الحمائية - الرسوم الجمركية سيئة اقتصاديا ولكنها جيدة سياسيا
تاريخ النشر: 17th, June 2024 GMT
نحن ننتقل الآن إلى عالم حِمائي تقوده الولايات المتحدة وذلك على نحو ما كانت عليه الحال في أوائل ثلاثينات القرن الماضي. دونالد ترامب بالطبع حمائي ملتزم تجاه الحمائية، إنه خليفة حقيقي لعضو مجلس الشيوخ سموت وعضو مجلس النواب هاولي وهما مُشرِّعان حرَّضا على سن قانون سموت - هاولي للتعريفات الجمركية «سيئ الذكر» في عام 1930.
لكن جو بايدن -إذا ما استبعدنا معايير ترامب- أيضا ماهر عندما يتعلق الأمر بالحمائية كما اتضح مؤخرا جدا من رسومه الجمركية التي فرضها على صادرات صينية بقيمة 19 بليون دولار. فالرسوم الأمريكية على السيارات الكهربائية على وجه الخصوص ستتضاعف أربع مرات إلى 100%. رد ترامب على ذلك الإجراء بقوله: «أين كنت (يا بايدن) طوال ثلاث سنوات ونصف السنة؟ كان يجب أن (تفرض هذه الرسوم) منذ فترة طويلة». وهو يقترح رسوما جمركية بنسبة 10% على كل الواردات بخلاف تلك القادمة من الصين والتي يأمل أن يضع عليها رسوما بنسبة 60%. هذه الرسوم الجديدة حسبما يأمل ترامب ستعوض جزئيا الإيرادات المفقودة من تمديد سريان قانونه «قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017» والباهظ التكلفة. هذه السياسات الحمائية جذابة سياسيا. فأثر الرسوم الجمركية على أولئك الذين يتضررون منها غير مرئي نسبيا وضحاياها عادة بلا حول ولا طول ويمكن تبريرها كوسيلة لإزالة مظالم اقترفها «أجانب أشرار»، لكنها مع ذلك تظل سياسات اقتصادية سيئة. لكي نفهم ذلك علينا أن نضع في بالنا التمييز الذي استُحدِث في علم الاقتصاد أوائل ستينات القرن الماضي وتم التحقق منه تجريبيا في بعض التحليلات التقليدية حول دور السياسات التجارية بالنجاحات الضخمة للتنمية الموجهة نحو التصدير في تايوان وكوريا الجنوبية ولاحقا في الصين، المسألة بسيطة. نعم هنالك أسباب ممتازة تبرر لنا تدخلنا في الاقتصاد إذا رغبنا في ذلك. ربما نريد خفض اللامساواة وتقليل عدم الأمان وتعزيز الصناعات الوليدة والحد من عدم استقرار الاقتصاد الكلي وتقليص الهشاشات الاستراتيجية إلى حدها الأدنى. لكن السياسة التجارية وخصوصا الحمائية نادرا ما تكون الوسيلة الأفضل لتحقيق الهدف. والحجة التي تدافع عن التجارة الليبرالية (المتحررة من القيود) ليست حجة لامتناع الدولة عن التدخل في عمل آليات السوق «اتباع مبدأ دعه يعمل دعه يمر». إنها حجة لاستخدام أدوات أخرى بخلاف الحواجز الجمركية حيثما أمكن ذلك، ولكي نفهم لماذا نادرا ما تكون الرسوم الجمركية أفضل أداة للسياسة الاقتصادية نحتاج إلى أن نفهم ما تفعله هذه الرسوم. إنها ضرائب على المستهلكين الذين يذهب جزء من إيراداتهم إلى الحكومة لكن جزأها الأكبر يذهب إلى المنتجين. لذلك هي أمثلة لسياسة «زيادة أو جمع الضرائب بغرض زيادة الإنفاق العام»، لكن الضريبة مخفية في ارتفاع أسعار السلع والإنفاق مخفي في زيادة مكافآت المنتجين.
