معضلة مايكروسوفت.. الشركة التي تعتمد عليها الحكومة الأميركية ولا تستطيع مواجهتها
تاريخ النشر: 17th, June 2024 GMT
في مشهد الأمن السيبراني العالمي نادرا ما يبرز اسم يحمل ذات الثقل والتناقض مثل اسم مايكروسوفت، فقد تداخلت أنظمة مايكروسوفت لتصبح جزءا محوريا من بنية الحكم الأميركي كونها المزود الرئيسي للتكنولوجيا للحكومة الأميركية، بدءا من التطبيقات المكتبية اليومية في أجهزة البنتاغون أو وزارة الخارجية أو مكتب التحقيقات الفدرالي، وصولا إلى كونها شريكا محوريا في مبادرات الحكومة بمجال الدفاع السيبراني، إذ تمتلك الشركة معلومات ومعرفة فريدة حول أنشطة القراصنة، إلى جانب قدراتها الواسعة على إحباط عملياتهم السيبرانية.
ومع ذلك، فقد كانت بعض الحوادث السيبرانية الأخيرة إلى جانب تقرير من مجلس مراجعة سلامة الإنترنت (سي إس آر بي) سببا في توجيه الأنظار نحو معضلة تواجه الشركة الأميركية، فرغم الاختراقات السيبرانية المتكررة التي نفذها خصوم مباشرون للولايات المتحدة ضد مايكروسوفت فإن موقف الشركة يبدو ثابتا ومحصنا ضد أي عواقب أو نقد، فقد واصلت حكومة الولايات المتحدة شراء منتجات مايكروسوفت واستخدامها، ورفض كبار المسؤولين في الحكومة توجيه أي انتقادات علنية إلى الشركة كما أشار تقرير موقع "وايرد".
إخفاقات سيبرانيةفي صميم هذه المعضلة جاءت سلسلة من الإخفاقات في الأمن السيبراني التي لم تحرج مايكروسوفت فحسب، بل كشفت البنى التحتية الحيوية في الولايات المتحدة لعمليات التجسس والتدمير.
تلك الاختراقات لم تكن مجرد حالات نادرة، بل كانت أعراضا لداء أعمق وهو "ثقافة الشركة التي لا تمنح الأولوية للأمن والسلامة"، وفقا لما ذكره تقرير مجلس مراجعة سلامة الإنترنت.
وقد انتقد المجلس -الذي يجمع بين خبراء من الحكومة وخبراء في مجالات الصناعة- الشركة لمواصلة الفشل في الأمن السيبراني، خاصة بعد اختراق خطير نفذه قراصنة صينيون في عام 2023.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى، ففي عام 2021 استغل قراصنة تابعون للحكومة الصينية ثغرات في خوادم البريد الإلكتروني الخاصة بمايكروسوفت مستهدفين عملاء الشركة، ثم نشروا تلك الثغرات للجميع، مما أثار موجة من الهجمات السيبرانية، وأبرز هذا الحادث فشل مايكروسوفت في معالجة تلك الثغرات المعروفة سريعا، مما أدى إلى استغلالها على نطاق أوسع.
بالمقابل، كان اختراق عام 2023 أكثر إثارة للقلق بالنسبة للحكومة الأميركية، إذ تسلل عملاء صينيون إلى حسابات البريد الإلكتروني التابعة لـ22 وكالة فدرالية، ليتمكنوا من التجسس على كبار المسؤولين في وزارة الخارجية ووزيرة التجارة جينا رايموندو قبل اجتماعات دبلوماسية مهمة مع الحكومة الصينية، حسبما أشار تقرير "وايرد".
وفي يناير/كانون الثاني الماضي كشفت مايكروسوفت عن تمكن قراصنة روس من الوصول إلى رسائل البريد الإلكتروني لمسؤولي الشركة وخبراء الأمن السيبراني والمحامين، وأعلنت الشركة تسرب بعض المعلومات عن الكود المصدري لها وكشف معلومات حساسة بين موظفي الشركة وبعض العملاء.
ثم أكدت وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية (سي آي إس إيه) أن من بين هؤلاء العملاء وكالات فدرالية، وأصدرت توجيها طارئا لتلك الوكالات تحذرها من أي علامات تدل على محاولات القراصنة الروس استخدام بيانات تسجيل الدخول في تلك الرسائل.
لكن على الرغم من تلك الاختراقات فإن اعتماد الحكومة الأميركية على مايكروسوفت تعمق أكثر، وهو اعتماد مدفوع بتكامل الشركة الفريد داخل العمليات الحكومية ودورها الإستراتيجي في مبادرات الدفاع السيبراني.
