عبد الله علي إبراهيم
جاء في كلمة للقائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان أمام ضباط وصف ضباط وجنود "الفرقة 18" بمدينة كوستي بولاية النيل الأبيض ما يجدد النقاش حول سؤال من أشعل الحرب القائمة في السودان بصورة مفيدة لبلوغ الغاية منه. وهو السؤال الذي تعاملت معه صفوتنا السياسية، على خطره، بإهمال إن لم نقل بحزبية نكداء.

فطوته قوى الحرية والتغيير (قحت) التي تمثل الحداثيين والليبراليين واليسار، وقوى الإسلاميين في سراديب خلافاتهما التاريخية. فزعم كل منهما أن الآخر هو من أشعل ثقاب الحرب حتى بمعزل عن القوتين العسكريتين المتحاربتين.
قالت "قحت" إن الإسلاميين هم من أوقدوا نار الحرب وجرجروا الجيش من خطامه معهم ليعودوا أدراجهم للحكم، وفي المقابل قال الإسلاميون إن "قحت" هي التي أشعلت الحرب بعد أن أنذرت الجميع بالحرب العوان إن لم يتواضع الناس عند الاتفاق الإطاري الموقع بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في ديسمبر 2022، وكان ذلك أيضاً منها بالطبع حرصاً على عودة للحكم الذي نزعه عنها انقلاب الجيش و"الدعم السريع" عليها في أكتوبر 2021.
وتعيين مشعل الحرب أمر جلل. فهو تعيين للطرف المعتدي الذي يرخص له قانون الحرب الإنساني تجاوزات تطاول حتى المدنيين متى وظفوا مقارهم لعمل عسكري عدائي. وهو تجاوز بشروط معروفة بالتناسب، أي أن يمتنع الطرف المعتدي من استخدام رخصته هذه متى ما لم تتناسب الخسارة بين هؤلاء المدنيين والنفع العسكري منها، ناهيك بحق الطرف المعتدى عليه أن يستعين بمن شاء أو رغب، مثل الأمم المتحدة، في مساعدته على صد العدوان عليه. فتعيين الطرف المعتدي أمر حاكم لإدارة الحرب من ألفها إلى يائها. وانتهينا باعتباطنا سؤال من بدأ الحرب إلى حرب صفوية من وراء الحرب المشاهدة تستنفر كل جماعة الرأي العام ليصطف إلى جانب عقيدتها فيمن بدأ الحرب التي هي محض ثأرية صفوية حزبية ضريرة، استثقلناها تاريخياً بقولنا عن مثلها هذه "داحس والغبراء".
جاء البرهان لكوستي ليكون قريباً ما وسعه للعزاء في شهداء قرية ود النوره من أعمال ولاية الجزيرة صرعى قوات الدعم السريع يوم الخامس من يونيو الجاري. واتهم خلال كلمته في ذلك العزاء "الدعم السريع" ببدء الحرب بانقلاب كانت أعدت له. وهذا بالطبع رأيه القديم لا محالة، لكنه جاء بما يعزز قوله وهو وجود مستشار "الدعم السريع" يوسف عزت في مباني الإذاعة والتلفزيون بأم درمان لإذاعة بيانات الانقلاب على الملأ. واستدل على ذلك بتسجيلات من كاميرات المراقبة في المبنى الذي استرده الجيش من "الدعم السريع" قبل شهرين أو نحوه.
وعرض التلفزيون القومي هذه التسجيلات في تقرير عنوانه "خيوط المؤامرة". وجاء فيه أن عزت كان في مبنى الإذاعة والتلفزيون في الساعة السابعة من صباح يوم الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023 يوم الحرب ولأربعة أيام بعده. ويظهر عزت في التسجيلات في غرفة التحكم التلفزيوني داخلاً خارجاً، ويظهر في لقطات منها مع ضابط من "الدعم السريع" ومهندس يرتدي جلابية بلا عمة أو طاقية كمن استدعوه سراعاً من بيته للمهمة التي زعم "خيوط المؤامرة" أن المهندسين الآخرين ترفعوا عن إغراء جزرتها ولم يهابوا عصاتها. وواضح من الفيديو أن عزت كان متوتراً في وقفته إلى جانب المهندس الذي يحاول تشغيل البث التلفزيوني بلا طائل. وسبب العطل في قول التقرير أن مهندسي التلفزيون كانوا سحبوا إشارة البث من "عرب سات". ومن أطرف ما في التسجيل أن عنصرين من مسلحي "الدعم السريع" شوهدا وهم يفتشان حقيبة عزت خلال غيبته عن الغرفة، وما سمعا بحركته حتى لملماها على عجل وهرعا ليجلسا على كنبة في الطرف الآخر.
