تبدو إشكالية الزمن في الدراما وفي الفيلم السينمائي تحديدا واحدة من الإشكاليات التي شغلت المخرجين وكتاب السيناريو، ذلك أن الانتقالات بين الأزمنة الثلاثة بقدر ما حملت في ثناياها متعة الاكتشاف وسلاسة الوصول بالشخصيات إلى أزمنتها المختلفة إلا أنها لم تكوّن مستوى واحدا من التأثير في المشاهد.

وها هو المخرج برتراند بونيلو يقدم لنا فيلما جديدا لافتا للنظر نال حظه من اهتمام النقاد، وهو في الواقع مزيج ما بين الدرامي والرومانسي والخيال العلمي وهو مستوحى بشكل فضفاض من رواية هنري جيمس القصيرة "الوحش في الغابة" التي صدرت عام 1903.

يقدم الفيلم الشخصية الرئيسية غابرييل – الممثلة ليا سيدو وهي وهي تتنقل ما بين ثلاث فترات زمنية مختلفة: باريس حوالي عام 1910، ولوس أنجلوس في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وباريس في عام 2044 وفي كل حقبة زمنية، كانت غابرييل تجد إلى جانبها لويس – الممثل جورج ماكاي الذي يصبح هو مرآتها الأكثر اقترابا من ذاتها وأزماتها وحياتها السابقة.

وكأننا في كثير من المشاهد إزاء ما تشبه عملية استجواب من طرف لويس لغابرييل وحياتها الشخصية وحياتها الماضية وهي على الرغم من شخصيتها المغلقة المتحفظة إلا أنها لن تتردد في إطلاع لويس على أدق دقائق حياتها وعلى مخاوفها المتراكمة تجاه كثير مما يحيط بها، بل إنها تظهر في بعض المشاهد وهي تصرخ هلعا لسبب أو لآخر.

هذه السردية – المشهدية التي تغوص في التاريخ يقطع تسلسلها خضوع غابريل إلى ما يشبه عملية التنويم المغناطيسي اللحظي بانقطاعها عن الزمان والمكان بمجرد إغلاق عينيها عندما تتقدم نحوها ماكنة الذكاء الاصطناعي وتتغلغل من خلال إبرة مدببة في أذنها نحو دماغها وهو مشهد ظهر أكثر من مرة ليمتزج ذلك المشهد الذي يعود إلى عام 2044 مع صور فوتوغرافية لباريس قبل عدة عقود وهي تعاني من الغرق من خلال تلك الوثائق الفوتوغرافية بالأبيض والأسود.

وفي إطار تلك السردية المشهدية نذهب إلى المستقبل والى عام 2044، لنشاهد غابريل وهي تسعى للحصول على عمل لكن بسبب مشاعرها المضطربة تجد نفسها أنها غير مناسبة للعمل أصلا ولهذا لابد أن تخضع لعملية تطهير لتخليص نفسها من ذلك النوع من المشاعر السلبية القاسية.

وفي إطار المشاهد التي تم ربطها بالذكاء الاصطناعي فإن المخرج عمد إلى مزيج من الصور من أزمنة مختلفة واستخدم خلال ذلك المونتاج بمهارة سواء في الانتقالات أو في المزج بين الأزمنة وإدماج المشاهد مع بعضها، وكل ذلك في سياق شاعري في بعض الأحيان قدمت فيه الممثلة ليا سيدو أداءً متميزا وضعها كما هو ثابت في مسارها الإبداعي في مقدمة نجمات السينما الفرنسية.

وعلاوة على عمليات الانتقال الملفتة للنظر بين الأزمنة نلاحظ الأطوار التي كانت تمر بها الشخصيات وهي التي تتماهى مع مراحلها التاريخية حيث أعطت لكل حقبة خصائصها ومميزاتها المختلفة وهو ما شجع أكثر للوصول إلى أداء تعبيري متميز من خلال تلك الحوارية المتدفقة بين الشخصيتين الرئيسيتين.

يصف الناقد السينمائي في موقع روتين توماتو هذا الفيلم بأنه "قد لا يحقق ما تنشده لكنه مختلف في بنائه وموضوعه، ويستخدم الخيال العلمي لاستكشاف موضوعات مثيرة للاهتمام بطريقة مرضية إلى حد كبير".

فيما صفه الناقد السينمائي في صحيفة الغارديان بأنه فيلم "جريء وأقرب إلى الصدمة، وربما يكون أفضل فيلم لبونيلو حتى الآن. إنه غني وغزير في تفاصيله كما أنه ينطوي على قدر من اللامبالاة الباردة تجاه المشاهد".

أما روجر إيبرت في موقعه الشهير فيشير إلى أن "الفيلم عبارة عن حلم كبير مقلق يبحر في المستقبل والماضي كما أنه جريء وتنبؤي دائما بوجود كارثة وشيكة مع أشادة بأداء غابرييل ".

