من أجمل ما قرأت عن المغزى الروحى والفلسفى لشعيرة الحج المباركة والتى تهفو إليها قلوب المسلمين فى كل بقاع الأرض متضرعين إلى الله عز وجل أن يكون لهم نصيب ممن استطاعوا إليها سبيلًا، مقال كتبه الطبيب والفيلسوف والمفكر مصطفى محمود (27 ديسمبر 1921-31 أكتوبر 2009) تحت عنوان: هل مناسك الحج وثنية؟ ثم أرفقه فى كتابه الشهير «حوار مع صديقى الملحد» الذى صدر عام 1970، وفى الكتاب يتخيل الدكتور مصطفى محمود أنه يتحدث إلى صديقه، رجل يحب الجدل ويهوى الكلام وهو يعتقد أننا نحن المؤمنين السذج نقتات بالأوهام ونضحك على أنفسنا بالجنة والحور العين وتفوتنا لذات الدنيا ومفاتنها.
مقال الدكتور مصطفى محمود قرأته عشرات المرات وتحديدًا فى كل موسم حج، وفى كل مرة يزداد يقينى أنه خلاصة رحلة الإنسان حينما يتأرجح بين العلم المادى وبين الروحانيات بكل ما فيها من سلطة غيبية ووصل بالذات الإلهية.
ولأننى كسائر المسلمين البسطاء أحب الله بكل جوارحى وبيقين إيمانى لا يتزعزع، فقد انشرح صدرى حينما اكتشفت مقال الدكتور مصطفى محمود وواظبت على قراءته منذ عشرات السنين ليرد به على ذلك الملحد الافتراضى، لأننى بفطرتى التى تتشابه مع الكثيرين وصلت إلى هذا اليقين دون أن أعلم ما وراءه من رموز وفلسفة، ولكن فى البصيرة راحة للعقل ومدد لقهر أعداء الدين.
أما الآن فسوف أورد جزءًا من هذا الحوار الرائع وأتمنى أن يرجع له كاملًا كل عاشق يدور فى الفلك الإلهى بفطرته ليدرك جمال الدوران وعمقه وعظمته.. نص الحوار: قال صاحبى وهو يفرك يديه ارتياحًا ويبتسم ابتسامة خبيثة تبدى نواجذه وقد لمعت عيناه بذلك البريق الذى يبدو فى وجه الملاكم حينما يتأهب لتوجيه ضربة قاضية:
ألا تلاحظ معى أن مناسك الحج عندكم هى وثنية صريحة؟
ذلك البناء الحجرى الذى تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله، ورجم الشيطان.. والهرولة بين الصفا والمروة، وتقبيل الحجر الأسود.. وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هرولات وهى بقايا من خرافة الأرقام الطلسمية فى الشعوذات القديمة، وثوب الإحرام الذى تلبسونه على اللحم.. لا تؤاخذنى إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن لا حياء فى العلم.
وراح ينفث دخان سيجارته ببطء ويراقبنى من وراء نظارته.
قلت فى هدوء: ألا تلاحظ معى أنت أيضًا أن فى قوانين المادة التى درستها أن الأصغر يطوف حول الأكبر، الإلكترون فى الذرة يدور حول النواة، والقمر حول الأرض، والأرض حول الشمس، والشمس حول المجرة، والمجرة حول مجرة أكبر، إلى أن نصل إلى «الأكبر مطلقًا» وهو الله.. ألا نقول «الله أكبر».. أى أكبر من كل شيء.. وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك ولا تملك إلا أن تطوف، فلا شيء ثابتاً فى الكون إلا الله هو الصمد الصامد الساكن والكل فى حركة حوله.. وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذى تعلمته فى الفيزياء.. أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت الله.. وهو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله.. فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزًا وبيتًا لله..ألا تطوفون أنتم حول رجل محنط فى الكرملين تعظمونه وتقولون إنه أفاد البشرية، ولو عرفتم لشكسبير قبرًا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة محمد عليه الصلاة والسلام.. ألا تضعون باقة ورد على نصب حجرى وتقولون إنه يرمز للجندى المجهول؟ فلماذا تلوموننا لأننا نلقى حجرًا على نصب رمزى نقول إنه يرمز إلى الشيطان.. ألا تعيش فى هرولة من ميلادك إلى موتك ثم بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديد وهى نفس الرحلة الرمزية من الصفا «الصفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم» إلى المروة وهى النبع الذى يرمز إلى الحياة والوجود.. من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم.. أليست هذه هى الحركة البندولية لكل المخلوقات.. ألا ترى فى مناسك الحج تلخيصًا رمزيًا عميقًا لكل هذه الأسرار؟
إن مناسك الحج هى عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى فى القلب.
