بالتزامن مع ما تشهده مصر من موجة احترار شديدة وصلت نحو 48 درجة مئوية، تقوم حكومة رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، بحملة جديدة لقطع الأشجار في الشوارع والميادين والحدائق، ما اعتبره سياسيون ومعارضون وخبراء جريمة جديدة بحق الشعب المصري، ما دفع البعض لإطلاق هاشتاغات "#keepegyptgreen"، و"#لا-لقطع-الأشجار".

ونشر متباعون مقاطعا وصورا تكشف اتساع حملة قطع الأشجار وخروجها من القاهرة والجيزة ومحيطهما إلى الإسكندرية والوجه البحري وحتى محافظات الصعيد، فيما أعاد البعض نشر صور لأحياء كاملة قبل قطع الأشجار وبعد إزالتها.








ورغم نفي وزارة الزراعة المصرية إزالة أشجار من حديقة الحيوان والميريلاند والتأكيد على أن ما يجري هو تهذيب لبعض الأشجار، إلا أن متابعين ردوا بنشر العديد من الصور لقطع الأشجار على الطرق في الكثير من المحافظات وفي العاصمة القاهرة.

وقال البعض إن هدف حكومة السيسي من قطع الأشجار جلب العملة الصعبة التي تعاني البلاد شحا كبيرا منها، وذلك عبر بيع الأخشاب لمكامير الفحم ومصانعه ثم تصدير الفحم للخارج، ملمحين إلى أن مصر بزمن السيسي أصبحت واحدة من أكبر 10 دول مُصدرة للفحم.

وأشاروا ثانيا إلى أن قطع الأشجار يمثل "سبوبة" جيدة للمسؤولين في المدن والأحياء والمحافظات، خاصة في ظل عدم وجود رقابة وانتشار الفساد الإداري والحكومي.

كما ألمحوا إلى أن قطع الأشجار يساهم في إحكام المراقبة الأمنية على الشوارع والطرقات، تحسبا لأي تظاهرة ضد النظام، وذلك إلى جانب دفع المصريين على مغادرة القاهرة الكبرى التي يتعدى عدد سكانها 25 مليون نسمة.

يا ترى.. ما هو السبب في هيستيريا قطع الأشجار التي يقوم بها نظام #السيسي في #مصر

■ ساعدنا باختيار إجابة واحدة من هؤلاء????

1- سبوبة من خلال بيع الأخشاب وتصدير الفحم (خاصة وأن مصر بزمن السيسي أصبحت واحدة من أكبر 10 دول مُصدرة للفحم)
2- لاحكام المراقبة الأمنية على الشوارع… pic.twitter.com/2yee2LfQu5 — شيرين عرفة (@shirinarafah) June 13, 2024
"فحم كولومبيا"

لكن المثير، أن تلك الحملة تتزامن بشكل مثير للجدل، مع قرار دولة كولومبيا -شمال غرب قارة أمريكا الجنوبية وتطل على البحر الكاريبي- تعليق تصدير فحم الأخشاب إلى إسرائيل، وسط أحاديث تشير إلى زيادة نسبة تصدير الفحم النباتي المصري لتل أبيب، وتوقعات بأن يكون قطع الأشجار الجاري الآن في مصر لتعويض الاحتلال نقص وارداته من بوغوتا.

وفي 8 حزيران/ يونيو الجاري، أعلن رئيس كولومبيا جوستافو بيترو، تعليق صادرات الفحم لإسرائيل، و"حتى تتوقف الإبادة الجماعية" على قطاع غزة وحتى لا تستخدم الفحم كمصدر للطاقة لصنع الأسلحة، في إجراء هو الثاني بعد قطع علاقة بلاده الدبلوماسية مع تل أبيب الشهر الماضي.



وبلغت واردات الاحتلال الإسرائيلي من مصر من الفحم الخشبي، 4.16 مليون دولار أمريكي خلال عام 2022، وفقا لقاعدة بيانات الأمم المتحدة       "COMTRADE"  للتجارة الدولية، التي أشارت إلى أنه تم تحديث واردات الاحتلال من مصر من الفحم الخشبي، في حزيران/ يونيو الجاري.

