن العلاقات الدفاعية الوثيقة بين الهند وإسرائيل، فضلا عن تعاون إسرائيل المزعوم مع الهند في شن ضربات جوية محتملة ضد البرنامج النووي الباكستاني "أسهمت في تفاقم الشعور بالتهديد بين البلدين".
وتضيف أن هذا النقاش "أثار المزيد من الاهتمام مع اختبار أول صاروخ باليستي باكستاني متوسط المدى في عام 2015، وهو صاروخ "شاهين 3″، رغم أن نية باكستان المعلنة في تطوير الصاروخ كانت لتغطية كامل مساحة اليابسة الهندية، فإن هناك مخاوف، لا سيما في الولايات المتحدة، بشأن احتمال امتلاك الصاروخ القدرة على الوصول إلى أهداف أخرى، مثل إسرائيل".
ورغم عودة هذا النقاش إلى الواجهة بين الحين والآخر، لم يصدر قط بيان رسمي أو أي إشارة أخرى من السطات الباكستانية إلى التحول نحو تحديد إسرائيل كهدف محتمل، بل على العكس من ذلك، أكدت باكستان مرارا وتكرارا أن برنامجها للأسلحة النووية لا يهدف إلا إلى ردع التهديدات القادمة من الهند.
مستقبل الردع النوويوفي ضوء التطورات المتسارعة والأوضاع الأمنية المعقدة في المنطقة التي تمتلك فيها 3 دول الأسلحة النووية، وهي الصين، والهند وباكستان، بالإضافة إلى إيران التي تدعي امتلاكه، صار السؤال المطروح قاب قوسين أو أدنى: إلى أي مدى يمكن أن تستمر إستراتيجية الردع النووي بين باكستان والهند؟
بالنظر إلى الخلفية التاريخية المتأزمة والعلاقات الباكستانية الهندية المتوترة، ومع الأخذ بعين الاعتبار عدم رغبة الهند في الدخول مع باكستان في ترتيبات هادفة لمنع توسع سباق التسلح النووي، وفي غياب مبادرات ثنائية جادة بين البلدين للحد من توسع الخطر النووي.
بالإضافة إلى طموحات الهند للبروز كقوة عظمى في المنطقة، والحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن من طرف، ونزاعاتها مع الصين، ونظر الولايات المتحدة إلى نيودلهي كقوة اقتصادية وعسكرية صاعدة في المنطقة يمكن الاعتماد عليها لكبح جماح الصين من طرف آخر.
كل ذلك يشير إلى أنه لا توجد ضمانات تؤمن استمرار الردع النووي بين الجارتين، وهو ما يهدد مستقبل السلام والأمن في المنطقة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات باستخدام الأسلحة النوویة العقیدة النوویة الهند وباکستان بین البلدین إسلام آباد فی المنطقة وهو ما
إقرأ أيضاً:
WP: العائلات التي فرقتها الحرب على غزة تخشى ألا تجتمع مرة أخرى أبدا
تستمر حرب الإبادة الإسرائيلية لأكثر من عام على قطاع غزة، مخلفة العديد من الأبعاد والأزمات الإنسانية التي تتجاوز القتل المتعمد للمدنيين واستهداف المستشفيات، إلى تدمير بنية المجتمع الأساسية وتشتيت العائلات دون أمل واضح قرب بلم شملها.
وجاء في تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" أن المواطن الفلسطيني محمد الوحيدي لم يلتق بطفله الصغير قط، فالرجل البالغ من العمر 40 عاما محاصر في جنوب غزة، وزوجته، رؤى السقا، 32 عاما، عالقة في الشمال المحاصر.
وكان يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر يمثل مرور عام على انفصال الزوجين القسري، وكان يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر ليوافق عيد الميلاد الأول لابنهما نوح الذي استشهد في آب/ أغسطس بسبب مشكلة في القلب، كما قال والداه.
