عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
بما مضى أَم بأمرٍ فيك تَجديدُ
«المتنبي»
لقد خذلناك أيها الفلسطيني.. لقد خذلناك أيها المسلم.. وقبل ذلك؛ قُتِل فينا الإنسان، قُتِل فينا كل نخوة يمكن أن تثور في وجه الظلم، فبأي وجه يحق لنا أن نعيّد مع نسائنا؛ ونساء غزة تقتل محتضنة أطفالها، وبأي قلب نبشّ في وجوه أطفالنا وأطفال فلسطين تقطع رؤوسهم وتتطاير أشلاؤهم، وبأي ضمير نعيش عيدًا وعصابة دولية تتحكم بمنطقتنا والنظام العالمي يمد كيانها النازي بأسباب البقاء والاعتداء؟!
إن ما يحدث بغزة ليس آخر الإجرام، كما لم يكن أوله، فلا يظنن المجرمون بأنهم من سنن الله ناجون، ومن عِبَر التاريخ سالمون.
وأمريكا نفسها التي قامت على إبادة السكان الأصليين.. تمارس غطرستها في العالم منذ أكثر من سبعين سنة، لم تترك سلاحا لم تجربه، من القنابل الذرية التي ألقتها على هيروشيما ونجازاكي باليابان، حتى أجيال الأسلحة الإلكترونية التي سحقت بها الأبرياء في فيتنام وأفغانستان والعراق والصومال وسوريا وغزة. أمريكا.. التي أخذها الوهم بأنها نائية عن وصول القوى الدولية إليها، وأخذها الغرور بأنها تملك أعظم قوة في الأرض، فإن سنة الله ماضية عليها حتى تقع فريسة الانهيار، إن لم يكن بسبب من خارجها فمن داخلها، ولابد أن يوما آتيا ستشرب فيه من كأسٍ تسقي به غيرها، فكم مرةٍ مُرِّغ بوجهها في وحل الهزيمة، بل دكت في عقر دارها فتهاوت أبراج اقتصادها المهيمن وأصيبت كبرياء بنتاجونها المتسلط. إن ما يحدث بغزة يمكن أن يحدث في أية بقعة من الأرض، فلا نظن نحن أيضا بأننا منه معصومون، إن لم نسارع لنصرة المظلومين، ففي نصرتهم معتصمٌ لنا قبل النجدة لهم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
إن ما يحدث بغزة.. هو نهشة من نهشات الغريزة السَّبُعية التي فشل الإنسان في تهذيبها، لقد فشل في الارتقاء إلى سماء الأخلاق، وصمَّ وعميَّ عمّا جاء به الأنبياء الكرام من الدعوة إلى السلام والرحمة ونبذ الشحناء ورفض الظلم.
إن العجب بلغ شأوه من بؤس هذا العالم.. الذي لا يستطيع أن يحرك ساكنا أمام الظلم المبين، وما تفسيره إلا أن الأنظمة موافقة عليه، أو هي بنفسها تمارس الظلم على من يطاله سوطها، أو أنها ذليلة؛ سدَّ الجبن حلقها عن قول الحق، وقيّد الخوف يديها عن كفّ الفساد. ثمانية مليارات نسمة غثاء، فأي هوان للبشرية بعد هذا الهوان، وأي ذل بعد هذا الذل! إنه الارتكاس الأخلاقي للبشرية.
أنّى لمليار ونصف مليار مسلم أن يحتفلوا بعيد.. جاء به دين؛ العزة سَداته ونصرة المستضعفين لُحمته، وأنّى لهم أن يتوجهوا إلى ربهم القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) «محمد:7»؟ فأي إيمان يزعمونه وإخوانهم يذبحون في غزة؟ ونصرة المستضعفين ليست بحمل السلاح وحده.. بل هناك طرق عديدة، فالدول الإسلامية.. من أضعف إيمانها؛ أن تتخذ موقفا في الأمم المتحدة لفصل إسرائيل منها وإدانة أمريكا والدول التي تشايعها في دعم كيانها الهمجي، وأن تتخذ موقفا بقطع كل أشكال التعاون مع إسرائيل ومن يدعمها؟ وبإمكانها أن تُشَكِّل لجنة دولية لمقاطعة الكيان الصهيوني.
