عدم التنسيق الإقليمي يضر بقضية السودان
تاريخ النشر: 18th, June 2024 GMT
عدم التنسيق الإقليمي يضر بقضية السودان
د. الشفيع خضر سعيد
تناولنا في مقال لنا، قبل ثلاثة شهور، بعض المؤشرات التي نراها سببا في إطالة أمد الحرب وعرقلة جهود السلام في السودان. من هذه المؤشرات:
*غياب الإرادة عند طرفي القتال، وتوهم كل طرف بأنه سيقضي على الطرف الآخر بالضربة القاضية.
*تاريخ الحروب في العالم، يقول إن أي مواجهات عسكرية، إذا لم تتوقف في الأيام أو الأسابيع الأولى، فسوف تستمر لفترة طويلة، وكلما استطالت الفترة كلما تضاءلت فرص الوقف دائم لإطلاق النار.
*كلما طال أمد النزاع، كلما تزايدت أعداد المجموعات المسلحة الخارجة عن سيطرة قياداتها المركزية، وتبدأ تتصرف جزئياً مثل قطاع الطرق؛ والبعض يحاول حسم النزاعات القديمة على الموارد في منطقة معينة، وهولاء، إضافة إلى المقاتلين من خارج السودان، في الغالب يرغبون في استمرار الحرب لأنها المصدر الذي يتكسبون منه الأموال.
*ازدياد عمق الطبيعة القبلية للحرب، وعلو خطاب العنصرية والكراهية، وانتشار القتل على أساس الهوية والانتماء السياسي، وهذا يصعب كبحه ويطيل من أمد الحرب أو يجددها إذا توقفت ما لم تعالج الأسباب.
*المنافسة السياسية والدبلوماسية بين القوى الخارجية مما أدى إلى تعدد المبادرات الدولية، وجميعها عاجز تماما عن فرض وقف الاقتتال.
*تعثر وحدة القوى المدنية وعلو صوت الأجندة الأجنبية وسطها، وتفضيل بعض اللاعبين الدوليين لمجموعات مدنية معينة ودعمها مما يغذي إنقسامات القوى المدنية، ويعيق تلمسها الدرب الصحيح الذي يساعد في توقف القتال.
يوم الأربعاء الماضي اختتم في القاهرة اجتماع تشاوري حول السودان شارك فيه كل من جامعة الدول العربية، والأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (الايغاد)، والاتحاد الأوروبي، ومملكة البحرين (رئاسة قمة جامعة الدول العربية)، والجمهورية الإسلامية الموريتانية (رئاسة الاتحاد الأفريقي)، وجمهورية جيبوتي (رئاسة الايغاد)، بالإضافة إلى أصحاب مبادرات السلام جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة الأمريكية. وخلص الاجتماع إلى تقييم المشاركين لجهود مساعيهم الحميدة ومبادرات السلام التي يرعونها، كما تناول آليات التنسيق بين هذه الجهود والمبادرات الإقليمية والدولية حول السودان، وكذلك مجالات التكامل بين هذه المبادرات، والقيمة المضافة لدور الدول، وإنشاء أدوات تنسيقية عملية تعزز التنسيق والتكامل… ولكن، وفي اليوم التالي مباشرة أرسل الاتحاد الأفريقي دعواته للقوى المدنية السودانية لاجتماع تحضيري يعقد في أديس أبابا في الفترة ما بين العاشر والخامس عشر من يوليو/تموز القادم، علما بأن وزارة الخارجية المصرية أعلنت عن دعوتها لاجتماع شبيه في ذات الشهر. أليس هذا هو عدم التنسيق والمنافسة التي أشرنا إليها أعلاه؟!
الانتهاكات الفظيعة في السودان لن تردعها الإدانات وبيانات الشجب، بل تستوجب أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في حماية السكان المدنيين
أعتقد أن القوى الإقليمية والدولية إذا فعلا هي جادة في مخاطبة الأزمة السودانية والمساهمة في وقف الحرب، فلابد من أن تبادر بإنشاء منصة تنسيق دولية موحدة لجهود وقف الحرب وبسط السلام في السودان، مع توزيع واضح ومنطقي للمهام بين الأطراف الدولية والإقليمية المعنية. وفي هذا الصدد، يمكن للمبعوث الشخصي للأمم المتحدة أن يلعب دور المنسق الرئيسي في هذه المنصة بين جهود الاتحاد الأفريقي، منظمة الإيغاد، منبر جدة، جامعة الدول العربية، مبادرة دول الجوار، والاتحاد الأوروبي. وبالتأكيد، فإن تمكين هذه المنصة الموحدة للقيام بدورها على النحو المطلوب، يحتاج إلى دعم من القاعدة الشعبية السودانية وتحديد الأولويات الصحيحة التي تهم الشعب، ولكي تنجح أي خطة تجترحها هذه المنصة، فإنها تحتاج إلى البناء على التجربة الناجحة لغرف الطوارئ.