كتب الوحيدي في رسالة أخيرة إلى نوح، والتي شاركها مع الصحيفة الأمريكية: "لم أشهد ولادتك ولم أتمكن من حضور وداعك الأخير، فكل لحظة معك كانت حلما لم يتحقق".
وقالت الصحيفة إنه "بعد مرور أكثر من عام على الحرب التي تشنها إسرائيل لطرد حماس، لا تزال العديد من الأسر الفلسطينية منقسمة بسبب ممر نتساريم الإستراتيجي العسكري، والذي يقطع قطاع غزة إلى نصفين. في الأيام الأولى من الصراع، اتخذ الآباء والأزواج والزوجات قرارات سريعة حول المكان الذي يفرون إليه، ولم يتوقعوا قط أن يستمر القتال لفترة طويلة، والآن يخشى البعض أن يصبح الانفصال بينهم دائما".
وأضافت أن "القوات الإسرائيلية تسيطر على كل حركة الدخول والخروج من غزة، وكذلك داخل الجيب، وفي العام الماضي، أجبر الجيش أكثر من مليون فلسطيني يعيشون في الشمال على الانتقال جنوبا، حيث احتشدوا في مدن الخيام على طول الحدود المصرية".
وذكرت أنه "عندما اقتحمت القوات مدينة رفح، فرت الأسر مرة أخرى، وكثير منهم إلى منطقة ساحلية مهجورة تسمى المواصي، أو إلى مناطق أكثر مركزية، لكن إسرائيل منعتهم من العودة إلى الشمال".
وبينت أنه "بالنسبة لأولئك الذين لم يغادروا قط، أصبح الوضع أكثر يأسا، وتقدر الأمم المتحدة أن 400 ألف شخص ما زالوا يعيشون في المدن والمخيمات التي تعرضت للقصف في الشمال. ويعتقد أن حوالي نصفهم من الأطفال".
وتعد عودة الأسر الفلسطينية إلى هذه المجتمعات هي مطلب أساسي لحركة حماس في مفاوضات وقف إطلاق النار المتوقفة والمتعثرة منذ شهور.
ويبدو هذا الاحتمال الآن بعيدا بشكل متزايد، وخاصة بعد أن شنت قوات الاحتلال هجوما آخر في المنطقة هذا الشهر، والذي تقول إنه يهدف إلى "منع مقاتلي حماس من إعادة تجميع صفوفهم".
ويزعم جيش الاحتلال إن "200 مسلح تم القبض عليهم منذ بدء العملية وتم إجلاء عدد كبير من الفلسطينيين إلى مناطق أكثر أمانا"، على الرغم من أن شهود العيان وعمال الإنقاذ يقولون إن القوات الإسرائيلية أطلقت النار على الأشخاص الذين حاولوا الفرار.
وقد أدى الهجوم إلى زيادة المخاوف بشأن التنفيذ المحتمل للاقتراح الإسرائيلي المثير للجدل - المعروف باسم "خطة الجنرالات" - لإفراغ الشمال من المدنيين وتجويع أو إطلاق النار على أولئك الذين لا يغادرون.
والثلاثاء، قال جورجيوس بيتروبولوس المسؤول في الأمم المتحدة إن الظروف هناك "أكثر من كارثية".
وتنفي "إسرائيل" رسميا أنها تنفذ خطة الحصار، التي يدفع بها بعض أعضاء حكومتها اليمينية المتطرفة، لكن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رفض طلبات الولايات المتحدة بالتنصل منها علنا.
قالت السقا عبر الهاتف: "أخشى أن يكرر التاريخ نفسه، كما حدث مع أسلافنا في عام 1948"، في إشارة إلى الطرد الجماعي للفلسطينيين من منازلهم أثناء قيام دولة الاحتلال، لكنها لا تزال متمسكة بالأمل، كما قالت، "بأن يتم إزالة هذه الحواجز وأن يتمكن الجميع من العودة".