ولو وقفت معى فى عرفة بين عدة ملايين يقولون الله أكبر ويتلون القرآن بأكثر من عشرين لغة ويهتفون لبيك اللهم لبيك ويبكون ويذوبون شوقًا وحبًا، لبكيت أنت أيضًا دون أن تدرى وتذوب فى الجمع الغفير من الخلق وأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام الإله العظيم مالك الملك الذى بيده مقاليد كل شيء.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: قلوب المسلمين مناسك الحج مصطفى محمود مناسک الحج
إقرأ أيضاً:
عبدالرحمن الأبنودى.. الناى الذى أنشد للناس والوطن
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق عبدالرحمن الأبنودى.. الناى الذى أنشد للناس والوطنيرويها سامح قاسم
في ذكرى ميلاد عبد الرحمن الأبنودي، لا نكتب عنه بمداد الحبر فحسب، بل بوهج الذاكرة التي لا تفتر عن الاحتفاء برجلٍ جعل من القصيدة مرآةً لصوت الجماهير، ومن اللغة صدىً للأرض والريح والمقهورين. شاعرٌ لم يتعالَ على العاميّة فصقلها وأدخلها إلى الصالونات الثقافية كما تدخل الريح إلى بيتها، وجعل من الأبجدية المصرية الشعبية حنطةً شعرية تُطعم الروح وتُشبِع القلب.
ولد الأبنودي في الحادي عشر من أبريل عام 1938 بقرية أبنود بمحافظة قنا، وكان ميلاده بمثابة وعد شعريّ خفيّ ستكشف عنه الأيام لاحقا، فالصبي الذي شبَّ على ضفاف الصعيد، مستمعًا لتراتيل وحكايات الجدّات وأناشيد الحصادين، كان يخبئ في قلبه بذرة شاعرٍ كبير، يحمل هموم الناس كما يحمل الماء شكل الإناء. ومنذ البداية، لم تكن القصيدة عنده ترفًا، بل ضرورة، ولم تكن الشعرية في فصاحتها وحدها، بل في صدقها ووقعها في الضمير.
-في زمنٍ كانت فيه القصيدة العربية تدور في فلك النخب، جاء الأبنودي ليكتب شعرًا لا يحتاج إلى ترجمان بينه وبين الناس، العامية عنده لم تكن انحرافًا عن اللغة، بل عودةٌ إلى النبع، إلى اللغة الأم التي يتحدث بها المصري مع ذاته، ومع من يحب، وكأن الأبنودي بذلك يردد ما قاله يومًا: "اللغة لا تكمن في المعجم، بل في العصب"، وكان عصبه دائم التوتر، متصلًا بشبكة المشاعر الشعبية.
وقد كتب قصائد تُحفظ عن ظهر قلب، ليس لأنها سهلة، بل لأنها صادقة، تمشي في اللغة كما يمشي الفلاح في الحقل، بخطى مطمئنة، محاطة بالطين والشمس والوجع.
في ديوانه الأهم "الأرض والعيال" الصادر عام ١٩٦٤، رسم الأبنودي صورة بانورامية للصعيد، لحياة العائلة، للقهر الأبوي، للمياه التي تشق الأرض بشق النفس، للحب البكر، للموت القريب، للعيد البعيد، وللفقر الذي ينحت الوجوه، ويكفي أن نقرأ مطلع قصيدته "جوابات حراجي القط" لندرك إلى أي حد كانت القصيدة قادرة على حمل الخطاب الاجتماعي والسياسي والوجداني في آنٍ واحد.
الأبنودي والمقاومة
لم يكن الأبنودي شاعرًا للوجدان فحسب، بل كان شاعرًا للموقف، كان يرى الشعر سلاحًا لا يُشهر إلا في وجه الظلم، وكان يرى في القصيدة شيئًا من منجل الفلاح، ومن بندقية الفدائي، ومن دمعة الأم.
حين كتب عن العدوان الثلاثي، وعن نكسة ٦٧، وعن عبد الناصر، لم يكن ينقل موقفًا سياسيًا، بل موقفًا وجدانيًا يقطر من قلب الجماعة، في مرثيته لعبد الناصر، جاء صوته مفجوعًا كمن فقد الأب والراعي.