بشكل عام، أثار الفيلم انقساما ملحوظا بين النقاد، إذ أشاد البعض بجرأته واستكشافه لموضوعات مثيرة للاهتمام، بينما وجده آخرون فيلما مربكا في بنائه.

هذه الآراء النقدية وغيرها ليست مستغربة تجاه فيلم مختلف من ناحية كونه في الظاهر فيلما رومانسيا لكنه في الواقع لا يبقى أسير تلك المشاهد الرومانسية وخاصة العلاقة التي سوف تربط لويس مع غابرييل وكيف توطدت لكنه ما يلبث أن يتسع إلى معالجة سينمائية متعددة الأبعاد، يستكشف الفيلم من خلالها قضايا الانهيار الحضاري وأزمات الفرد المعزول ومعاناته ومكابداته في مجتمع مشغول بيومياته تاركا الأفراد وهم منهمكون في شؤونهم.

وبالعودة إلى نوع الصداقة الحميمة بين غابريل ولويس، التي تقترب من علاقة غرامية، فإننا سوف ننتقل إلى سلسلة من الرمزيات والإحالات ومنها مثلا قيام غابرييل باصطحاب لويس لزيارة المصنع الذي أسسه زوجها لصناعة الدمى وهو ما يشكل امتدادا للحوار بين الاثنين حول قضية العلاقات الإشكالية وخاصة بين المتزوجين ولماذا تزوجت هي أصلا وكيف تأسست علاقتها بزوجها الذي تخلص له والذي تفهّم عشقها للموسيقى وشجعها عليها.

لكن هذه ليست المرة الوحيدة التي يلتقي فيها غابرييل ولويس. فهما يلتقيان في أروقة المجتمع الفرنسي المخملي في عام 1910 وحيث الأجواء الارستقراطية وحياة طبقة النبلاء والنخب الاجتماعية ثم لننتقل إلى عام 2014 إلى لوس أنجلوس، حيث تظهر غابرييل بشخصية الممثلة الواعدة والطموحة ولكنها في ذات الوقت تجسد تلك الشخص المضطربة والذهانية من هنا أسس المخرج نمطين سرديين وتعبيريين يرتبطا ببيئتين مختلفتين تماما وهما البيئة الأمريكية في مقابل البيئة الفرنسية ولربما كان هذا النوع من التداخل السردي هو الأكثر إرباكا بالنسبة للمشاهد.

واقعيا تجاوز المخرج التتابع المنطقي للأحداث والمشاهد بل إنه ذهب بعيدا في إيجاد نوع من الصدمات البصرية المفاجئة بالانتقال العميق والمتشعب بين أزمنة وأماكن بعيدة واستثنائية وهو ما لا يعد مستساغا في الأفلام ذات النمط الكلاسيكي والتقليدي في مقابل الأفلام ذات الطابع التجريبي إلا أن المخرج لم يمعن فيها بل كان عمله انتقائيا في عمليات الانتقال الزمانية والمكانية المتشعبة.

...

سيناريو وإخراج/ بيرتراند بونيلو

مأخوذ عن رواية هنري جيمس

تمثيل/ ليا سيدو، جورج مكاي، جوسلاغي مالاندا

الزمن / ساعتان و25 دقيقة

التقييم/ موقع روتين توماتو 86 من 100، موقع ميتاكريتيك 80 من 100، موقع أي ام دي بي 6.7 من 10

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من خلال

إقرأ أيضاً:

آيها العلماء: بيومين فقط الذكاء الاصطناعي يحل ما عجزتم عنه لـ 10 سنوات!!

 

 طور باحثو إمبريال كوليدج لندن نظرية جديدة حول مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، استغرقت منهم 10 سنوات لإثباتها.

الذكاء الاصطناعي "العالم المساعد" من غوغل تمكن من التوصل إلى نفس النظرية خلال يومين فقط. لا يمكنه الذكاء الاصطناعي تنفيذ التجارب المخبرية، لكنه قد يقلل من سنوات البحث والتكاليف المالية.

تستثمر الحكومة البريطانية ملايين الجنيهات في تطوير استخدامات الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي.

في تطور علمي مذهل، تمكن الذكاء الاصطناعي من حل لغز استغرق العلماء عشر سنوات لفهمه، وذلك خلال يومين فقط.

فقد طورت شركة "غوغل" نظام ذكاء اصطناعي جديد أُطلق عليه اسم "العالم المساعد" (Co-Scientist)، والذي يعمل كمساعد رقمي للباحثين، قادر على اقتراح أفكار ونظريات وتحليل البيانات العلمية.

عقد من الأبحاث يُختصر في يومين عمل فريق من الباحثين في إمبريال كوليدج لندن لأكثر من عقد من الزمن لفهم كيفية اكتساب بعض أنواع البكتيريا القدرة على مقاومة المضادات الحيوية، وهي مشكلة متزايدة تهدد الصحة العامة عالميًا، حيث يُتوقع أن تودي هذه "البكتيريا الخارقة" بحياة الملايين بحلول عام 2050.