وكانت السقا في أواخر أيام حملها بحيث لم يكن بإمكانها الانتقال بعيدا عن مدينة غزة عندما بدأت الحرب في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وفي عجلة من أمرها لإيصالها إلى بر الأمان، انفصلت عن زوجها الذي وصل إلى رفح، وذهبت هي مع أختها إلى منطقة الزوايدة في وسط القطاع، وفي أقل من أسبوع عادت إلى مدينة غزة بعد وفاة والدها هناك بالسرطان، وهناك ولد نوح في 18 تشرين الأول/ أكتوبر.
وأرادت السقا أن يكون زوجها معها، لكن الانتقال شمالا كان خطيرا للغاية بالنسبة له، بعدما حذر جيش الاحتلال سكان غزة من ذلك، ومن ثم أقام حاجز عسكري في نتساريم لفحص العائلات المتجهة جنوبا ومنع الناس من الذهاب شمالا.
ولكن هناك من حاول رغم ذلك: فقد تطلبت الرحلة ساعات من المشي، بينما أكد شهود عيان أن الجثث كانت موجودة على طول الطريق، ولم يسمع أحد عن بعضهم مرة أخرى، أو اعتقلتهم القوات الإسرائيلية أو قُتلوا على الطريق.
وقضت السقا الأشهر القليلة الأولى من الحرب مع نوح هربا من القصف والقوات البرية الإسرائيلية، بينما وُلد الطفل بمشكلة صحية في الحاجز البطيني، أو ثقب كبير في قلبه، وقال الأطباء إنه بحاجة إلى إجراء عملية جراحية في الخارج، وفقا لوثيقة تمت مشاركتها مع صحيفة واشنطن بوست، توفي قبل أن يتمكنوا من إيجاد طريقة لإخراجه من أجل العلاج.
يعزّي الزوجان الحزينان بعضهما البعض بالقول إنهما سيجتمعان مرة أخرى ذات يوم، لكن حلم محمد الوحيدي في لم شمله مع زوجته قد خفت، وهو يعيش الآن في خيمة مشتركة في مخيم شاطئي مؤقت في منطقة المواصي الغربية.
وفي قصة أخرى، كانت ماجدة صباح، 32 عاما، في بداية حملها عندما بدأت الحرب، ومع تكثيف القصف، غادرت جباليا مع ابنتها البالغة من العمر 5 سنوات، شام، وبقي زوجها محمد المنيراوي، وهو صحفي محلي، للعمل وحماية منزل العائلة.
ولم يحضر المنيراوي، 35 عاما، ولادة ابنته ليلى، التي تبلغ من العمر الآن 4 أشهر، وقال إنه سرعان ما أصبح حتى التواصل مع زوجته وابنته الصغيرة عبر الهاتف "يتطلب معجزة". فقد ألحق القصف الإسرائيلي أضرارا جسيمة بشبكات الهاتف الخلوي والرقمي، وهو يمشي مسافات طويلة للعثور على الكهرباء والإشارة.
قال إن شام تسأله عندما يتمكنان من الاتصال: "متى تنتهي الحرب يا أبي؟ . متى ستأتي إلينا؟ متى سنعود إلى جباليا؟".. منيراوي لا يعرف.
ويتذكر المنيراوي أنه كان شغوفا بصباح عندما كانت حاملا بابنتهما الأولى، بينما أمضت حملها الثاني هاربة، في سلسلة من الخيام، غالبا جائعة وبدون رعاية طبية، وخلالها أرسلت إلى زوجها صورا لبطنها المتضخم.
قال الزوج: "لقد جعلتني الصور أشعر بالضعف والعجز لدرجة أنني لم أستطع حتى أن أشاركها هذا".
وتحملت صباح جولات عديدة من النزوح. فهربت أولا إلى مدينة غزة، ثم إلى وسط النصيرات، حيث تعيش أختها، واستجابت للأوامر الإسرائيلية بالتحرك جنوبا، إلى خان يونس ثم إلى رفح. عندما غزت القوات الإسرائيلية بلدة الحدود، عادت هي وشام، منهكتين، إلى النصيرات.