مثل هذه السياسات لا يُستهدف بها أي شيء على نحو جيد سوى هذين الهدفين. والرسوم الجمركية، مثلها مثل أية ضريبة، تجعل الناس الذين يشترون السلعة سواء كانوا مستهلكين أو منتجين في وضع الخاسر، لكن لديها أيضا آثار أوسع نطاقا على الاقتصاد، فهي فوق كل شيء تفرض «تحيزا للسوق المحلية»، وللتعبير عن ذلك بشكل عام فإن الضريبة على الواردات هي أيضا ضريبة على الصادرات، كيف يكون ذلك كذلك؟ حسنا، لنأخذ مثالا مقترَح ترامب بفرض رسم جمركي بنسبة 10% على كل الواردات الأمريكية، هذا يمكن أن يعتبر مبدئيا مثل خفض قيمة العملة لكن فقط لبدائل الواردات؛ فالواردات من مثل تلك السلع ستَقِلّ، وهذا في النهاية هو الهدف المطلوب، لكن ليس هنالك سبب يستلزم أن يؤثر ذلك مباشرة على ميزان الحساب الجاري ما لم يغير أيضا إجمالي الدخل والإنفاق في الاقتصاد، لذلك مع انخفاض الطلب على الواردات ستتراجع الحاجة إلى شراء العملات الأجنبية، وذلك سيعزز قوة الدولار ويجعل الصادرات الأمريكية أقل تنافسية، حينها ستتقلص هذه الصادرات. المصدرون هم المنتجون الأكثر تنافسية في الولايات المتحدة، وحماية منتجي بدائل الواردات غير التنافسية على حساب هؤلاء المصدرين لا يبدو أمرا معقولا، هذه ليست مسألة نظرية. أولئك الذين عملوا من بيننا في بلدان بها سياسات تجارة عالية الحمائية شاهدوا هذه النتيجة. لقد عملتُ في إدارة الهند بالبنك الدولي سنوات السبعينات، ولم تجعل سياسة التجارة الحمائية الهندَ مكتفية ذاتيا. لقد حطمت الصادرات وجعلتها بالغة الهشاشة والضعف. هذا ليس كل شيء، فهنالك أيضا آثار توزيعية سلبية. هنالك دراسة حديثة ممتازة بعنوان «لماذا ستؤذي رسوم ترامب الجمركية الأمريكيين العاملين» من إعداد كيمبرلي كلوزينج وماري لافلي لمعهد بيترسون للاقتصاد العالمي. تستعرض الدراسة الأدلة التي تشير إلى أن أجندة ترامب لفترة رئاسية ثانية «ترقَى إلى أن تكون تخفيضات ضريبة تراجعية تُسدد جزئيا فقط بواسطة زيادات ضريبة تراجعية، ويشير الحد الأدنى للتكلفة بالنسبة للمستهلكين إلى أن الرسوم الجمركية ستقلل الدخول بعد خصم الضرائب بحوالي 3.5% لأولئك الذين يوجدون في النصف الأسفل من توزيع الدخل».
على نحو شبيه بذلك توصلت دراسة بواسطة المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية في يناير 2024 إلى أن الحرب التجارية التي شنها ترامب في الفترة 2018-2019 «لم تقدم حتى تاريخ الدراسة عونا اقتصاديا للمناطق التي تشكل قلب الولايات المتحدة. فالرسوم الجمركية على الواردات من السلع الأجنبية لم تؤد إلى زيادة أو خفض التوظيف الأمريكي في القطاعات المحمية حديثا والرسوم الأجنبية الانتقامية كانت لديها آثار سلبية واضحة على التوظيف وبشكل أساسي في الزراعة، وقد تم التخفيف جزئيا فقط من هذه الأضرار بالدعومات الزراعية التعويضية في الولايات المتحدة». إجمالا إنها سياسة اقتصادية سيئة جدا ولكنها سياسيا جيدة. هل دعم بايدن الذي يستهدف إنتاج السيارات الكهربائية سيكون أكثر فاعلية؟. هذا مستبعد لسبب بسيط، فهذه السياسة الاقتصادية ستحمي المنتجين في السوق الأمريكية، لكن سوق الولايات المتحدة أصغر من أن تجعل المنتجين المحليين أكثر تنافسية على الصعيد العالمي. بحسب الوكالة الدولية للطاقة في عام 2023 كانت السوق الأمريكية للسيارات الكهربائية والهجين تساوي 17% من السوق الصينية. لم يعد المستهلكون في الولايات المتحدة يهيمنون على الاستهلاك العالمي. وهذا عائق كبير أمام السياسة الصناعية المتجهة نحو السوق المحلية.