وأدى هذا الاعتماد المفرط على منتجات مايكروسوفت إلى وضع الحكومة الأميركية في موقف ظهرت فيه عاجزة عن ممارسة أي ضغوطات حقيقية على الشركة، حسبما أشار تقرير "وايرد".
مايكروسوفت كشفت عن تمكن قراصنة روس من الوصول إلى رسائل البريد الإلكتروني لمسؤولي الشركة (غيتي) مصدر للإيراداتويزيد تعقيد الوضع نهج مايكروسوفت في التعامل مع الأمن السيبراني كفرصة انتهازية لتحقيق المزيد من الإيرادات، إذ تتقاضى الشركة رسوما إضافية مقابل ميزات الأمان المتطورة التي تقدمها، وهي خدمات يرى كثيرون أنها يجب أن تصبح خدمات أساسية ولا تتاح مقابل رسوم إضافية.
وفي يناير/كانون الثاني 2023 كانت مايكروسوفت قد أعلنت أن الإيرادات السنوية لقسم الأمان لديها تجاوزت 20 مليار دولار، وهو رقم يعكس حجم عملياتها في مجال الأمن السيبراني.
وتعرضت تلك الإستراتيجية لانتقادات شديدة في بداية عام 2021 عندما ظهر أن عدم دفع تلك الرسوم لمثل هذه الخدمات المميزة كان له دور في تمكين القراصنة الروس من تنفيذ اختراق "سولار ويندز" الشهير.
وانتقد خوان أندريس نائب رئيس الأبحاث في شركة "سنتينل ون" نهج مايكروسوفت القائم على تحقيق الأرباح من الأمن السيبراني قائلا لموقع وايرد "تحولت مايكروسوفت للتعامل مع الأمن السيبراني على أنه وسيلة لتحقيق الإيرادات".
ووصف زميله أليكس ستاموس "إدمان" مايكروسوفت على تلك الإيرادات كأحد "عوامل تشويه قرارات تصميم منتجاتها"، وفقا لتقرير "وايرد".
نقطة ضعف واضحةاعتماد الحكومة الأميركية على منتجات مايكروسوفت بهذا الشكل يمثل معضلة أخرى، وهي أن نقطة الانهيار تصبح نقطة واحدة، وهو خطر يتضخم بسبب الانتشار الواسع لمنتجات الشركة في معظم العمليات الحكومية كما أشار التقرير.
ويحذر الخبراء من أن احتكار مايكروسوفت البنية التحتية التقنية الحكومية يخلق نقطة ضعف واضحة، إذ إن تركيز المهام الحساسة داخل منصة واحدة يعني أن أي مشكلة أمنية قد تسبب آثارا واسعة النطاق، فمثلا إذا عطل هجوم منصة البريد الإلكتروني لمايكروسوفت فلن يوقف هذا عملية التواصل فحسب، بل بإمكانه التسبب في انهيار قدرة عمليات الحكومة الفدرالية كما توقع أحد خبراء مجال الأمن السيبراني وفقا لتقرير "وايرد".
وأدى هذا إلى ظهور بعض الدعوات من المشرعين الأميركيين لتنويع مزودي الخدمات التقنية للحد من تلك المخاطر وتقليل الاعتماد المفرط للحكومة على شركة واحدة.
ووفقا للتقرير، يذكر السيناتور الأميركي رون وايدن "اعتماد الحكومة الأميركية على شركة مايكروسوفت يشكل تهديدا جديا للأمن القومي للولايات المتحدة، الحكومة عالقة فعلا مع منتجات الشركة على الرغم من الاختراقات المتعددة الخطيرة لأنظمة الحكومة الأميركية التي نفذها قراصنة من دول أخرى بسبب إهمال الشركة".
واقترح وايدن مشروع قانون يحدد مهلة 4 سنوات للحكومة الفدرالية كي تتوقف عن شراء خدمات تعاونية من الشركة، مثل برامج "مايكروسوفت أوفيس" التي يرى منتقدوها أنها لا تُدمج جيدا مع خدمات منافسة.
نفوذ مايكروسوفت امتد إلى ما هو أبعد من مميزات برمجياتها أو سيطرتها على السوق (رويترز) امتداد النفوذووفقا للتقرير، يمتد نفوذ مايكروسوفت إلى ما هو أبعد من ميزات برمجياتها أو سيطرتها على السوق، ليصل إلى أعماق السلطة من خلال الضغط الإستراتيجي والمشاركة في وضع السياسات العامة، إذ يقول أندرو غروتو المسؤول السابق في البيت الأبيض بمجال الأمن السيبراني "مايكروسوفت هي بلا شك الأكثر ذكاء في التعامل مع هذه القضايا في عالم التقنية".