وإن تعجب فعجب من أمر أمة، يباد إخوانهم في الدين بالألوف، أكثر من ثمانية أشهر لم تجف فيها الأرض من دماء الفلسطينيين البريئة، كل ذلك لم يستفز نفوس حكوماتهم لتجبر آلة القتل وميكنة الدمار الصهيونية على الوقوف عند حدها، مع أن شعوب العالم اكتظت بها الشوارع والجامعات معترضة على ما ترتكبه القوات الإسرائيلية ومستنكرة صمت حكوماتها على عدم التدخل لإيقاف المجازر. إن حالة أمتنا ينبغي دراستها من قِبَل علماء النفس والاجتماع، وأخشى أن تعيي حالتهم كل طبيب وحكيم!
أيها المسلم.. كيف لك أن تصافح يدُك الناس مُهنأة لهم بالعيد؛ وأيدي نساء غزة أبينت عن سواعدها؟ وهل لك أن تمشي إلى مصلى العيد؛ وأجساد شيوخ غزة فقدت قوائمها؟ أتسعد بأن تضع العيدية بين حجر أطفالك؛ وأطفال غزة بُقرت بطونهم وفصلت رؤوسهم عن أجسادهم؟ وكيف لك أن ترتدي ملابس العيد الأنيقة، وشهداء غزة قد احمرت أكفانهم؟!
أيها المسلم.. أتجد لذة في مضغك لأطايب العيد؛ وأهل غزة من الجوع قد نتأت عظامهم بعدما التصقت بها جلودهم؛ وجحظت عيونهم بعدما ذهبت نظارة وجوههم؟ أتطبق عيناك جفونهما ليلة العيد وإخوانك في غزة أطارت الحرب بقلوبهم وأذهبت القنابل بمشاعرهم؛ إلا شعور الخوف وترقب الموت، فهم بين أب خائف يترقب طائرات تهدم بيته فتسحق عظامه وعظام أسرته، وبين أم تودع فلذة كبدها لا تلبث بعده إلا قليلا حتى تسجى للصلاة عليها، وبين أطفال يرجون في المدارس والمستشفيات حياة فإذا قوات الصهيونية تعصف بهم عصف الأبابيل؟!
أيها المسلم.. إن لم تحركك المشاهد الفظيعة لنجدة حرائر المسلمين فما الذي يحركك؛ وأنت ترى بأم عينيك الصهاينة يسومون أخوات لك في غزة سوء العذاب، ألم يصم أذنيك عويل النساء وصريخ الأطفال وأنين الشيوخ؟!
أيها المسلم.. لا تعتذر بأن هذا ما جنته «حماس» والمقاومة؛ حينما لم تبالِ بعاقبة تصرفها في «7 أكتوبر»، أو لم تقدِّر له حق قدره. فبغض النظر عن تقييمنا لفعلها، وبغض النظر عن موقفنا من معتقداتها، فنحن أمام إجرام لا علاقة له بما قامت به «حماس» والمقاومة، إجرام كان يحدث للفلسطينيين ليل نهار من قِبَل المافيا الصهيونية منذ مائة عام، قبل أن تولد «حماس»، وقبل أن يولد آباء جنود «حماس».
أيها المسلم.. لا يبلغ بك الوهن والعجز وربما الخوف والجبن بأن تعتذر بعذر لا يسوى في ميزان القسط نقيرا، فأنت تعلم والعالم يعلم، بأن من كل أمة تُحتل أرضها وتصادر حقوقها وتهان كرامتها تحتسب طائفة نفسها لدحر الاحتلال الغاشم عن بلادها، طائفة لا ترى في التضحيات خسارة، بل تراها وقودا للمقاومة؛ حتى تدحر العدوان وتسترجع الأرض وتسترد الحرية وتقيم الحقوق لأهلها، أو تهلك هي دونه. هذا أمر لم تبتدعه «حماس» ولم تخترعه المقاومة، بل أمر جُبِلت عليه الشعوب التي تنشد الحرية، فقد فعله الأحرار في فيتنام واليابان والجزائر وليبيا وأفغانستان والصومال وجنوب إفريقيا والعراق ولبنان وغيرها من الأمم الحية، وهؤلاء ذوو أديان مختلفة وعقائد متباينة ومشارب متنوعة، لا يجمعهم إلا السعي للحرية وعدلها والتخلص من الاحتلال وظلمه.
