ناصر السيد النور
ما جرى في الأسبوع الماضي في قرية ود النورة بولاية الجزيرة، وسط السودان التي راح ضحيتها عدد من المدنيين كشفت عن بشاعة الحرب التي يخوضها طرفا الصراع الدموي، الجيش وقوات الدعم السريع، من دون محددات أخلاقية أو إنسانية. والحادثة الأخيرة متهمة فيها قوات الدعم السريع في تلك المنطقة، التي تخضع لسلطتها المسلحة منذ أن اقتحمت عاصمة ولايتها العام الماضي.
وبينما ظل استهداف المدنيين في حروب السودان الأهلية المتصلة في مناطق صراعاته الداخلية على مدى عقود بالعنف من غير تمييز بين الأهداف العسكرية والأعيان المدنية، فيما تفصل فيه الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية المدنيين. وغالباً ما كان المدنيون مستهدفون بجرائم الحرب من قتل واغتصاب وتعذيب وخطف، واستخدامهم دروعا بشرية، أو غنائم، تفاوض عليها الأطراف في الحسم العسكري، كما هو الشأن في كل الحروب بما يمثل سياسية لها بعدها العسكري والسياسي. أما وقد تحولت الحرب الجارية في السودان إلى مواجهات شعبية جهوية الطابع، فإن حملات التطهير العرقي والإبادة الجماعية والكراهية، وكل ما تمثله أفعال جرائم الانتهاكات الإنسانية في القانون الدولي، باتت صفة ملازمة لحرب الجنرالين؛ فنزاعات السودان الداخلية تخلو من أي معايير تصون حياة المدنيين في مناطق القتال أو المدن والبلدات، التي تحولت إلى ساحات معارك ضارية بين الطرفين، أوقعت خسائر في الأرواح وأحدثت خللاً في البنية المدنية والخدمات.
ومن المفارقات أن الفريقين المتقاتلين الجيش وقوات الدعم السريع حليفي الأمس، كانا يمارسان الانتهاكات التي يتبادلان فيها الاتهامات الآن؛ فنشأة قوات الدعم السريع جاءت كسياسة انتهجها النظام السابق في مواجهة تمرد الحركات المسلحة عند اندلاع الحرب في دارفور مطلع 2003، وقامت تلك السياسة على مناصرة المجموعات العربية في الإقليم ضد مكونات الحركات الاجتماعية من المدنيين، ونتجت عنها فظاعات إنسانية حدت بالمحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير، حدث هذا للمرة الأولى لرئيس دولة على سدة الحكم 2008. ومن ثم اكتسبت قوات الدعم السريع صفتها الدستورية والقانونية بقرار برلماني تشريعي عام 2013، كإحدى أذرع الدولة العسكرية، بغض النظر عن طبيعة مهامها. وهذا التكوين الثنائي (الجيش والدعم السريع) يحمل البذور ذاتها في انتهاج سياسات الأرض المحروقة، وهو ما جرى في الحرب الدائرة منذ أكثر من عام، وقبلها ما حصل من حوادث أعقبت ثورة ديسمبر 2019، حادثة فض الاعتصام الشهيرة وغيرها من انتهاكات. فلا عجب إن أدرجت الأمم المتحدة هذا الأسبوع قوات الجيش السوداني والدعم السريع ضمن قائمتها المتصلة بانتهاكات حقوق الأطفال في النزاعات. وهو مؤشر آخر لمدى بلوغ الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها الطرفان، التي تخالف الاتفاقيات الخاصة بحماية المدنيين في زمن الحروب، وما يجري من تحقيق من قبل مدعي محكمة الجنايات الدولية بالانتهاكات التي ارتبكت في عدة مدن سودانية أثناء القتال الدائر بين طرفي الصراع.