لكن، لا أعتقد أن الأولوية الآن هي محاولة جمع المدنيين السودانيين في هذه العاصمة أو تلك لتوحيدهم وبحث قضية الحرب سياسيا، فالسياسة ليست هي المدخل الوحيد، وربما ليست المدخل الصحيح، أو الأولوية، في حالة السودان الراهنة. وأي محاولات مثل هذه، بمعزل عن المعاناة المأساوية التي يصل جحيمها الشعب السوداني، ستكون تغريدة خارج السرب. إن المدخل الصحيح، والأولوية القصوى الآن، لمعالجة الوضع الكارثي في السودان ليس العملية السياسية، وإنما تنفيذ الأجندة الإنسانية ومعالجة المعاناة واستخدام الإطار القانوني الدولي (مسؤولية الحماية) لضمان حماية السكان المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية لهم، ولمنع أي توجهات محتملة للقيام بإبادة جماعية كما حدث في الجنينة ويتخوف من حدوثه في الفاشر. وهكذا، فإن الإطار المنطقي، كما نراه، لمعالجة أزمة الحرب في السودان هو:
*إعطاء الأولوية للأجندة الإنسانية وضمان حماية المدنيين، مع التشديد على أن ملف الأجندة السياسية وحماية المدنيين لا يقبل التسييس ولا المساومة، وينبغي ألا تكون المساعدات الإنسانية رهينة لدى الأطراف المتحاربة.
*فرض وقف إطلاق النار الفني والحفاظ عليه، وذلك وفق الآليات المعمول بها إقليميا ودوليا وفي إطار القانون الدولي.
*بذل كل الجهود الممكنة لرتق النسيج الاجتماعي وتقليل الاستقطاب الاجتماعي والعرقي والسياسي.
* يلي ذلك، وكمرحلة أخيرة: الانخراط في عملية سياسية شاملة ذات طبيعة تأسيسية للدولة السودانية، ومن تصميم وإدارة وقيادة القوى المدنية السودانية، وصولا إلى فترة إنتقالية تأسيسية لا مجال فيها للطرفين المتحاربين ولا للأطراف الأجنبية، ويهيمن عليها شعار الثورة الرئيسي: العسكر للثكنات والدعم السريع ينحل.
أخيرا نكرر ما قلناه في مقالاتنا السابقة من أن الانتهاكات الفظيعة في السودان لن تردعها الإدانات وبيانات الشجب، بل تستوجب أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولياته في حماية السكان المدنيين السودانيين، بدءا استخدام الصلاحيات المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة لفرض وقف إطلاق النار وتوصيل المساعدات الإنسانية للسكان خاصة النازحين واللاجئين، حظر دخول الأسلحة الى السودان، إصدار عقوبات دولية على الدول التي تدعم استمرار الحرب في السودان وتمكن استمرار حدوث هذه الجرائم والانتهاكات في خرق فاضح لقرارات الشرعية الدولية، توسيع نطاق عمل وولاية لجنة التحقيق الدولية التابعة لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وإلزام الأطراف المتحاربة بقبولها والسماح لها بالوصول غير المشروط إلى جميع مناطق السودان للتحقيق في الانتهاكات التي تم ارتكابها خلال هذه الحرب.
* نقلاً عن القدس العربي
الوسومالأمم المتحدة السودان اللاجئين المجتمع الدولي حظر الأسلحة د. الشفيع خضر سعيد وقف إطلاق النارالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الأمم المتحدة السودان اللاجئين المجتمع الدولي حظر الأسلحة وقف إطلاق النار فی السودان
إقرأ أيضاً:
تحديات السودان مع مطلع 2025
في نهاية 2024 يبدو المشهد في السودان مختلفاً تماماً عما كان عليه في الأيام الأخيرة من العام الماضي. آنذاك واجه الجيش خسارة كبيرة عندما اجتاحت «قوات الدعم السريع» مدني، عاصمة ولاية الجزيرة و«صرة السودان»، بعد انسحاب قيادة الفرقة الأولى مشاة من دون معارك تذكر. تبع ذلك موجة من التساؤلات بشأن مسار الحرب، وحملات من التشكيك بعد أن خسر الجيش مواقع عديدة ومدناً حيوية، وتمددت «قوات الدعم السريع» في مساحات شاسعة، ومعها اتسعت دائرة النزوح القسري للمواطنين، ودورة الانتهاكات الفظيعة والتدمير الممنهج لقدرات البلاد.
اليوم تظهر الصورة مختلفة بشكل كبير بعد الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش السوداني والقوات المشتركة وكتائب الإسناد من المستنفرين، متمثلة في استرداد مناطق استراتيجية، واستهداف خطوط الإمداد بما في ذلك تدمير قاعدة الزرق في شمال دارفور التي تعد أهم قواعد «قوات الدعم السريع» وشريان الإمداد بالوقود وشحنات الأسلحة القادمة من الخارج. في غضون ذلك واصل الجيش وحلفاؤه التقدم نحو مدني، واستعادوا السيطرة على معظم أنحاء مدينة بحري وتقدموا للالتقاء مع القوات التي كانت معزولة في سلاح الإشارة، ليبدأ من هناك الزحف لاستكمال استعادة الخرطوم.