أيها المسلم.. ما كنتُ أستنفرك هذه النفرة، ولا أستغيثك بهذه الاستغاثة؛ لو أنها معركة بين محتل ومقاوم؛ لأن كلا الطرفين قد اصطنع نفسه للموت، ذاك ترسيخا لاحتلاله ووجوده، وهذا دفاعا عن حياضه وحماه. وإنما من ضميري الأخلاقي وواجبي الإيماني أن أصرخ فيك بإغاثة مَن تطحنهم آلة حرب يقف خلفها أبالسة إجرام؛ يمدهم إخوانهم بالغيّ، عُميٌّ عن رؤية مشهد كل حقيقة، صُمٌ عن سماع صوت كل حق، تطحنهم من دون ذنب اقترفوه إلا أن يقولوا ربنا الله، وأنهم بحقهم مطالبون، وبأرضهم التي ولدوا فيها مستمسكون.
لا أملك في يوم عيد هذا حال أهل غزة فيه إلا أن أرثي حال المسلمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أمين عام علماء المسلمين: المقاومة انتصرت وأوصلت صوت الفلسطينيين للعالم
أكد الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، علي محمد الصلابي، أن وقف إطلاق النار في غزة الذي بدأ سريانه اليوم يعكس انتصاراً للمقاومة بفضل صمودها واستراتيجيتها المدروسة، ويشكل رسالة واضحة بأن الشعب الفلسطيني وقواه الحية قادرون على مواجهة الاحتلال وتحقيق مكتسبات رغم كل التحديات.
ورأى الصلابي في تعليق له على وقف إطلاق النار في غزة بين المقاومة الاحتلال، يمكن اعتباره انتصاراً للمقاومة الفلسطينية من عدة جوانب، وهو يحمل دلالات سياسية ومعنوية تعكس صمود الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
وقال في حديث لـ "عربي21": "إن هذا الثبات العجيب للمقاومة الذي أذهل العالم، جعل الكثير يتساءل عن قيم الشعب الفلسطيني ودينه وحضارته وثقافته، مما جعل الكثير من الناس الذين كانوا يجهلون الإسلام أن يتعرفوا عليه، بل كانت سببا في إسلام بعضهم، وهذا الحدث في الفقه الحضاري له ما بعده، ذلك أن الظلم مؤذن بزوال الحضارات وأن المستضعفين يتولى الله أمرهم من الضعف إلى القوة، وسنرى سنن الله في الظالمين والمجرمين".".
وأشار إلى أن "وقف إطلاق النار يعكس قدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود أمام آلة الحرب الإسرائيلية رغم الاختلال الواضح في موازين القوى، ويظهر أن الاحتلال لم يستطع تحقيق أهدافه المعلنة خلال العدوان، سواء كانت عسكرية أو سياسية".
وأوضح أن الحرب الأخيرة من العدوان عززت من حالة التكاتف الشعبي حول المقاومة، ووحدت الفلسطينيين في الداخل والخارج، كما حشدت تعاطفاً دولياً مع معاناتهم.
وقال: "رضوخ الاحتلال لوقف إطلاق النار يعكس صمود الشعب الفلسطيني والضغوط التي مورست على الاحتلال، سواء من المجتمع الدولي أو حتى من الداخل الإسرائيلي نتيجة تكاليف الحرب والخسائر".
وأضاف: "أظهرت المقاومة قدرتها على فرض معادلات جديدة في المواجهة، منها الرد على العدوان بالمثل وامتلاك أدوات قادرة على إحداث ضرر حقيقي لدى الاحتلال. وعززت فكرة أن غزة ليست ضعيفة أو معزولة، بل قادرة على التأثير في مسار الأحداث. كما نجحت المقاومة في إيصال صوت الشعب الفلسطيني إلى العالم من خلال الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، مما ساهم في كشف حجم العدوان والمعاناة، ودفعت بعض الدول إلى إعادة النظر في مواقفها وتوجيه انتقادات علنية للاحتلال".