ولم يتأخر عزت في الرد على البرهان. فقال إنه بالفعل كان في مبنى الإذاعة والتلفزيون مساء الـ 15 من أبريل 2023 ليذيع بيانات "الدعم السريع" بعد حادثة الغدر به في المدينة الرياضية. وقال إنه بث بيانات لـ "الدعم السريع" ليس في أي منها بيان بالانقلاب. وكان التقرير قد نقل ثلاثة منها. فجاء في واحد أن المعركة التي تابعها الناس منذ أمسهم شارفت على نهايتها. فالجيش هو المعتدي على "الدعم" الذي ينظف مع شرفاء القوات المسلحة الجيوب الباقية من المهاجمين. وزاد بأنها معركة اضطر إليها "الدعم السريع" اضطراراً في مواجهة إخوانهم في القوات المسلحة، وأنه سيكون للسودان بعد هزيمة العصابة جيش واحد قوي يعمل لخدمة السودان.
أما البيان الثاني فنفى فيه "الدعم السريع" خبر استيلاء الجيش على مقاره أو إغلاقه الطرق إلى القيادة العامة التي استولى "الدعم السريع" عليها وتدور المعارك في نطاقها. وقال إن "الدعم" في الواقع يسيطر على كل المواقع الحيوية في العاصمة والولايات، وأنه عثر على عناصر من هيئة العمليات التابعة لاستخبارات وأمن "نظام الإنقاذ" التي كانت قد حُلت وسكن "الدعم السريع" مساكنها بعد الثورة، وكتائب الظل المنسوبة إلى الإسلاميين والتي تقاتل مع الجيش ضدهم وشرفاء القوات المسلحة، وهم لحالهم مهزومون ملاحقون.
وفي بيان ثالث أعلن "الدعم السريع" سيطرته على القيادة العامة ورئاسة الفرق العسكرية في دارفور، فضلاً عن الاستيلاء على معسكرات للجيش في جبل أولياء وسوبا والباقير والتصنيع الحربي. وزاد بأنهم حددوا مواضع البرهان والفريق شمس الدين كباشي ويجري القبض عليهم. وأعلن عن انضمام مفتش القوات المسلحة اللواء مبارك كودي كتمور إلى صفهم، وأنهم ألقوا القبض على 42 قناصاً إسلامياً بقيادة على كرتي القيادي في "نظام الإنقاذ".
وما أحبط التحقيق كمهنة في هذه الحرب أو غيرها من الكوارث هو صرف الوثيقة بأية ملابسات حولها، وكأن يمكن للتحقيق أن ينهض بغير توثيق، أو أنه لن يجاز إلا بالوثيقة التي يرضى طرف ما عنها. فصرف طرف تنسيقية القوى الديمقراطية والمدنية (تقدم) تسجيلات عزت لا لعوار في نصها من فوق فحص لمحتواها، بل لأن البرهان في قولهم ما كشف عنها إلا لتغطية عاره في خذلان قرية ود النورة. وبدا وكأن البرهان قد قدر أن يرفع عنه الحرج ودبر باتهام "الدعم السريع" بانقلاب كان الأصل في هذه الحرب. ويحتاج المرء إلى أن يسمع كلمة البرهان ليعرف أن لسانه عثر بواقعة هذا التسجيل بغير سابق تدبير. فجاء به بآخرة بعد أن بدا لثلاث مرات وكأنه فرغ مما عنده ليعود أدراجه ويتكلم مرة أخرى. ولا يعرف السياسيون السودانيون، والعسكريون منهم بالذات، متى استنفدوا ما عندهم من قول لجمهورهم لينصرفوا. فبعد أن يكاد الواحد منهم يودع الناس يطرأ له ما يسترسل به في خطابه من جديد. فالقول إن خبر التسجيلات كان لغرض في نفس البرهان شطط لا نريد له أن يعفينا من تحليل نص التسجيلات كشاهد من شواهد بلا عدد الحاجة إليها ماسة ليكون تعيين المعتدي في هذه الحرب مهنياً لا خبطاً حزبياً.
إن دواعي التسليم بالتسجيل وضبطه بالتحقيق تكاد تستصرخنا للأخذ به. فمثلاً قال تقرير "خيوط المؤامرة" إن عزت كان في صباح الانقلاب داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون، بينما قال عزت إنه جاء إلى المبنى في مساء اليوم. وورد في تقرير "خيوط المؤامرة" تسجيل لعزت يتحدث لقناة تلفزيونية ما سألته عما كان يفعله في أول يوم للحرب. فقال إنه كان نائماً في بيته حين نقرت أمه باب غرفته وقالت له اصح، ولما صحا قالت له "في ضرب رصاص"، وقال "كان الضرب حول بيتنا"، ولمعرفة إن صح قول "خيوط المؤامرة" أم قول عزت وجب التحقيق في وقت تدوين التسجيل، وسيغنينا هذا الضبط لو حصل من لغو كثير.