قال المنيراوي: "لدينا العديد من المخاوف، أولها وأهمها هو أننا لن نلتقي مرة أخرى".
أما نور الهدى، 31 عاما، أم لطفلين من مدينة غزة، قضت الأشهر العشرة الأولى من الحرب وهي يائسة من رؤية ابنتيها اللتين تقطعت بهما السبل في الشمال.
هدى مطلقة، وكانت سعاد، 12 عاما، وسوار صالح، 10 أعوام، تقيمان مع والدهما عندما اندلعت الحرب. وفي الاضطرابات الأولية، فرت هدى إلى الزوايدة، في وسط القطاع. وعندما انقطعت خطوط الهاتف، فقدت الاتصال بطفلتيها.
شعرت وكأنها "جسد بلا روح"، كما قالت هدى لصحيفة واشنطن بوست عبر الهاتف.
وفي أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر، خلال فترة توقف إنسانية استمرت أسبوعا، حاولت العودة إلى مدينة غزة. وقالت إن الإسرائيليين "منعوا أي شخص من الذهاب، وقالوا [لمن يحاول] إنك ستقتل". ورفض زوجها السابق مغادرة منزله.
ولأربعة أيام مظلمة في أوائل كانون الأول/ ديسمبر، اعتقدت أن سعاد وسوار قد ماتتا. وقالت إن ضربة أصابت منزل والدهما في الخامس من كانون الأول/ ديسمبر، مما أدى إلى استشهاده مع تسعة بالغين آخرين وثلاثة أطفال.
ولقد شعرت بفرحة غامرة عندما اتصل بها أحد أقاربها أخيرا ليقول إن الفتاتين تم انتشالهن من تحت الأنقاض، على الرغم من أن سعاد أصيبت بجروح وكانت تتلقى العلاج في المستشفى الأهلي.
وقالت إنها فقدت الاتصال بالفتيات مرة أخرى عندما حاصرت القوات الإسرائيلية المستشفى في وقت لاحق من ذلك الشهر، ومرة أخرى في كانون الثاني/ يناير عندما ضربت غارة المدرسة التي كانتا تحتميان بها.
وقالت عن الوقت الذي قضته بعيدا: "كان قلبي وعقلي وأفكاري ومشاعري هناك في شمال قطاع غزة. في كل مرة كنت أتناول فيها شيئا، كنت أتذكر أن فتياتي تعيشان في مجاعة هناك، لذلك توقفت عن الأكل، وواصلت المحاولة كل يوم للوصول إليهن".
في السادس من آب/ أغسطس، بعد أشهر من الحزن، كانت فتياتها ضمن مجموعة من القاصرات غير المصحوبات بذويهن في الشمال الذين اجتمعوا مع عائلاتهم في الجنوب.
وقال سليم عويس، مسؤول الاتصالات في اليونيسف، وكالة الأمم المتحدة للطفولة، إن المنظمة ساعدت في تسهيل لم شمل 33 طفلا على الأقل، وتعمل على حوالي 200 حالة مماثلة، لكن الجهود متوقفة الآن.
وقال في رسالة على واتس آب: "بسبب التصعيد المستمر في الشمال، فإن اليونيسف للأسف غير قادرة على إجراء مهام لم شمل الأسر ولا تتم الموافقة على طلبات المهام".
وفي مقاطع فيديو تمت مشاركتها مع واشنطن بوست من ذلك اليوم في آب/ أغسطس، تلتقي هدى بفرح مع ابنتيها. يبكين بينما تعانقهن بقوة.
وقالت: "ما زلت لا أستطيع أن أفهم أنني واجهت كل هذا، وأننا نعيش كغرباء في بلدنا".
"نريد العودة، حتى لو كان ذلك إلى أنقاض منازلنا. هذا كل ما نتمناه".