عبر استخدام الأساليب البحثية التقليدية، تمكن العلماء من فهم الآلية التي تستخدمها البكتيريا لاكتساب حمض نووي جديد يجعلها أشد فتكًا.

وكانت هذه النتائج في طور النشر في المجلة العلمية المرموقة "سيل" (Cell). لكن بعد انتهاء البحث، قرر الفريق العلمي التعاون مع "غوغل" لاختبار قدرة الذكاء الاصطناعي "العالم المساعد" على اقتراح فرضيات جديدة.

وبتزويده ببيانات قليلة فقط حول الدراسة، طُلب منه تقديم أفكار حول كيفية مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.

نتائج صادمة: الذكاء الاصطناعي يقترح الإجابة الصحيحة فورًا جاءت النتائج مذهلة، إذ تمكن الذكاء الاصطناعي من اقتراح الفرضية الصحيحة كأول إجابة له خلال 48 ساعة فقط، وهي نفس النظرية التي توصل إليها الباحثون بعد سنوات طويلة من العمل المضني.

وعبّر البروفيسور خوسيه بيناديس، أحد قادة البحث في إمبريال كوليدج، عن دهشته قائلاً: "لقد عملنا لسنوات لفهم هذه الظاهرة، ثم جاء الذكاء الاصطناعي وقدم لنا الإجابة الصحيحة مباشرة.

كان الأمر صادمًا." من جانبه، قال الدكتور تياغو دياز دا كوستا، أحد الخبراء المشاركين في البحث: "إنها عشر سنوات من الأبحاث تم تلخيصها خلال يومين فقط بفضل الذكاء الاصطناعي.

" حدود الذكاء الاصطناعي: لا يستطيع إجراء التجارب على الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي على اقتراح الفرضيات الصحيحة، إلا أنه لا يزال غير قادر على تنفيذ التجارب المخبرية لإثبات صحتها، وهي عملية استغرقت سنوات من العمل البشري.

ومع ذلك، فإن توظيفه في المراحل المبكرة من البحث قد يُحدث ثورة في الطريقة التي تُجرى بها الدراسات العلمية.

"نحو 90% من تجاربنا المخبرية عادةً ما تفشل، ولكن لو كنا قد حصلنا على هذه الفرضية منذ البداية، لكنا وفرنا سنوات من العمل، وأموالًا ضخمة من تمويلات البحث العلمي، والتي تأتي غالبًا من أموال دافعي الضرائب"، يقول الدكتور دا كوستا.

الذكاء الاصطناعي قد يعيد تشكيل البحث العلمي تجربة "العالم المساعد" لم تتوقف عند إمبريال كوليدج، إذ جرى اختبار التقنية في جامعة ستانفورد ومركز هيوستن ميثوديست الطبي في الولايات المتحدة.

ومن بين إنجازاته البارزة، تمكن الذكاء الاصطناعي من اقتراح علاج محتمل لتليف الكبد عبر استخدام دواء مخصص لعلاج السرطان، وهو اكتشاف قد يفتح الباب أمام علاجات جديدة للأمراض المستعصية.

وبينما ما زالت التكنولوجيا في مراحلها الأولى، إلا أن الباحثين يرون أنها قد تحدث تحولًا جذريًا في كيفية إجراء الأبحاث العلمية. استثمار حكومي لتعزيز دور الذكاء الاصطناعي تسعى حكومة المملكة المتحدة إلى تعزيز بنيتها التحتية في مجال الذكاء الاصطناعي عبر تحويل الأبحاث الأكاديمية المتقدمة إلى تطبيقات تجارية وعلمية.

فقد خصصت وزارة العلوم والابتكار والتكنولوجيا 4.8 مليون جنيه إسترليني لدعم 23 مشروعًا بحثيًا حول استخدام الذكاء الاصطناعي في العلوم، بما في ذلك مشاريع في جامعات باث وشيفيلد

مقالات مشابهة

  • آيها العلماء: بيومين فقط الذكاء الاصطناعي يحل ما عجزتم عنه لـ 10 سنوات!!
  • آيفون 16 إي .. رهان آبل على الذكاء الاصطناعي بسعر منافس
  • إيلون ماسك يتيح نموذج الذكاء الاصطناعي Grok 3 مجانا لمدة محدودة
  • الذكاء الاصطناعي.. قفزة تقنية في العمليات الدفاعية
  • الفنان أحمد فهمي ضحية الذكاء الاصطناعي
  • وزيرة التخطيط: الاستثمار في الذكاء الاصطناعي من أهم أولويات الدولة
  • الذكاء الاصطناعي يُبكي هنا الزاهد على الهواء
  • أوبن إيه آي تغير تكتيكها في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي
  • الاحتلال استخدم الذكاء الاصطناعي بالقتل في غزة ولبنان
  • الاحتلال استخدم الذكاء الاصطناعي لقتل المدنيين في غزة ولبنان