ورد خبر انقلاب "الدعم السريع" الذي ساقنا إلى مهلكة الحرب مرات. ولولا استهتارنا بالشهادات عن ملابسات اشتعال الحرب لكان لنا منها جسد يغني عن التجديف الحزبي فيها. فكان الصحافي المحترم رئيس تحرير "جريدة التيار" عثمان ميرغني من أوائل من قال إن أول الحرب هذه كان انقلاباً رتبت له طائفة من "قحت" وليس جميعها، بمجلس سيادة ووزراء مدنيين. وكان الانقلاب سيتم بواجهة من الجيش وبيانه الأول مما اعتاده الناس منه. وسيقبلونه منه على علاته. وسيوفر "الدعم السريع" للانقلاب الإسناد والحماية. وقال عثمان إن الخطة فشلت بالمقاومة التي أبداها فريق حراسة البرهان ممن صدر الأمر باعتقاله بهدوء وإيداعه السجن. واشتعلت الحرب وتبددت هذه الشهادة من صحافي مجرب تحت جاذبية رواية أخرى لعثمان في الشهادة نفسها. وقال فيها إنه كان اجتمع مع حميدتي لثلاث ساعات قبل الحرب بدعوة منه بعد مقالة نصحه فيها أن يرجع عن مخاشنته مع الجيش لأنه سيفقد جيشه وماله ومكانته. وتعلق الناس بروايته عن حميدتي من دون التي عن الانقلاب. وحولوها إلى تحقيق فأنس وتلاشت كمفردة في لغز تعيين من بدأ الحرب تنتظر أن تتنزل مع غيرها في البحث عن المعتدي.
وجاء خبر انقلاب "الدعم السريع" بالتضامن مع "قحت" الذي أدى إلى الحرب عن مصدر غير متوقع وهو خالد محيي الدين، الناشط في "تقدم" وأسلافها في فيديو دائر. فقال إن الخلاف حول الإصلاح العسكري الذي أدارته "قحت"، والذي هو جزء مقدم في الاتفاق الإطاري، لم يكن حول المدة لاستكمال دمج الدعم السريع في القوات المسلحة. كان الخلاف الحق حول الإطاري، في قوله، بين من يريدون للجيش احتكار البندقية من دون غيره، حتى لا تتحول لداعم للقوى المدنية. ووضعاً للنقاط على الحروف قال إن دعاة خطة احتكار الجيش للسلاح هم "الحركة الإسلامية" التي لها زمام الجيش والتي أرادت أن تخلي يد غيرها من السلاح. وزاد بأن قال إنه كانت له رواية أخرى للواقعة من قبل، ولكن أعاد فيها النظر، وهو مسؤول عن روايته الأخيرة التي صدع بها. وقال إن حقيقة الأمر أنه تمت تفاهمات بين من رتبوا لقيام حكومة مدنية، وهم "قحت" ولا شك، يلعب "الدعم السريع" دور شرطي حراستها. ووافق "الدعم السريع" بعد عرض الخطة عليهم.
من حقنا والدعوات قائمة لإشراك الطبقة السياسة المدنية في مفاوضات إنهاء الحرب القائمة في السودان والترتيبات لما بعدها، أن نسأل إن كان ثمة جدوى من هذا الإشراك لهذه الطبقة التي اعتزلت الحرب نفسها بتحويلها إلى فتنة مأثورة بين يمينها ويسارها. فرأينا كيف تستدبر أطرافها الشهادات عن الحرب وتتخلص منها جزافاً بدلاً من مراكمتها جسداً سوياً لإعمال التحقيق فيها برصانة ومهنية ومسؤولية. وخلافاً لذلك نجدها ارتجلت التحقيق وبلغت فيه حداً سخرياً. فعلقت "تقدم" وزر بدء الحرب على الإسلاميين وغرضهم منها العودة للحكم. ومع ذلك ساور "تقدم" بعدها شك حول الجهة التي بدأت الحرب إذ كان من بين قرارات مؤتمرها في أديس أبابا في الأول من يناير الماضي تشكيل لجنة وطنية دولية ذات صدقية للتحقيق حول من أشعل الحرب. لكنها سرعان ما عادت في تقرير "الرؤية السياسية" لمؤتمرها التأسيسي في الـ 30 من مايو الماضي سيرتها القديمة لتحمّل الإسلاميين إشعال الحرب والعمل على استمرارها. وهذا تخليط يصح معه نصح من يريد التعامل مع القوى المدنية بأخذها مع "ذرة ملح".

