تثير الشعائر الدينية والطقوس المرتبطة بها الأسئلة والبحث عن أصولها في الثقافة الإنسانية لغاية معرفية بالدرجة الأولى، ومن ضمن الشعائر الدينية لدى المسلمين عادة النحر والذبح، وقد دلت المصادر والمراجع على أن تقديم القرابين والأضاحي عادة قديمة منتشرة في العديد من الديانات وقد وثقتها الآثار المكتشفة والرسومات التي توضح تلك العادة.
كرست الديانات الإبراهيمية التضحية بالحيوانات بدلا عن الإنسان، ففي التوراة ذُكر في التكوين الثامن بأن النبي نوح ضحّى ببعض الحيوانات أثناء الطوفان، أما إبراهيم عليه السلام فقد أمره ربه بذبح ابنه إسحاق وحين استجاب إبراهيم للنداء افتدى الرب الغلام بكبش وضحى به إبراهيم، وفي الديانة المسيحية يحضر القربان كفكرة للتطهر من الآثام والخطايا. أما في ديننا الإسلامي الحنيف فإن الأضحية ركيزة أساسية في شعائر الحج، وهي مستمدة من قصة تنفيذ سيدنا إبراهيم لرؤية التضحية بابنه إسماعيل تنفيذا لأوامر ربانية كما تدل على ذلك الآية الكريمة (102 من سورة الصافات) وأيضا ذكر النحر في الآية (الثانية من السورة الكوثر).
وأُشير إلى النسك في الآية (162 من سورة الأنعام) والآية (34 من سورة الحج)، والنسك يأتي بمعنى الذبح، وأيضا بمعنى الطاعة والتعبد كما ورد في الآية (128 من سورة البقرة).
هذا دلائل الأضاحي في الكتب المقدسة، أما في المراجع الميثولوجية فقد ربطت التضحية بالبشر أو بالحيوان إلى طقوس التطهر ودفع الضرر عن الجماعة، وأيضا محاولة لاسترضاء الطبيعة كالأنهار والبحار والأجرام السماوية وخاصة الشمس والقمر وبعض النجوم التي يعتقد أنها تجلب له الخير وتمنع عنه الشر، وقد وثق الإنسان القديم معتقداته وطقوسه في الأشعار وفي الرسوم المكتشفة على جدران الكهوف، واللقى المقدمة إلى بيوت العبادة.
كما دلت تسمية بعض الذكور قبل الإسلام بأن العرب كانوا يعبدون الشمس ويتقربون لها فعرفوا بـ(عبد شمس)، وكانوا يستقبلون الشمس ضحى، ويقدمون لها القرابين وخاصة الشعوب التي عرفت الاستقرار والزراعة، نظرا لحاجتهم إلى الشمس لنضوج المحاصيل الزراعية. أما شعوب جنوب الجزيرة فكان يقدمون الأضاحي للقمر، إذ ذكر الباحث والمؤرخ العراقي جواد علي (1907-1987) في الجزء (11) من موسوعته المعنونة بالمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام «أن الثيران كانت تُقدم قرابين إلى معابد الإله (المقه) أي القمر، وهناك من ربط بين الثور وبين أسماء بعض القبائل التي حملت اسم الحيوان المضحى به تقربا للإله القمر، والتسمية هنا لها دلالة دينية مثل عبد شمس.
وقد تنافست ممالك جنوب الجزيرة العربية في تقديم الأضاحي لآلهتها فمثلا حين تولى أقيال همدان الحكم سموا أنفسهم بالملوك ورفعوا الإله (ود) إله معين «فنحروا له الذبائح وقدموا له النذور وتنافسوا في بناء معبده».
إن فكرة تقديم الأضاحي تدل على إيمان بوجود إله يسعى إليه الإنسان لنيل رضاه وتجنب معصيته، فالعقل البشري أو الفطرة الإنسانية تؤمن بوجود خالق سواء دُعمت بكتاب سماوي، أو اهتدت إلى الرب دون كتاب.