فريق التهديدات السيبرانية التابع لمايكروسوفت -الذي يعرف عن التهديدات السيبرانية أكثر من أي شركة أخرى ومن معظم الحكومات- ينشر بانتظام أبحاثا بشأن تلك التهديدات ويتعاون مع قوات إنفاذ القانون في عمليات مشتركة لتفكيك البنية التحتية لمجموعات القرصنة السيبرانية.
كما تساعد الشركة في تمويل مجموعات مثل معهد "سايبر بيس" الذي يدعو إلى إنترنت أكثر أمانا ويساهم في الدفاع عن المنظمات غير الحكومية ضد عمليات القرصنة وفقا لتقرير "وايرد".
ولا تتوقف مشاركة مايكروسوفت الإستراتيجية عند عمليات التعاون، بل تمتد إلى تشكيل السياسة، فغالبا ما توفر الشركة للمشرعين مسودات نصوص تشريعية، مما يضعها شريكا مساعدا لصانعي السياسات الذين يرغبون في مواجهة قضايا الأمن السيبراني لكنهم يفتقرون إلى الخبرة اللازمة حسبما ذكر التقرير.
تلك العلاقة التكافلية عززت مكانة مايكروسوفت في واشنطن، مما جعلها كيانا لا يمكن الاستغناء عنه وأصبح في الوقت نفسه فوق المساءلة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات البرید الإلکترونی الحکومة الأمیرکیة الأمن السیبرانی
إقرأ أيضاً:
الفوضى تهدد مستقبل البلاد.. هل تستطيع سوريا الصمود أو تتجه نحو المزيد من العنف والدمار؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في الثامن من ديسمبر، فر الرئيس السوري بشار الأسد من دمشق، مما يمثل الانهيار المفاجئ والصادم لنظامه بعد ١٣ عاما من الحرب الأهلية. ولكن مع امتلاء شوارع دمشق بالحشود، ظهرت حقيقة صارخة: تواجه سوريا الآن التحدي الخطير المتمثل في إعادة بناء نفسها دون الانزلاق إلى الفوضى.
يقول سام هيلر محلل وزميل في مركز مؤسسة سينتشري للأبحاث والسياسات الدولية: الآن بعد رحيل الأسد، يتعين على المجتمع الدولي والسوريين على حد سواء أن يتعاملوا مع سؤال جديد: هل تستطيع سوريا الصمود، أم أنها ستتجه نحو المزيد من العنف والدمار؟
الطريق إلى الانهياركان سقوط الأسد سريعًا ولكن لم يكن غير متوقع تمامًا. فقد ظل الصراع راكدًا لسنوات وتفاقم الانهيار الاقتصادي بسبب العقوبات، واستغلت جماعات المعارضة المسلحة الفرصة لشن هجوم حاسم من معقلها في إدلب. وتولت هيئة تحرير الشام، وهي فصيل إسلامي مثير للجدل تطور من فرع تنظيم القاعدة في سوريا، السلطة في دمشق، ونصبت حكومة الإنقاذ التابعة لها كسلطة مؤقتة. ورغم أن زعيم هيئة تحرير الشام أبومحمد الجولاني حاول إظهار صورة الاعتدال والسيطرة، فإن كثيرين يتساءلون عما إذا كانت المجموعة لديها القدرة - أو الشرعية - لحكم أمة بأكملها متنوعة ومجزأة مثل سوريا.
يسلط سجل هيئة تحرير الشام في إدلب الضوء على نقاط قوتها وحدودها. في السنوات الأخيرة، جلبت المجموعة النظام النسبي إلى إدلب، مستغلة هيمنتها العسكرية للقضاء على المنافسين وفرض هياكل الحكم.
إن المهمة التي تنتظر سوريا أعظم بكثير. سوريا ليست إدلب؛ إنها دولة مترامية الأطراف وممزقة يبلغ عدد سكانها ١٧ مليون نسمة، وتعج بالجماعات المسلحة المتنافسة والانقسامات العرقية والطائفية. إن عدد مقاتلي هيئة تحرير الشام البالغ ٣٠ ألف مقاتل غير كاف لفرض السيطرة الوطنية. وعلاوة على ذلك، فإن العديد من فصائل المعارضة التي أعادت تعبئة صفوفها في وسط وجنوب سوريا مستقلة عن هيئة تحرير الشام، مما يزيد من خطر تجدد الصراع بين الميليشيات وانعدام القانون.