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإذاعة والتلفزیون القوات المسلحة خیوط المؤامرة الدعم السریع قال إنه قال إن

إقرأ أيضاً:

لماذا تحتضن نيروبي مشروع حكومة الدعم السريع؟

استضافت كينيا الأسبوع الماضي اجتماعات متتالية للاتفاق على ميثاق (مانفستو) تؤسس عليه حكومة الدعم السريع التي تنوي إقامتها افتراضيًا أو مكانيًا (بحسب تمدد العمليات العسكرية الجارية حاليًا في مختلف مناطق السودان)، ونحاول هنا أن نراجع خط الزمن من بدايته لنعرف السياق الذي ألجأ المجتمعين هناك إلى اتخاذ تلك الخطوة.

الخطة الأساسية للهجوم الذي ابتدأته قوات الدعم السريع في منتصف أبريل/ نيسان 2023، هي الانقضاض على الحكومة السودانية والقبض على قائد الجيش أو قتله، كما صرح بذلك علنًا قائد الدعم السريع قبل اختفائه هو، وخروج قائد الجيش إلى بورتسودان.

تمدد الدعم السريع بعد مجزرة الجنينة في مايو/ أيار 2023، ليمضي لتنفيذ جرائم مشهودة قتلًا واغتصابًا وتدميرًا وسرقة، وثقتها المنظمات الأممية، ويهجر ملايين السودانيين من ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار والنيل الأبيض والنيل الأزرق، ليحل في منازلهم وأعيانهم بديلًا عنهم من أتى بهم الدعم السريع من عرب الشتات من مختلف الدول.

امتصّ الجيش السوداني الصدمة، وأعاد ترتيب صفوفه التي انضم إليها الآلاف من عموم السودانيين، منهم المجاهدون السابقون والمستنفرون الحاليون ومجموعات الحركات المسلحة التي ذاقت الأمرّين من الجنجويد منذ عام 2005.

إعلان

عاد الجيش السوداني متمكنًا من أم درمان ومستعيدًا مواقعه ومحررًا لولايتَي سنار، والجزيرة ومناطق واسعة في الخرطوم، هُزمت فيها مجموعات الدعم السريع هزائم مريرة، أوضحت قوة الجيش السوداني المهنية وصحة ترتيباته وخططه العسكرية.

