كل عام وأنت أقل حزنًا وأكثر يقظة!
تاريخ النشر: 16th, June 2024 GMT
ونحن نقول لبعضنا: «كل عام وأنتم بخير»، لنتذكرُ الخذلان التي تفاقم بيننا كعشبة سامّة منذ تسعة أشهر، ففي الجوار إن نجا أحدهم من الموت، لم ينجُ من أنقاض بيته المنهار، هناك حيث ينتظره الموت البطيء، وإن نجا من الأنقاض فقد لا يسلم من البتر، وإن سلم من البتر، فقد لا يتركه الجوع، وإن تركه الجوع فقد لا تمهله الأمراض التي تتركها النفايات ومخلفات الحرب!.
هكذا يتوحشُ السيناريو، لكننا وبصفتنا «متفرجين» لم نستوعب بعد أننا ننظرُ بأمّ أعيننا إلى سردية أوجاع حقيقية، وليست مقطعًا فلميًا ينتهي كعادة أفلام هوليوود بنهاية سعيدة. فمن نراهم اليوم على شاشات هواتفنا قد لا نراهم غدًا.. حيوات تُنتزعُ بهمجية عبثية تبررها سلسلة من الأكاذيب الكبرى!
لكن وإن لبسنا ثيابنا الجديدة اليوم فأين سيذهبُ الغضب العربي الصاخب فينا؟ وإن خرجنا والتقينا بأحبتنا، فمن سينتزع صور أشلاء الأطفال من رؤوسنا، وأسماءهم المكتوبة على أجسادهم ليتم التعرف عليهم فيما لو شوّههم الموت؟ وإن تناولنا حلوى العيد ولحومه وامتلأنا غبطة، فمن سينكر الجوعى المنتظرين بأوعية الطعام الفارغة على أرصفة الحياة؟ وإن ركض أبناؤنا بالعيدية فمن سيتذكر الفتية الذين تنوء أجسادهم الضئيلة تحت أثقال قناني الماء؟ وإن امتدّت الأيدي المخضّبة بالحناء والأساور، فمن سيخطئ الأطراف المبتورة في مكان آخر من الدنيا؟ وإن برقت الأعين المُكحّلة بكحل العيد وزينته فمن سيمسح الدمع الكثيف من أعين المخذولين والمخذولات الجالسين فوق مقابر أحبتهم؟ وإن تجولنا من بيت إلى بيت لنلقي التحية والقبلات فمن سيدركُ وجع النازحين المتنقلين من مكان لآخر، من خيمة لأخرى، من جحيم لآخر، مشيًا على الأقدام، ليبدأوا في كل مرّة من الصفر الكبير؟!
وإن احتمينا بمكيفات التبريد، غاضبين من طقس حار يستنفذ طاقتنا وقوانا، فمن سينظر للذين يؤوبون إلى خيامهم الحارة غير المزودة بالكهرباء، وليس بحوزتهم ثمن أحذية للصغار الذين يمشون حُفاة فوق جحيم التراب؟ وإن ذبحنا الأضاحي من ثيران متوحشة أو جِمال لا يقدر عليها إلا رجال أشداء فمن سيشفقُ على الأيدي التي تجمعُ الطعام الذي اختلط بتراب الأرض؟ من سيشفق على المِعَد التي هضمت أطعمة الحيوانات والمعلبات منتهية الصلاحية؟ من سيترفقُ بالرضّع الذين لا يجدون حليبًا فيشربون الهمّ من أثداء التعب؟!
وإن أشعل أولادنا مفرقعاتهم وضجيج ضحكاتهم، فمن سيقشعر بدنه لانتفاض الأجساد الضئيلة واصطكاك أسنانها عندما تمطر سماءهم الصواريخ ويصبح الموت خبط عشواء؟!
وإن جلسنا آخر الليل لنقصّ على عوائلنا القصص والدعابات المُبهجة، فمن ستجرحه القصّة الأصلية للحرب التي لم تُحكَ بعد على نحو جيد، لم تُرَ، لم تُسمع، فكل ما وصل إلينا هو مجرد أجزاء صغيرة من القصّة المُعذبة؟!