وبينما حاولت هيئة تحرير الشام تقديم وجه معتدل لكل من السوريين والمجتمع الدولي، فلا تزال الشكوك قائمة حول صدقها. ومع ذلك، فإن التهديد المباشر الذي يواجه سوريا ليس أيديولوجية هيئة تحرير الشام الإسلامية، بل إمكانية الاقتتال الداخلي الفوضوي وانعدام القانون الذي قد يدمر البلاد أكثر.
مستقبل هش وأزمة متفاقمةإن آفاق سوريا بعد الأسد قاتمة. لقد تركت سنوات الحرب اقتصاد البلاد وبنيتها التحتية في حالة خراب. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من ٧٠٪ من السوريين - ١٦.٧ مليون شخص - يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، مع انعدام الأمن الغذائي الذي يعاني منه ما يقرب من ١٣ مليون شخص. وانهارت الخدمات العامة، وانتشر نقص الكهرباء على نطاق واسع، ولا تزال السلع الأساسية نادرة.
إن قدرة هيئة تحرير الشام على الحكم سوف تعتمد بشكل كبير على الدعم الأجنبي، ومع ذلك تظل الجماعة مصنفة كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة، مما يعقد آفاق المساعدات الدولية. ومن غير المرجح أن تقدم إيران وروسيا، حليفتا الأسد السابقتان، مساعدة ذات مغزى في حين تكافحان مع أعبائهما الاقتصادية والعسكرية.
وفي هذا الفراغ، قد يؤدي اليأس الاقتصادي إلى تأجيج المنافسة بين الجماعات المسلحة في سوريا للسيطرة على الأراضي والموارد. وقد يؤدي الاقتصاد غير المشروع - بما في ذلك الاتجار بالمخدرات والسوق السوداء - إلى تفاقم العنف مع تنافس الفصائل على الهيمنة.
الهجرة والتداعيات الإقليميةبعيدًا عن تمهيد الطريق لعودة اللاجئين السوريين، فإن سقوط الأسد قد يشعل موجة جديدة من الهجرة. بالنسبة لملايين النازحين السوريين، فإن نهاية النظام لا تضمن السلامة أو سبل العيش. فبدون الأمن والوظائف والخدمات العامة العاملة، تظل العودة إلى الوطن حلمًا مستحيلًا.
إن جيران سوريا، وخاصة تركيا ولبنان والأردن، يواجهون ضغوطا متجددة مع امتداد عدم الاستقرار عبر الحدود. ولا تزال تركيا، التي تمارس نفوذها على العديد من فصائل المعارضة، منشغلة باستهداف القوات التي يقودها الأكراد في شمال سوريا. وفي الوقت نفسه، صعدت إسرائيل من هجماتها داخل سوريا، مما أضاف إلى التقلبات.
إن مشاركة المجتمع الدولي ستكون حاسمة في منع تفكك سوريا. وبدون جهد منسق لتحقيق الاستقرار في البلاد وتوفير الإغاثة الاقتصادية، تخاطر سوريا بالتحول إلى دولة منهارة، مما يغرق المنطقة في حالة أعمق من عدم الاستقرار.
اختبار للمجتمع الدولييؤكد سام هيلر على إلحاح اللحظة: إن نجاح سوريا أو فشلها يهم الجميع. إن الانتقال السلمي الشامل ضروري، ولكن تحقيقه سيكون تحديا هائلا. ويتعين على المجتمع الدولي أن يرتقي إلى مستوى الحدث، فيعرض الدعم الإنساني، ويشجع المصالحة، ويعطي الأولوية لاستقرار سوريا على الانقسامات السياسية.
في حين تثير قيادة هيئة تحرير الشام مخاوف مشروعة، فإن الأولوية الفورية هي منع سوريا من الانهيار. وإذا انزلقت البلاد إلى الفوضى، فإن العواقب ستكون وخيمة.. ليس فقط للسوريين بل للشرق الأوسط بأكمله.
في الوقت الحالي، تقف سوريا عند مفترق طرق. إن ظلال العنف والانهيار الاقتصادي والتدخل الإقليمي تلوح في الأفق. يجب على العالم أن يتحرك بسرعة وحسم لضمان أن يكون الفصل التالي من سوريا فصل التعافي، وليس الخراب.