وقتها علت أصوات كانت خافتة من داخل الحاضنة السياسية للدعم السريع، تتحدث عن ضرورة تشكيل حكومة موازية تنطلق من دارفور حيث ينتشر الدعم السريع ووسط حاضنته الاجتماعية. صدى هذه الأصوات انتهى لخروج جزء من الحاضنة السياسية وانشطار "قحت/ تقدم" إلى مجموعات مضى جزء منها مواليًا وداعمًا ومشاركًا في تأسيس منطلقات الحكومة الموازية.

الانتقال إلى الخطة (ب)

هكذا انتقلت ترتيبات المخطط للخيار (ب) بتشكيل حكومة موازية تضمن استمرار الحرب ووجود لافتة الدعم السريع التي تراجعت تمامًا وانهزمت عسكريًا في كل المعارك، وفي غالب الولايات عدا دارفور. ذلك سيضمن مكاسب عند التسوية السياسية بنهاية الحرب.

لتنفيذ ذلك، عمد المخططون إلى محاصرة الحكومة السودانية خارجيًا بتأثير مباشر على دول الجوار، كينيا، وإثيوبيا، وأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، إضافة إلى تشاد التي غدت مركزًا رئيسيًا للإمداد بالعتاد والسلاح الخارجي للدعم السريع.

يضمن ذلك تمدد التدخلات الخارجية في الشأن السوداني، ولربما مضت إلى أجندة ومصالح أجنبية تمضي إلى فصل دارفور، وكردفان عن بقية السودان، وما انفصال الجنوب ببعيد بعد أن تمددت الأيادي والمنابر الخارجية لتنال من وحدة السودان وأهله.

تكررت ذات المشاهد وفتحت كينيا أبوابها ومنابرها لمخطط مماثل يمضي على ذات منوال ليبيا، واليمن. قبلت كينيا أن تقوم بالدور وتفتح أراضيها للمؤامرة، وهي الدولة التي تعرضت أواخر عام 2007 لذات النزاعات السياسية والقبلية عقب الانتخابات، وقتها سقط آلاف الأبرياء من القتلى والنازحين في مدنها المختلفة، وقتها رفضت كينيا كل أشكال ومبررات التدخل الخارجي.

إعلان

واليوم لا تسعف الذاكرة كينيا وهي تجسد دور التدخل الخارجي وتمهد الطريق لتقسيم السودان وتمزيق وحدته وتقدم المنصة الدعم المطلوب لذلك.

جمع المخططون الشتاتَ والتناقضَ من هنا وهناك مع الدعم السريع، للإيهام بأن من يقف وراء الخطة قوم معتبرون سياسيًا واجتماعيًا من مختلف مناطق السودان، وأنفقت الأموال بلا حساب لتنفيذ المخطط، كما أكد عدد من المشاركين أنفسهم.

نتج عن جمع التناقضات تأخير التوقيع لمرتين وإلغاء المؤتمر الصحفي الذي أُعلن عنه في نيروبي، هذا علاوة عن تصريحات مشككة وضعيفة من بعض المشاركين حول ماهية تفاصيل الوثيقة والميثاق وما يتبعها من خطوات، وإلى أين ستمضي؟ ومن سيقودها ويشكل حكومتها؟ ومن يمولها؟ وأين سيكون مقر هذه الحكومة؟ وغيرها من الأسئلة.

وقبل أن نخوض في قراءة الميثاق الذي من المفترض أن تؤسس عليه حكومة الدعم السريع الموازية للحكومة السودانية القائمة، يجدر أن نجيب عن سؤالي المدخل لهذا الحدث:

السؤال الأول: لماذا انعقد اللقاء في نيروبي؟

اللقاء في نيروبي انعقد تأسيسًا على ما يجمع قائد الدعم السريع والرئيس الكيني من علاقة قديمة بدأت منذ كان الثاني نائبًا للرئيس الكيني، توثقت بشراكة اقتصادية بينهما في استخراج الذهب من عدة مناطق بالسودان، وربطت الرجلين تفاصيل المخطط الخارجي الذي يرمي إلى استغلال موارد السودان والتحكم في ثرواته وإدارة موارده وسلطته.