ليس التعذيب وسوء التغذية وحدهما اللذان يؤذيان الرائي، بل الحزن الذي لم يُعطَ وقته ليمضي، إذ لا وقت للحزن في الحرب. الحزن مُحتجز في صدورهم وأعينهم كرهينة.. يسقط الأحبة من بين أيديهم، وعليهم أن يختاروا طوال الوقت بين السير أو السقوط!
لكن مهما حاولوا إقناعنا بأنّ هذه القصص وهذا الموت الكثيف هو محض مخاض طبيعي لنهاية محتومة لكيان مُغتصب، فذلك لا يعني أن نبرره على هذا النحو من اللاإنسانية، لا يعني أن نعتاد غيابهم ومحوهم من الحياة بهذه الصورة العنيفة، بينما نعيش حياتنا دون أن يرفّ لنا جفن، فليس من حقنا نحن الجالسين في رفاهية العيش أن نُنظر لأوجاعهم وخياراتهم على ذلك النحو من السطحية الباهتة، فكيف لنا أن نحكم ونحنُ لم نختبر القصّة المروعة التي اختبروها ولم نعرف الآلام التي لن تعيدهم إلى سابق عهدهم!
أيها الوطن العربي النائم في سبات انتظار المعجزات، كل عام وأنت أقلّ حزنًا وأكثر يقظة.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الجمعة.. العرض العالمي الأول لفيلم فقدان بمهرجان أيام قرطاج السينمائية
يشهد الفيلم المصري السوري القصير فقدان للمخرج السوري رامي القصّاب عرضه العالمي الأول بالدورة الخامسة والثلاثين من مهرجان أيام قرطاج السينمائية بتونس (14 - 21 ديسمبر) لينافس في المسابقة الرسمية لقرطاج الواعدة، وذلك قبيل مشاركته في مهرجان القاهرة للفيلم القصير يوم الجمعة 20 ديسمبر.
فقدان مقتبس عن أحداث حقيقية، تدور أحداثه أثناء رحلة لمجموعة مهاجرين إلى مصر داخل صندوق سيارة دفع رباعي وسط الصحراء، وفي مطلع الفجر وخلال طريق وعرة تعبره السيارة، ترتطم السيارة بإحدى الصخور بقوة ما ينتج عنه فقدان يتغير على إثره كل شيء في رحلتهم.
وفي حديثه عن الفيلم وما دفعه لصنعه، يقول القصّاب " الفن رسالة إنسانية، والسينما هو الوسيط الأقرب إلى القلب. ما أرويه في فيلمي هو قصة حقيقية حدثت عام 2017، سمعت عنها وتأثرت بها بشدة.
وأضاف : هذا ما دفعني بشغف إلى رواية القصة من خلال معالجة سينمائية تُعيد صياغة الموقف، وتستكشف أبعاد الخسارة وأسبابها وآثارها. تحقيق على الطريق وبحث عن الأسباب وتوثيق لأحداث حقيقية قد لا يراها البعض. الحالة النفسية للشخصيات في رحلة كادت تكون الأخيرة لهم، وكادت أن تكون بصيص أمل لحياة جديدة بعيدة عن الفقدان".
الفيلم من تأليف وإخراج رامي القصّاب، وبطولة يارا قاسم وأيمن طعمة وحلا سرداح وعمار شماع ومهند مكي، وإنتاج المعهد العالي للسينما، ومونتاج ميخائيل ميشيل، ومدير تصوير عبد الله عشري، وموسيقى سامي مارتيني.
رامي القصّاب مخرج ومنتج إبداعي وكاتب سيناريو. درس الإخراج السينمائي في المعهد العالي للسينما بالقاهرة. قام بإخراج سلسلة أفلام قصيرة بعنوان "غائب عن الوعي" 2015 والتي تتكون من 3 أفلام روائية قصيرة تتناول موضوعات معاناة اللاجئين والتأثيرات النفسية للحرب على المهاجرين والسوريين المقيمين في الوطن. بالإضافة إلى الفيلم القصير "قلادة" 2019، الفيلم التجريبي القصير القصّاب والقطة 2020، والفيلم القصير الذاكرة 2021.