وفي قصيدته عن نكسة ٦٧، كان أول من تجرأ على البوح بالخذلان دون أن يسقط في هاوية جلد الذات، حمل الوجع كمن يحمل صليبًا، وراح يكتب عن الإنسان المقهور دون أن يسحب منه الأمل، بل جعله يرى في الشعر عزاءً ومساءلة.
الأبنودي والموسيقى
ربما أكثر ما قرّب الأبنودي من الناس هو اقتران شعره بالموسيقى. فقد كتب لكبار المطربين من أمثال عبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وشادية، ومحمد منير. غير أن شعره لم يكن مجرد "كلمات لأغانٍ"، بل كان شعرًا حقيقيًا، يملك روحه الخاصة، ويتسرب إلى القلب كما تتسرب الموسيقى إلى الجسد.
قصيدة "عدى النهار" التي غنّاها عبد الحليم عقب نكسة ٦٧ لم تكن مجرد أغنية حزينة، بل كانت نشيدًا للأمل، وجرحًا متوهجًا، وموقفًا أخلاقيًا. يبدأ فيها الأبنودي بمشهد بسيط: غروب الشمس في الأفق، لكنه يربطه بأفول الكرامة والانكسار:
"عدّى النهار والمغربية جاية
تتخفّى ورا ضهر الشجر
وعشان نتوه في السكة
شالت من ليالينا القمر".
وكأن القصيدة تُنشد ما قاله محمود درويش في مقامٍ آخر: "إننا نكتب لكي نحيا، ولكي نحفظ ذاكرة الذين صمتوا".
عرف الأبنودي كيف يكون الشاعر كبيرًا دون أن يستعلي، وكيف يحافظ على مقربة من الناس دون أن يفقد عمقه. ظل حتى آخر أيامه يحمل همّ القرى والمقهورين والفلاحين والبسطاء، ويكتب عنهم كما لو أنه يكتب عن نفسه. لم يبدّل جلده، ولم يستبدل القلق بالترف. وكانت حياته امتدادًا حيويًا لشعره، وكان شعره شهادةً لحياته.
وفي لقاءات كثيرة، بدا الأبنودي كمن يحمل مزاج الحكيم الشعبي: ساخرًا، ذكيًا، غاضبًا حين يجب، ومتصوفًا حين تشتد الدنيا. لم يُهادن، ولم يساوم، وكان يرى في الشاعر صوت الضمير، لا صدى السلطة.
ومن المفارقات العذبة في تاريخ الشعر المصري أن اثنين من أبرز شعرائه، عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل، وُلدا في الصعيد، وتحديدًا في جنوبه، لكنهما عبّرا عن الوجدان الشعبي بأدوات متباينة. دنقل اختار الفصحى، والأبنودي اختار العامية، لكن كليهما كتب ضد القهر، من موقع الشاهد لا من موقع الفقيه.
في حين اختار أمل مفردات الأسطورة والأسئلة الكبرى، كان الأبنودي يكتب من قلب الحكاية، من رغيف العيش، من دموع الأم، من لهجة الجدات. لم يكن في حاجة إلى رفع صوته، لأن صدق صوته كان أعلى من كل مجاز. ومع هذا، كان هناك تقاطع وجداني بينهما، حتى لو اختلفت أدوات القول: الوطن، الإنسان، الحرية، والكرامة.
قال الأبنودي مرة عن أمل: "كان يسكنني كما يسكنني أخي الغائب. لم أكن أشبهه، لكنه كان يشبه ما تمنيت أن أكونه لو كتبت بالفصحى".
وهذا التعاطف غير المعلن بين شاعرين من أرض واحدة يدل على أن الشعراء الحقيقيين لا يفصلهم الأسلوب، بل يقرّبهم الهم.
لا يمكن الحديث عن الأبنودي دون الوقوف طويلًا أمام ملحمته الأشهر "جوابات حراجي القط"، وهي مجموعة قصائد متتالية كُتبت على هيئة رسائل من عاملٍ في السد العالي (حراجي القط) إلى زوجته "فاطنة" في قريته الصعيدية. ومن خلال هذه الرسائل، صنع الأبنودي مزيجًا بارعًا بين الشعر والسرد، بين التوثيق والوجد، بين الحديث الخاص والرسالة العامة.
كانت "جوابات حراجي القط" عملًا أدبيًا مركبًا، أدخل العامية المصرية في قلب خطاب وطنيّ وإنساني. لم تكن رسائل الحبيب فقط، بل كانت رسائل العامل إلى الوطن، ورسائل القرويّ إلى المدينة، ورسائل الإنسان إلى زمانه.