هكذا أصبح روتو منحازًا، بل ومتبنيًا لسردية الجنجويد منذ أول تدخل له في النزاع المسلح في السودان عام 2023، ومحاولته قيادة لجنة الإيغاد (IGAD) التي لم يكن ابتداءً طرفًا فيها. من تلك البداية وحتى البيان الأخير الذي صدر عن الحكومة الكينية الأسبوع الماضي، تأكد بوضوح الموقف الكيني المنحاز للدعم السريع.

أولى وأهم نقاط البيان الكيني، هي غياب الإشارة المباشرة إلى وحدة أراضي السودان، وهو أمر متعارف عليه دبلوماسيًا، ما يعني دعم كينيا لتقسيم السودان بإقامة حكومة أخرى تحكم أجزاء منه، وعمليًا تقسيم البلاد، وذلك ما ورد في الميثاق التأسيسي الموقع في نيروبي.

إعلان

لتأكيد ذلك، ذكر البيان "حق الشعب السوداني في تقرير مصيره"، وهو تعبير واضح يفتح الباب إلى إعادة تقرير مصير أجزاء من السودان وخروجها من الحكومة المركزية، وهو اعتراف ضمني بدور قوات الدعم السريع كفاعل سياسي يمثل مجموعات من الشعب السوداني تختار دولتها كما ترى وترغب، مما يخرج كينيا تمامًا عن الحياد، ويؤكد التزامها بمسار المخطط وما تقوم به قوات الدعم السريع. استضافة قوات الدعم السريع في نيروبي لا تأتي في سياق وساطة، وإنما كجزء من موقف كيني في التعامل مع الأزمة السودانية.

لا يمكن مقارنة هذا الموقف الكيني بمحادثات مشاكوس/ نيفاشا 2002، التي كانت نتاج عملية تفاوضية تحت إشراف الإيغاد (IGAD) وبمشاركة طرفي النزاع: (الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان).

اللقاء الأخير في نيروبي جمع فقط مجموعات الدعم السريع ومناصريهم، وهدف إلى تشكيل حكومة موازية دون حضور الطرف الآخر (حكومة السودان أو حتى القوات المسلحة). غياب الطرف الآخر يفقد الحدث صفة الوساطة أو المفاوضات أو المحادثات.

انعقاد المؤتمر بقرار كيني منفرد يضعف مصداقية الرئيس روتو كوسيط، ويعزز الشكوك حول حياده، ويؤكد انطباع السودانيين أن كينيا منحازة للدعم السريع.

يجمع بين حميدتي وروتو أيضًا النزعة العرقية التي يقوم عليها كلٌّ منهما، ففي الانتخابات الكينية عام 2007، اندلعت احتجاجات عنيفة في البلاد بدعوى تزوير الانتخابات، وأخذت الاحتجاجات طابعًا عرقيًا، وشاركت فيها عرقية الكالينجين (قبيلة روتو) وغيرها، الأمر الذي أصدرت على إثره المحكمة الجنائية الدولية في ديسمبر/ كانون الأول 2010، قائمة بالمسؤولين عن التحريض على العنف، من بينهم الرئيس روتو، واتهمتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وبتنظيم وتنسيق لهجمات دموية مسلحة استهدفت مجموعات عرقية.

كينيا، التي تتدخل الآن في الشأن السوداني، لا تنفك عنها الأزمات منذ عام 2007 وحتى العام الماضي، فمن دوامة الاقتتال إثر انتخابات 2007، التي خلفت المئات من القتلى ومئات الآلاف من الجرحى والنازحين، مرورًا بأحداث القتل في 2013 إثر الانتخابات التي جمعت بين أهورو كينياتا ورفيقه وليام روتو، وهما من بين أربعة أشخاص وجهت إليهم المحكمة الجنائية الدولية اتهامات بشأن حمام الدم الذي وقع في الانتخابات السابقة، ثم التدخل الكيني في الصومال، الذي تبعه رد فعل صومالي مماثل في كينيا أودى بحياة المئات، ثم أعمال العنف التي صاحبت انتخابات عام 2022، والتي اتُهم روتو بتزويرها لصالحه ليصبح رئيسًا بعد ستة أيام من صمت لجنة الانتخابات.