فإذا كانت الحرب في تعريفها الاستراتيجي الكلاسيكي إحدى وسائل ممارسة السياسة وهو بالطبع يقصد به الحرب بين الدول، ولكن السودان الذي لم يخض جيشه حرباً على حدوده، بل على النقيض من ذلك مارس الحرب كوسيلة سياسية في الصراعات الأهلية. وعليه ما نتج عن خسائر بشرية فادحة مورست فيها أبشع وسائل الهمجية البشرية، لم يكن وليداً للحرب الحالية التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل في العام الماضي، فقد كانت لسياسات الحكومات السودانية وتحيزاتها للمكونات الاجتماعية بعينها، أثر بليغ في تأجيج النعرات القبلية والصراعات الأهلية، وممارسة أقصى درجات الانتهاكات الإنسانية تحت غطاء الدولة، ودون محاسبة، فقد استقرت النظم القبلية واستوعبت آليات الدولة فتشكل خطاب السلطة على خلفية التصورات القبيلة، وهي بالضرورة منظومة محدودة التمدد، ومغلقة على أفرادها، فحتى حين استطالت كأحزاب سياسية وكإطار سياسي لاستيعاب الأفراد، ضمن نظم أحدث في منظوماته الطائفية، انتهى الأمر بأن تحزّبتْ القبائل وأصبحت لديها قابلية ممارسة عاداتها في الحرب والإغارة في سياق تكوينها الأنثروبولوجي المشكل لهويتها القتالية. وتكون نتائج الحرب الحالية وسرعة انتشارها في وقت وجيز، لتشمل كامل البلاد نتيجة منطقية لما ظل نهجاً سياسياً متبعاً في سياسية الدولة تجاه أزماتها الداخلية، وما لم تحسب عواقبه التي أدت إلى أحداث مروعة كان ضحاياها المدنيين العزل. فالإطار السياسي بمكوناته الإدارية والوظيفية للدولة السودانية لا يسمح بنمو الحس القومي، ويحدُّ دائما من نزعة الانتماء إلى الولاءات الوطنية، أو إلى روابط قومية تتماثل سماتها التأريخية والثقافية وصولاً إلى دولة المواطنة، فلا يؤمل من واقع ترسخت قيمه من واقع أضيق زواياه الاجتماعية، أن يسمح بتفاعل اجتماعي يأخذ باتجاه تحديد أولويات الدولة وخيارات الفرد، إلا من خلال التفاعل الإثني السالب وليس مؤسسات الدولة، وهذا أفضى بدوره إلى التعبير عن الحنق السياسي على خلفيات الانتماءات العرقية والجهوية. فطالما كان النزاع العرقي يتفاعل ضمن حدود مؤسسة ذات طبيعة وظيفية (الدولة)؛ فإن النوع الذي يمكن أن توصف به الدولة السودانية، دولة تعبر عن وظيفة احتكار العنف في أقصى صوره، تشاركها جماعات احتكار العنف بمفهوم الدولة، على حد تعبير عالم الاجتماع الفيلسوف ماكس فيبر، حتى كاد العنف أن يكون شرطاَ وجودياً لقيام الدولة، تتقاسمه بمعايير العالم الثالث عدد من الدول. فإذا ما أخضعت الدولة السودانية بنظمها المتعددة العسكرية والديمقراطية قصيرة الأجل للتحليل السياسي، فإن نتائج البحث وحقائقه ستجرد الأطر المزعومة ـ المؤسسة – لكيانات الحكم والمواطنة ولا يبقى منها غير الحاكم وعلاقته العنيفة ضد رعاياه.