محمد الشحري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من سورة
إقرأ أيضاً:
منى نجار.. الأم المثالية الثانية على مستوى الجمهورية تحصد لقب التضحية والعطاء في أسوان.. امرأة من ذهب صنعت المستحيل من أجل أبنائها
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
صنعت من المعاناة والتضحية مجدًا يليق بالأمهات المثاليات فهي ليست مجرد أم، بل قصة كفاح تلهم الأجيال استطاعت منى نجار سليمان، الأم المثالية الثانية على مستوى الجمهورية وابنة مركز دراو بمحافظة أسوان من خلالها أن تحوّل التحديات إلى إنجازات، جمعت فيها بين دور الأم والمعيلة، لتقدم نموذجًا مشرفًا للصبر والتضحية ، حيث كرست حياتها لرعاية أبنائها الخمسة بعد وفاة زوجها، ولم تدع الظروف الصعبة والمسؤوليات الجسيمة أن تقف في طريقها وكان هدفها الأكبر وهو تعليم أبنائها حتى حصلوا على شهادات جامعية في مجالات مرموقة.
منى نجار سليمان، الأم المثالية الثانية على مستوى الجمهوريةوُلدت مني في أسرة بسيطة، اعتادت منذ صغرها أن تكون السند لعائلتها، تتحمل المسؤوليات رغم صغر سنها ، وتفوقت دراسيًا، ولكن رحيل والدتها المبكر جعلها تتحمل مسؤولية رعاية والدها وأخواتها وعمتها المسنة، واضطرت للتخلي عن أحلامها العلمية والتحقت بالثانوي التجاري ، وعندما تزوجت، ظنت أن استقرارها قد بدأ، لكن الظروف كان لها رأي آخر، لتجد نفسها في مواجهة جديدة مع الحياة، وحيدة مع أطفالها، لا تملك سوى إرادتها الصلبة وأملها الذي لا ينكسر ، حيث تزوجت مني وهي في الثامنة عشرة، وحملت مسؤولية بيتها الجديد بحبٍ وعطاء ، لكن سرعان ما سافر زوجها للعمل بالخارج، تاركًا لها طفلين وحملًا جديدًا، فعادت إلى منزل والدها لتكمل رحلتها في الرعاية والمسؤولية ، ورغم تحديات الحياة، لم تفقد الأمل، بل كانت دائمًا الدرع الذي يحمي الجميع.
وعادت إلى منزل الزوجية عندما رجع زوجها، ولكنها لم تترك والدها خلفها، بل أخذته معها لترعاه حتى آخر يوم في حياته، وبينما كانت توازن بين واجباتها كزوجة وأم، جاءها التعيين في وظيفة حكومية وهي في عمر 39 عامًا. لم يكن العمل وحده كافيًا لتحقيق ذاتها، فالتحقت بكلية الحقوق بنظام التعليم المفتوح، تقطع المسافات في أيام الإجازة لتحقق حلمها المؤجل، حتى حصلت على ليسانس الحقوق.
لم تمهلها الحياة وقتًا للراحة، فقد أصيب زوجها بمرض سرطان الرئة، وبدأت رحلة جديدة من العطاء، تسافر معه للعلاج رغم مشقة الطريق، حتى رحل عام 2012، تاركًا لها خمسة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة. لم تبكِ ضعفًا، بل قررت أن تكون لهم الأب والأم معًا، وواجهت الظروف الصعبة بإرادة لا تلين.
لم تدخر جهدًا لتلبية احتياجات أبنائها حتى على حساب صحتهاافتتحت "سوبر ماركت صغير" بجوار منزلها ليكون سندًا لها في مواجهة الأعباء، ولم تدخر جهدًا لتلبية احتياجات أبنائها حتى على حساب صحتها وراحتها ، كان حلمها الأول أن ترى أبناءها متفوقين، ونجحت في ذلك، فحصل ابنها الأكبر على بكالوريوس تجارة، والثاني على بكالوريوس هندسة، أما الابنة الثالثة فحصلت على الماجستير في التربية، والرابعة تدرس في كلية الطب، والخامسة في كلية الصيدلة.
اليوم، وهي في السادسة والخمسين، تنظر منى إلى أبنائها بفخر، تعلم أنها انتصرت رغم كل الصعوبات، وأنها لم تكن مجرد أم، بل كانت قصة كفاح تستحق أن تُروى.