إعلان

لم تستقر الأوضاع الاقتصادية في كينيا، وتكررت الاحتجاجات العنيفة مع استمرار التضخم الاقتصادي في الارتفاع، مع تراجع مقدرات الكينيين الشرائية، ما دعا الحكومة الكينية إلى سنّ قوانين مالية جديدة تفرض زيادات ضريبية كبيرة على المواد الأساسية.

اندلعت التظاهرات وتحولت إلى تعبير شعبي عن السخط إزاء طبقة سياسية يُنظر إليها على أنها فاسدة، وسقط العشرات قتلى في التظاهرات، وانتقدت الأمم المتحدة الحكومة الكينية لاستخدامها "القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين"، واتهمتها "بالفشل في حماية مواطنيها أثناء ممارسة حقوقهم الديمقراطية"، ما دعا الرئيس الكيني إلى التراجع عنها. أوشكت حكومة روتو على السقوط، وضحّى بإقالة غالب وزرائه.

الوضع الاقتصادي المتردي فتح الباب للمخطط الخارجي لابتزاز الرئيس الكيني بالدعم الاقتصادي، ما فتح الباب لأطراف إقليمية تملك الأموال لإغراء كينيا لدعم أجندة الدعم السريع مقابل وعود بمئات الملايين من الدولارات.

هكذا انضمت كينيا إلى مخطط تدمير وحدة السودان وتقسيمه، وأقيم المؤتمر التأسيسي لذلك في 19 فبراير/ شباط 2025، لتقديم مليشيات الدعم السريع بواجهة سياسية وغطاء مدني من بعض الموالين قبليًا ومناطقيًا، وبعض من أغراهم الدعم المالي.

في المقابل، استنكر مسؤولون كينيون هذه الخطوة، التي تشكل دعمًا ضمنيًا لقوات الدعم السريع في صراعها ضد الحكومة السودانية، ومنهم برلمانيون ووسائل إعلام أكدوا أن هذا التصعيد يزيد من تعقيد العلاقات الثنائية بين الخرطوم ونيروبي، في وقت حساس تمر فيه كينيا بتحديات داخلية وخارجية.

توقع عدد من القيادات السياسية الكينية ألا يقبل الأفارقة بالدور المنحاز الذي تلعبه حكومتهم ضد الحكومة السودانية، وذلك ما حدث بالفعل في أول محفل أفريقي جامع، إذ سقط المرشح الكيني (رئيس الوزراء السابق) في انتخابات رئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي أمام مرشح جيبوتي (وزير خارجيتها)، ما عُدّ انتكاسة كبرى للسياسة الكينية ووزنها الأفريقي.

إعلان

كذلك، يتوقع الكينيون ردات فعل سياسية واقتصادية من الحكومة السودانية تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين، وربما تقود إلى تعقيدات حادة في عدة مجالات ومحاور ضارة بكينيا.

السؤال الثاني: من الحاضرون؟ ومن يمثلون؟

بعد فشل مشروعها الأساسي بهزيمة الجيش السوداني وتدميره والاستيلاء على الحكم بكامل البلاد، لجأت المؤامرة الخارجية للخطة (ب) بالإعلان عبر مجموعات الدعم السريع عن ميثاق تأسيسي يمضي لتشكيل حكومة موازية في مناطق سيطرة الدعم السريع.

المجموعات التي انضمت للدعوة لا تعدو كونها انشطارات صورية عن أحزاب تقليدية معروفة بموقفها من الدعم السريع منذ تأسيسه إبان حكم الإنقاذ.

من وقع عن حزب الأمة لم يستذكر موقف الإمام الصادق المهدي، عليه رحمة الله، من الجنجويد، وجهره بكلمة الحق منتصف عام 2014، والتي أكد فيها "ارتكاب قوات الدعم السريع جرائم حرق للقرى واغتصاب ونهب لممتلكات المواطنين، وضم عناصر غير سودانية إلى صفوفها، والعمل خارج نطاق القوات النظامية".

موقف الحزب ممن وقع باسمه كان سريعًا وحاسمًا بإقالته من رئاسة الحزب. كذا كان نفس الموقف لمن وقع باسم الحزب الاتحادي الديمقراطي. أما بقية من وقع من المدنيين والواجهات واللافتات التي حُشدت في نيروبي، فلا يقف وراءها مد جماهيري ولا بعد سياسي.