ينظر كثيرون إلى هذه التطورات المتسارعة كمؤشر على نقلة نوعية في مسار الحرب توحي بأن مطلع العام الجديد سيشهد تحولات ميدانية ستكون لها انعكاساتها على مجمل الأوضاع، مع تغير موازين القوى بشكل كبير وواضح. ومع ذلك، فإن مستقبل الوضع في السودان يعتمد على جملة من العوامل العسكرية، والسياسية، والإنسانية، والاقتصادية، والخارجية أيضاً.
الانتصارات العسكرية التي تحققت للجيش وحلفائه تمثل فرصة حقيقية لتعزيز الجهود نحو إنهاء الحرب، لكنها ليست حلاً نهائياً بحد ذاتها. فالوضع أعقد من ذلك بكثير، والمعالجات تحتاج إلى نظرة متعمقة في كيفية معالجة آثار هذه الحرب التي هزت السودان بشكل غير مسبوق، وأحدثت فيه جروحاً غائرة واستقطاباً حاداً، بما يستدعي تضافر الجهود، ورؤية حكيمة لكيفية عبور هذا المنعطف بسلام وبالطريقة التي تحافظ على وحدة السودان، وتصد عنه المكايد والمؤامرات التي غذت هذه الحرب.
خلال العام الجديد يمكن أن يشهد السودان نقلة مهمة إذا تم البناء على التحولات العسكرية الأخيرة بطريقة استراتيجية وشاملة تعالج الأزمة بمختلف أبعادها. فتحقيق السلام يتطلب أكثر من الانتصار في المعارك؛ إنه يتطلب رؤية للمعالجة السياسية تتجاوز دعوات الإقصائيين، وتفتح الباب أمام الحوار الشامل، الذي من دونه لن يكون هناك حل حقيقي، أو استقرار يحقق للبلد الوقوف على قدميه لمواجهة حرب أخرى أصعب هي إعادة البناء والإعمار، وجذب المساعدات والاستثمارات الضرورية في المرحلة المقبلة.
التحديات كثيرة، والطريق لن يكون سهلاً. بداية هناك التحدي المتعلق بكيفية معالجة الوضع الإنساني المتفاقم، والمعاناة التي تشتد كلما طال أمد الحرب. فالسيطرة على الأرض لا تعني انفراجاً إذا لم يتبعها توفير الظروف الأمنية، والخدمات الأساسية التي تتيح عودة النازحين والمهجرين إلى ديارهم، وتضمن تقديم الإغاثة العاجلة التي يحتاجونها. فالسودان اليوم يواجه واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية المركبة نتيجة التهجير القسري، والتدمير الممنهج للبنى التحتية والمنشآت الخدمية، وتعطل وسائل الإنتاج، وشل الحياة الطبيعية بما في ذلك العمل والتعليم.
تحدٍّ آخر سيتمثل في الطريقة التي سترد بها «قوات الدعم السريع»، والأطراف الخارجية الداعمة لها، وهل ستمضي في الحرب بما يعني إطالة أمدها. فالواضح الآن وفقاً للتحولات في الميدان، وفي موازين القوى، أن محاولة فرض السيطرة على السودان تبددت، وأن أقصى ما يمكن أن يحدث هو فرض واقع تقسيمي في غرب البلاد إلى حين، أو حدوث تحول في موقف الجيش الأخير وقبوله العودة إلى منبر جدة، للتفاوض هذه المرة على شكل انتهاء الحرب انطلاقاً من مفهوم أن الحروب تنتهي عادة بترتيبات عبر التفاوض حتى ولو كان هناك نصر ميداني.
في هذا الإطار فإن هناك عدة أسئلة شائكة مثل: هل بعد كل الانتهاكات التي حدثت، يمكن أن يكون هناك دور لـ«الدعم السريع» في أي مشهد مستقبلي؟ وهل يمكن استيعابها في الجيش الوطني «المهني» الواحد الذي يفترض أن يكون من بين أهداف وخطط مرحلة ما بعد الحرب التي ستشمل أيضاً الفصائل والحركات المسلحة الأخرى؟ وهل أن منحها أي دور مستقبلي سيعني نهاية الحروب في السودان، أم أنه سيشجع آخرين على تكرار تجربتها بكل مرارتها؟
يبقى بعد ذلك التحدي المتمثل في الإرادة السياسية للحل، وما إذا كانت الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش وحلفاؤه ستفتح مجالاً للبدء في خطوات نحو إطلاق حوار وطني سياسي شامل حول مستقبل السودان، وكيف يُحكم بما يحقق له الاستقرار، ويفتح طريق التنمية المتوازنة والمستدامة، ويعالج القضايا الجوهرية المتجذرة بما ينهي دوامة الحروب المستمرة منذ ما قبل الاستقلال والتي كبلت البلد وكلفته أثماناً باهظة.