هذه اللغة النابضة بالحياة، والمشبعة بروح البناء، كانت جديدة على القصيدة العامية، وفتحت لها أفقًا سرديًا لم يكن مألوفًا في زمنها. ولعل هذا ما جعل النقاد يقولون إن "جوابات حراجي القط" ليست فقط ديوانًا شعريًا، بل وثيقة وطنية وإنسانية نادرة.
كان الأبنودي من أوائل الشعراء الذين كتبوا عن سيناء، وعن فدائييها، وعن وجعها الساكن في الرمل والعطش. لم يتعامل مع سيناء كمجرد أرض محتلة، بل كأمّ جريحة تنزف في صمت. كتب عنها وكأنه ابنها، وقال عنها كما يقول العاشق عن معشوقته المنسية.
وقد تجلى اهتمامه بسيناء ليس فقط في الشعر، بل في مواقفه الداعمة لحقوق البدو، ودفاعه عن الفدائيين، حتى إنه كتب عن المقاومة الفلسطينية في مرحلة مبكرة، ووقف في وجه الأصوات التي كانت تهادن الاحتلال أو تتذرع بالواقعية السياسية.
من أعظم ما أنجزه الأبنودي أنه نجح في إيصال القصيدة إلى كل بيت. لم يحتج جمهوره إلى الذهاب إلى المسارح أو قراءة دواوين ضخمة، بل استمعوا إليه عبر الإذاعة والتليفزيون، في البرامج التي كتبها أو شارك فيها، وفي الأغاني التي نسجها. لقد خلق "تليفزيونًا شعريًا"، يلتقي فيه الناس على ضفاف القصيدة.
ذاكرة لا تموت
رحل الأبنودي في ٢١ أبريل ٢٠١٥، لكنه لم يرحل فعلًا. ما زال حيًا في "الجوابات"، في "المربعات"، في "العيال"، في "عدى النهار"، في كل أمٍّ تبكي غائبًا، وكل عاشقٍ يبحث عن لحظة صدق في هذا العالم.
وها نحن نعود إليه كل عام، لا لنرثيه، بل لنحتفل به. فهو لم يكتب للخلود، بل كتب للناس، ولهذا خُلِّد.
نعود إليه كمن يعود إلى نبعٍ لا ينضب، وإلى صوتٍ لم يكفّ عن الغناء. ففي زمنٍ تعالت فيه القصيدة على جمهورها، بقي الأبنودي ذلك الشاعر الشعبي الذي أعاد إلى الشعر وظيفته الأولى: أن يكون غناءً للقلب، وسؤالًا للعدالة، ومرآةً للحب، ورصيفًا للبسطاء.
بعد وفاته، لم يتحول الأبنودي إلى "اسم شارع"، أو "مدخل كتاب"، بل ظل حيًّا في أفواه البسطاء. ما زال الناس يرددون أبياته، ويستشهدون بكلماته في المظاهرات، وفي الحوارات، وفي لحظات الحب والحزن.
تحوّل الأبنودي إلى أيقونة ثقافية لأنه لم يكتب من فوق، بل من بين الناس. وحين تُذكر أسماء الشعراء الكبار، لا يُذكر باعتباره "شاعرًا شعبيًا" فحسب، بل باعتباره "ضميرًا شعريًا" لهذا الوطن.
بل إن شعره اليوم يُعاد اكتشافه من قبل أجيال جديدة، تبحث في كلماته عن النقاء، والبساطة، والانتماء، والاحتجاج النبيل.
في ذكرى ميلاده... ماذا نتعلّم من الأبنودي؟
أن تكون شاعرًا كبيرًا لا يعني أن تتكلم بصوت عالٍ، بل أن تصغي جيدًا، كما أصغى الأبنودي لنبض القرى، لصوت الحقول، لصدى القهر.
أن تكتب بالعامية لا يعني أن تكتب بلا فكر، بل أن تحمل الفكر في لغته اليومية كما يُحمل الورد في منديل طفلٍ ذاهب إلى العيد.
أن تكون مثقفًا لا يعني أن تعتلي منصة، بل أن تعبر عن الجماعة، وتحمل وجعها، وتخاطبها بلغتها دون استعلاء.
وأن تكون شاعرًا للناس لا يعني أن تنسى نفسك، بل أن تذوب فيها، كما ذاب عبد الرحمن الأبنودي حتى أصبح جزءًا من نسيجهم، من لهجتهم، من حكاياتهم.
رحم الله عبد الرحمن الأبنودي، شاعر الناس، شاعر القلب، شاعر القصيدة التي لا تنتهي.