إن استمرار الحرب يعني بالضرورة ولعوامل كثيرة منها العسكري والسياسي والاجتماعي استمرارا للإبادة الجماعية للسكان المدنيين، الذين أصبحوا جزءاً من الصراع على أسس جهوية وعرقية بحتة، طالما أن منطلقات الحرب لم تزل قائمة. ولا أمل في وقفها مع فشل جهود التفاوض أو الاعتراف، بما آلت إليه الأوضاع الكارثية للسكان، وأصبحت إدارة الصراع من قبل الطرفين يتحكم فيه مبدأ الثارات على الطريقة القبلية، وليس العقيدة القتالية التي تنظمها ضوابط تجنب المدنيين ويلات الصراع. فالفصل بين مقتضيات ممارسة السلطة في ظل حكومة قائمة يتعذر في وجود سياسة أولوية حرب يحشد لها كل طرف من قوة وكل ما يمكنه من سحق الآخر. إذ ستؤدي السياسات المتبعة إذا استمرت في وتيرتها العنيفة على ما هي عليه إلى مزيد من ارتكاب فظاعات ضد المدنيين بما يزيد من فرص اتساع دائرة الانتقام بين المكونات الاجتماعية خاصة مع تصاعد المواجهات مؤخراً بين الطرفين.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية# السبت 15/06/2024م
nassyid@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
انطلاق أول امتحان للشهادة الثانوية بالسودان بعد الحرب
الخرطوم- انطلقت، اليوم السبت، امتحانات الشهادة الثانوية في السودان المؤهلة للجامعة ومؤسسات التعليم العالي بعد انتظار الطلاب نحو 20 شهرا، إثر تعليقها بسبب اندلاع الحرب في البلاد.
وأكدت مصادر في وزارة الداخلية، للجزيرة نت، أن اليوم الأول مر بهدوء ولم تحدث خروقات أو ما يعكر صفوها، كما تمت معالجة أوضاع بعض الطلاب النازحين من الولايات المتأثرة بالحرب في المراكز التي وصلوا إليها ولم تكن لديهم أرقام معتمدة للجلوس للامتحان.
ورفضت قوات الدعم السريع إجراء الامتحانات ومنعت الطلاب من مغادرة مواقع سيطرتها، خاصة في إقليم دارفور، إلى الولايات الآمنة التي حددت وزارة التربية والتعليم مراكز لإجراء الامتحان لطلابها.
شائعاتويبلغ عدد المسجلين للامتحانات 343 ألفا و644 طالبا وطالبة، في 2300 مركز امتحان بداخل السودان، من بينهم 120 ألفا و724 وفدوا من ولايات متأثرة بالحرب، حسب الوزارة.
ويجتاز الامتحانات أكثر من 42 ألف طالب في 46 مركزا في 15 دولة، منهم 28 ألفا في 25 مركزا في مصر، وهو أكبر عدد للطلاب السودانيين الممتحنين بالدول التي لجأ إليها السودانيون هربا من الصراع.
وقال وزير التربية المكلف أحمد خليفة إن عدد الطلاب الذين توجهوا إلى مراكز الامتحانات يبلغ أكثر من 70% من عدد المسجلين قبل الحرب (570 ألفا) وإن من لم يتمكنوا من اجتياز الامتحانات في دفعة 2024 سيقومون بذلك في مارس/آذار المقبل، ونفى حرمان 60% منها وعدها "شائعات مغرضة".
إعلانواختارت السلطات بعض المدن لإجراء الامتحانات في ولايات متأثرة بالحرب جزئيا، وحددت مدينة النهود في ولاية غرب دارفور التي تسيطر قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة منها، لكنها علقت إجراءها قبل 48 ساعة لدواعٍ أمنية.
كما نقلت الامتحانات جوا إلى كادقلي عاصمة ولاية جنوب كردفان التي تسيطر الدعم السريع على أطرافها الشمالية، والحركة الشعبية-الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو على محليات في جنوبها.
وكان مقررا تنظيم الامتحانات في مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان التي يسيطر عليها الجيش السوداني، لكن "الحركة الشعبية" التي تنتشر قواتها حول المنطقة رفضت أن يرافق أوراق الامتحانات أي مسؤول حكومي، مما أدى إلى توقف نقلها واحتج الطلاب وأسرهم على تعليق الامتحان في مظاهرة بالمدينة.