ما تبقى من حركات مسلحة وقعت اتفاق جوبا ولم تنحز للجيش السوداني، فتلك أيضًا تعاني من تعقيدات قبلية ومناطقية أفقدتها عددًا كبيرًا من مقاتليها، وأصبحت مرتهنة بيد الدعم السريع ماليًا وسياسيًا.

حضر لقاء الميثاق رئيس "الحركة الشعبية – شمال"، السيد عبدالعزيز الحلو، المعروف عنه رفضه أي اتفاق أو توافق مع أي حكومة مرت على البلاد طوال الحقب السابقة وحتى حكومة الثورة.

فرض الحلو على الميثاق بنوده وشروطه التي ظل يرددها دون معنى وبلا تبرير، وعلى رأسها العلمانية وفصل الدين عن السياسة. أيضًا انتهت مجموعته إلى التشتت، واستقال عدد من كوادر الحركة وانتقدوا مواقفه بشدة.

إعلان

بهذا التناقض جاء التأسيس لخطة التقسيم، لافتات مدنية ضعيفة تلتف حول الدعم السريع لتقدم الغطاء المطلوب، تمامًا كما حدث في ليبيا مع حفتر ونموذج المجلس الانتقالي في اليمن.

ظهر الدعم السريع متسيدًا للمشهد، مقدمًا المشاركين كمتحالفين معه وداعمين له. صورة انقسام وتشظي الأحزاب التقليدية تعزز مخطط الانقسام الجهوي والجغرافي المطلوب لفرض المخطط الخارجي وتقسيم البلاد.

تسارعت الخطى لانعقاد لقاء الميثاق، والواضح أن التقدم العسكري للجيش السوداني، الذي يتوسع يومًا بعد يوم، هو الدافع الرئيسي لذلك، قبل أن يفقد الدعم السريع ما يحتله حاليًا من مناطق يمكن أن تنطلق منها، ولو شكليًا، ما سموه بحكومة السلام المدنية.

المخطط يتطلع للتشبث بمناطق دارفور، التي تتوفر فيها مطارات تستقبل الدعم الخارجي، خاصة الدعم العسكري الثقيل، الذي يمكن أن يوقف تقدم الجيش وانتصاراته. ظهرت أهداف اللقاء قبل أن تقدم ورقة الميثاق، حينما أكد أفراده أن الدعم الخارجي بانتظار اجتماعهم وتشكيل حكومتهم الموعودة.

هكذا تتسارع الخطى من جانبين:

القوات المسلحة، التي يقف خلفها الشعب السوداني مستنفرين وداعمين، متطلعين للعودة إلى منازلهم ودورهم لإعادة حياتهم الطبيعية بعد قتل ونهب وسرقة مليشيات الدعم السريع لممتلكاتهم. مخطط الخارج، عبر مليشيات الدعم السريع وداعميه، لتثبيت أقدامهم في نيالا، والجنينة، والضعين، وكاودا، ليكون للمخطط مساحة جغرافية يوهم بحكمها، وتهبط فيها طائرات الحرب تحمل الدمار للسودان.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • «شرق النيل» في قبضة الجيش السوداني
  • مكاسب الجيش في العاصمة… هل تُنهي حرب السودان؟ توقعات بأن تنتقل المعارك منها إلى غرب البلاد
  • السودان: هل تنهي مكاسب الجيش في العاصمة الحرب؟
  • لماذا تحتضن نيروبي مشروع حكومة الدعم السريع؟
  • معارك شرق الخرطوم والجيش يكثف غاراته على الدعم السريع بمحيط الفاشر
  • الجيش: سيطرنا على منظومة تشويش تابعة لقوات الدعم السريع على سطح منزل في شرق النيل – فيديو
  • نختلف أو نتفق مع البرهان فقد أثبتت هذه الحرب أنه قائد شجاع ومحنك وصبور
  • البرهان.. مخاطر الرقص على رؤوس الأفاعي
  • الجيش السوداني يتقدم أكثر باتجاه العاصمة و مقتل 10 من مليشيات الدعم السريع
  • الجيش السوداني يقصف مواقع الدعم السريع في الخرطوم وشمالي الأبيّض