ووفق الصلابي فإن وقف إطلاق النار بالنسبة للشعب الفلسطيني يُعدّ تأكيداً على أن المقاومة قادرة على حماية الحقوق الفلسطينية والوقوف أمام التهديدات. ويشكل مصدر إلهام للشعوب المظلومة الأخرى في العالم.
وأضاف: "لقد أحيت المقاومة الفلسطينية ببطولاتها في مواجهة الاحتلال الأمل لدى كل المظلومين في العالم، أن بالإمكان ردع الظلم وهزيمته والانتصار عليه، وهو ذات المعنى الذي أكدته الثورة السورية التي استمرت نحو 14 سنة، ودفعت ثمنا باهظا من دون أن تلين قناتها حتى أنهت حكم الطغيان والاستبداد"، وفق تعبيره.
ودعا الصلابي العالمين العربي والإسلامي وكذلك أحرار العالم إلى الاستمرار في إسناد الشعب الفلسطيني لإتمام فما وصفه بـ "الانتصارات التاريخية"، وقال: "على الرغم من أنه يمكن اعتبار وقف إطلاق النار انتصاراً، إلا أن التحديات ما زالت قائمة، بما في ذلك الحصار على غزة، إعادة الإعمار، وتحقيق المصالحة الفلسطينية الداخلية. يتطلب هذا الانتصار البناء عليه لتحقيق مزيد من الإنجازات على الصعيد السياسي والوطني".
وأضاف: "لا يمكن لأي كان أن يتجاهل الدور المحوري الذي لعبته دولة قطر، على جميع الأصعدة، سواء بالتغطية الإعلامية ومواكبة جرائم الاحتلال وتوثيقها للعالم، بل ودفعت من أجل ذلك ثمنا باهظا حيث استشهد عدد من مراسلي قناة الجزيرة بنيران العدو، وعلى المستوى السياسي بالدفاع عن فلسطين في كل المحافل الدولية، وقيادة جهود ديبلوماسية مكثفة من أدل وقف العدوان، ثم إغاثة المنكوبين على الأرض بكل صنوف المساعدات"، وفق تعبيره.
ومع بدء سريان وقف إطلاق النار اليوم الأحد، خرج آلاف الفلسطينيين إلى شوارع غزة احتفالًا بوقف إطلاق النار.
وأظهرت لقطات مصورة انتشار عناصر من حركة "حماس" في مناطق مختلفة من القطاع، بما في ذلك خان يونس.
تجدر الإشارة إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار تضمن تبادلًا للأسرى، حيث تم الإفراج عن ثلاث رهائن إسرائيليات وتسليمهن إلى الصليب الأحمر، في حين التزمت إسرائيل بالإفراج عن 90 معتقلًا فلسطينيًا من النساء والأطفال.
هذا التطور جاء بعد جهود وساطة مكثفة من قبل مصر وقطر، وأسفر عن تهدئة الأوضاع في القطاع بعد تصعيد دامٍ.
وأعلنت كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، مساء الأحد، أن معركة "طوفان الأقصى" ضد إسرائيل غيّرت المعادلات، مؤكدة التزامها باتفاق وقف إطلاق النار شريطة أن تلتزم به إسرائيل.
وتحدث أبو عبيدة، متحدث "القسام"، في كلمة مصورة دامت نحو 24 دقيقة، وهي الأولى له منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والخطاب الثلاثين منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية بقطاع غزة في 7 أكتوبر 2023.
وتزامنت هذه الكلمة مع أول أيام وقف لإطلاق النار وتبادل أسرى بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية بغزة بدأ صباح الأحد، بوساطة قطر ومصر والولايات المتحدة.
وقال أبو عبيدة، إن "التوصل إلى اتفاق لوقف العدوان وحرب الإبادة على شعبنا كان هدفنا منذ شهور طويلة، بل منذ بدء هذا العدوان".
وبدعم أمريكي، ارتكبت إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 إبادة جماعية بغزة، خلفت أكثر من 157 ألف قتيل وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
إقرأ أيضا: عملية تسليم الدفعة الأولى من أسرى الاحتلال.. هدية لكل أسيرة (شاهد)