مجلس السيادة: تشاد حرمت 13 ألف طالب سوداني من الجلوس لامتحانات الشهادة بمدينة أبشي#السودان
اتهم مجلس السيادة الانتقالي، السلطات التشادية بتضييع مستقبل آلاف الطلاب السودانيين النازحين بأراضيها، عقب حرمانهم من الجلوس لامتحانات الشهادة السودانية.
وكشف نائب رئيس المجلس، مالك عقار،… pic.twitter.com/9gkRfPcoOK
— Sudan Trend ???????? (@SudanTrends) December 14, 2024
أسفوأعربت وزارة التربية -في بيان اليوم- عن أسفها لمنع تشاد نحو 10 آلاف طالب سوداني لاجئ من إجراء الامتحانات على أراضيها، واعتبرته "دليلا على مساندتها لقوات الدعم السريع". كما حملت الحركة الشعبية مسؤولية حرمان طلاب الدلنج من الامتحانات بعد وصول أوراقها للمدينة، وأدانت منع القوات مغادرة الطلاب مواقعها إلى الولايات الآمنة.
ومن جانبها، أعلنت منصة "نداء الوسط" وصول عدد كبير من الطلاب إلى مدينة الدويم في ولاية النيل الأبيض قادمين من مدينة القطينة التي تسيطر عليها الدعم السريع لأداء امتحانات. وقالت إنهم خاضوا رحلة محفوفة بالمخاطر استمرت يومين عبر المراكب الشراعية لعبور الضفة الغربية للنيل الأبيض.
إعلانوتحدت الطالبة السودانية شمس الحافظ عبد الله العقبات وقطعت مسافة 2662 كيلومترا من مدينة أبشي شرق تشاد إلى مدينة الدامر بولاية نهر النيل في رحلة محفوفة بالمخاطر بعد رفض السلطات التشادية إقامة امتحانات الشهادة السودانية داخل أراضيها، وكان في استقبالها وزير التربية وعدد من المسؤولين بالولاية.
وطالبت وزيرة التعليم والبحث العلمي في حكومة إقليم دارفور، توحيدة عبد الرحمن، المنظمات الحقوقية والإنسانية بإدانة تشاد لمنعها طلاب دارفور اللاجئين من الجلوس لامتحان الشهادة الثانوية المؤجلة.
وأكدت -في بيان- أن "أداء الامتحانات من الحقوق الأساسية للاجئين والنازحين، وأن بعض الدول تكفل هذه الحقوق حتى للمدانين في جرائم ويقضون فيها عقوبات، وأن حرمان التلاميذ منها جريمة شنعاء".
حرمانمن جهتها، أعلنت لجنة المعلمين السودانيين حرمان طلاب 8 ولايات بالكامل، و6 بشكل جزئي، من اجتياز امتحانات الشهادة الثانوية، وذلك من جملة 18 ولاية. وذكرت -في بيان- أن 60% على الأقل من الطلاب السودانيين سيحرمون من هذه الامتحانات، ووصفت الخطوة بأنها "تخبط وعشوائية" ورأت أن الامتحانات تشكل "خطرا على المعلمين والطلاب في ظروف الحرب".
وكانت قوات الدعم السريع أعلنت رفضها تنظيم امتحانات الشهادة الثانوية، وقالت في بيان "إن إجراءها في مناطق بعينها دون سائر ولايات البلاد يأتي ضمن سياسات تهدف لتقسيم السودان، ويعكس عدم الاكتراث لمستقبل مئات الآلاف من الطلاب".
وتُعد هذه الامتحانات أحد أهم الاختبارات التي تجرى بمرحلة التعليم المدرسي في السودان بالصف الثالث الثانوي، وهي آخر سنة من سنوات التعليم العام، وتؤهل نتيجتها الطالب للانتقال للتعليم العالي أو الجامعي.
ووفقا لإحصائيات صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) فإن الحرب المستمرة في السودان حرمت نحو 17 مليون طفل من الالتحاق بالمدارس.
إعلان