ستكون هنالك حاجة إلى شيء أكثر حذقا إلى حد بعيد. هذا الشيء هو الدعومات المالية. لقد كان بايدن على حق تماما في استخدامها، والرد على ذلك سيكون: الضرائب المطلوبة لتمويل الدعومات شيء بغيض. لكن الرسوم الجمركية ضرائب أعلى، وما هو أسوأ من ذلك أنها غير كفؤة وتراجعية، ومن المؤكد تقريبا أن تقود إلى رد انتقامي. نعم هنالك حجج معقولة تماما للتدخل في السوق، لكن من الجنون العودة إلى السياسات التجارية في ثلاثينات القرن الماضي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الرسوم الجمرکیة
إقرأ أيضاً:
رئيسة المفوضية الأوروبية تقول إن الاتحاد الأوروبي مستعد لـ”مفاوضات صعبة” مع ترامب وسط مخاوف من فرض الرسوم الجمركية
فبراير 4, 2025آخر تحديث: فبراير 4, 2025
المستقلة/- قالت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية يوم الثلاثاء إن الاتحاد الأوروبي مستعد للدخول في “مفاوضات صعبة” مع دونالد ترامب لمنع حرب تجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا، وذلك بعد يوم من إبرام كندا والمكسيك صفقات في اللحظة الأخيرة مع البيت الأبيض لتجنب فرض رسوم جمركية بنسبة 25٪ مؤقتًا.
حذر ترامب يوم الأحد من أن الرسوم الجمركية ضد الكتلة “ستحدث بالتأكيد” وسيتم تقديمها “قريبًا جدًا”، مما وضع المسؤولين والدبلوماسيين في بروكسل في حالة تأهب قصوى.
وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية في الاجتماع السنوي لسفراء الاتحاد الأوروبي في بروكسل: “سنكون مستعدين للمفاوضات الصعبة حيثما دعت الحاجة وإيجاد الحلول حيثما أمكن، لحل أي مظالم ووضع الأسس لشراكة أقوى. سنكون منفتحين وعمليين في كيفية تحقيق ذلك”.
“لكننا سنوضح بنفس القدر أننا سنحمي مصالحنا دائمًا – أيا كانت الحاجة إلى ذلك ومتى كان ذلك ضروريًا. ستكون هذه دائمًا الطريقة الأوروبية”.
وتشير الاتفاقيات مع كندا والمكسيك، التي أُعلن عنها بعد وقت قصير من إجراء رئيس الوزراء جاستن ترودو والرئيسة كلوديا شينباوم مكالمات هاتفية منفصلة مع ترامب، إلى أن ارئيس الأمريكي يرى التعريفات الجمركية كأداة للسياسة الخارجية لانتزاع التنازلات من الدول الأخرى، بما في ذلك الحلفاء المقربين، بدلاً من إعادة التوازن للعلاقات التجارية، كما زعم خلال حملته الرئاسية الناجحة.
وتتضمن الصفقات مع كندا والمكسيك التزامات بتعزيز الرقابة على الحدود والتصدي لتجارة الفنتانيل والاتجار بالأسلحة والجريمة المنظمة.
في المقابل، سيؤجل ترامب التعريفات الجمركية بنسبة 25٪ لفترة أولية مدتها 30 يومًا، وستمتنع كندا والمكسيك عن فرض الرسوم الجمركية المضادة التي صممتها. وعلى النقيض من ذلك، دخلت التعريفات الجمركية بنسبة 10٪ على الصين حيز التنفيذ، مما دفع بكين إلى الرد.
بينما تحاول الأسواق استيعاب التبادل التجاري، يتحول الاهتمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يبدو أنه التالي في قائمة ترامب.
وقال ترامب للصحفيين: “لقد أساء الاتحاد الأوروبي معاملة الولايات المتحدة لسنوات، ولا يمكنهم فعل ذلك”.
كان لدى الاتحاد الأوروبي فائض طويل الأمد في السلع مع الولايات المتحدة، بقيمة 155.8 مليار يورو في عام 2023. وكانت المنتجات الصيدلانية والمركبات هي الصادرات الأكثر قيمة، وفقًا لـ Eurostat. ولكن في الخدمات، كانت التدفقات عكس ذلك: لدى الاتحاد الأوروبي عجز متكرر وكبير مع الولايات المتحدة، بقيمة 104 مليار يورو في عام 2023.
ركز ترامب شكواه على السلع، دون مراعاة الخدمات.
وقال: “إنهم لا يأخذون سياراتنا، ولا يأخذون منتجاتنا الزراعية، ولا يأخذون أي شيء تقريبًا ونحن نأخذ منهم كل شيء. ملايين السيارات، وكميات هائلة من المواد الغذائية والمنتجات الزراعية”.
إذا نفذ الرئيس الأمريكي تهديده، فستقع المهمة على عاتق المفوضية الأوروبية، التي تتمتع بالاختصاص الحصري لوضع السياسة التجارية.
وأصرت فون دير لاين في خطابها على أن “الأولوية الأولى” للمفوضية ستكون التعامل مع الإدارة الجديدة لإيجاد أرضية مشتركة.
ولم تذكر أي أمثلة على التنازلات التي يمكن أن تقدمها بروكسل لتهدئة غضب ترامب، وتحدثت بدلاً من ذلك عن التعاون في “العديد من المجالات التي تتقارب فيها مصالحنا”، مثل سلاسل التوريد الحرجة والتقنيات الناشئة. (في نوفمبر/تشرين الثاني، طرحت فكرة شراء المزيد من الغاز الطبيعي المسال الأميركي لمساعدة الكتلة على التخلص التدريجي من الوقود الروسي).
وبالمثل، لم تذكر فون دير لاين القطاعات التي قد تقرر بروكسل استهدافها في ردها المحتمل. على سبيل المثال، أعلنت كندا عن فرض رسوم جمركية مضادة على المنتجات الأميركية الرئيسية القادمة من الولايات التي تصوت للحزب الجمهوري، قبل تعليقها.
وقالت: “يمثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة معًا ما يقرب من 30٪ من التجارة العالمية في السلع والخدمات. وأكثر من 40٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. توظف الشركات الأوروبية في الولايات المتحدة 3.5 مليون أميركي. وتعتمد مليون وظيفة أميركية أخرى بشكل مباشر على التجارة مع أوروبا”، لدعم حجتها للحوار.
واستمرت في القول: “النقطة هي أن الكثير على المحك لكلا الجانبين”.
“هناك وظائف وشركات وصناعات هنا وفي الولايات المتحدة تعتمد على الشراكة عبر الأطلسي. لذا نريد أن نجعلها ناجحة. وليس فقط بسبب علاقاتنا التاريخية. ولكن لأنها ببساطة تجارة ذكية”.
وفي حين أكدت فون دير لاين على أهمية العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حثت أيضًا السفراء على أن يكونوا “جريئين ورشيقين” لتطوير الشراكات مع الدول الأخرى، بما في ذلك تلك التي “لا تتفق معنا في الرأي ولكنها تشترك معنا في بعض مصالحنا”.
وذكرت أن الصين كدولة يمكن للكتلة “توسيع” علاقات التجارة والاستثمار معها مع معالجة نقاط الاحتكاك.
وقالت فون دير لاين إن الاتحاد الأوروبي يجب أن يتخلى عن تعلقه بالعالم الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وأن يكيف سياسته الخارجية مع عصر “الجغرافيا السياسية شديدة التنافسية والمعاملات” التي تشكل القرن الحادي والعشرين.
وأضافت أن الحروب والغزوات والاستبداد المتزايد والتعريفات الجمركية والعقوبات والتكنولوجيات التخريبية وتغير المناخ والهجرة غير النظامية كلها شهادة على هذا الواقع الجديد.
وقالت: “يتعين على أوروبا أن تتعامل مع العالم كما نجده. وأنا مقتنعة بأن أفضل نهج لأوروبا في هذا العالم المتهور هو أن تظل متزنة”.
“يتعين عليها أن تتخذ القرارات ليس من منطلق العاطفة أو الحنين إلى عالم كان موجودا ذات يوم. بل من منطلق الحكم المدروس حول ما هو في مصلحتنا في العالم كما هو اليوم. لأن السياسة الخارجية والدبلوماسية ليست غاية في حد ذاتها. إنها وسيلة لتحقيق الاستقرار والأمن والازدهار لمواطنينا – ولشركائنا”.