‏وفي السياق، أكد الخبير الاقتصادي رئيس مجموعة تكنوقراط مصر" محمود وهبة، أن إسرائيل تستورد فحم الخشب من مصر منذ سنوات، ‏ولأن كولومبيا منعت تصدير الفحم لإسرائيل يتم تقطيع الشجر لتصديره لتل أبيب.


وأكدت الإعلامية المصرية المعارضة دعاء حسن، عبر فضائية "الشرق" هي ومجموعة من النشطاء أن خلف مجزرة قطع الأشجار الجديدة، لواء الجيش المتقاعد عماد درويش، موضحين أن الذي يقوم بتصدير فحم "الفريدة"، إلى إسرائيل هو رجل الأعمال إبراهيم خلاف.

ودرويش، صاحب مصنع "الفريدة" لإنتاج وتصدير الفحم النباتي والفحم المضغوط، بمحافظة القليوبية شمال شرق القاهرة الشهيرة بمكامير الفحم.

أما خلاف، فهو صاحب العلامة التجارية "فحم الخلاف"، وصاحب العلاقات الوثيقة مع مسؤولين إسرائيليين بينهم عمدة تل أبيب والقائد السابق في سلاح الطيران الإسرائيلي، رون حولداي.


ووفق بحث "عربي21"، عبر الإنترنت وجدت أن مؤسسة الرقيبة التجارية "جمرة غضى"، تنشر في صفحتها صورة عبوة خاصة بها من فحم التصدير مكتوب عليها باللغة العبرية، ما يشير إلى احتمالية تصديرها إلى الاحتلال.


صورة عبوة فحم "جمرة غضى"، وفوقها كتابة بالعبرية

وتشتهر مناطق عديدة في مصر بعمل مكامير الفحم المختصة بحرق الأشجار بطريقة معينة وتحويلها إلى فحم أسود "كربون" له استخدامات عديدة وبينها توليد الكهرباء، وصناعة الصلب، والأسمنت، والورق، والأدوية، والبلاستيك، بجانب التدفئة والتسخين والشواء بالمنازل، وشرب النرجيلة بالمقاهي.

معدل إنتاج مصر من الإنتاج العالمي للفحم يبلغ نحو 3بالمئة، فيما تحتل القاهرة المركز الـ11 عالميا في تصدير الفحم.

ووفق مسح "IQAir" السويسري احتلت مصر المرتبة التاسعة عالميا في مؤشر تلوث الهواء، فيما تحل القاهرة بالمركز العاشر بين أكثر عواصم العالم تلوثا، فيما تعد ثالث أكثر المدن تلوثا للهواء بإفريقيا.

"تناقض مصري"

وتأتي حملات قطع الأشجار المتواصلة في مصر في الوقت الذي تبدو فيه حكومة السيسي، أمام دول أوروبا والمنظمات الدولية المهتمة بملف البيئة بأنها تسعى لمكافحة التغيير المناخي، وذلك في إطار الحصول على تمويل لإقامة مشروعات بيئية.

وفي 18 أيار/ مايو الماضي، بدأت مصر مناقشاتها مع صندوق النقد الدولي للحصول على 1.2 مليار دولار للبيئة ضمن حزم الدعم الخاصة بالمؤسسة الدولية، فيما أعلنت وزيرة البيئة ياسمين فؤاد، في تموز/ يوليو الماضي عن حصول مصر على منح وقروض بـ834 مليون دولار لدعم مشروعات بيئية متنوعة.

وكانت مصر قد استضافت مؤتمر المناخ COP 27 عام 2022، وأنشأت المجلس الوطني للتغيرات المناخية، كما أصدرت بالنصـف الثانـي مـن 2020، أول طـرح للسندات الخضـراء لجذب المسـتثمرين للمشاريع البيئية بقيمة 750 مليون دولار.

وأطلقت في أيار/ مايو 2022، "الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050"، ومن بين أهدافها الحفاظ على المساحات الخضراء والتوسع بها، (لامتصاص غـاز ثاني أكسـيد الكربون مـن الهواء، وتقليل شدة درجة الحرارة، وخفض نسبة الانبعاثات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري).

وهنا أكد رئيس حزب الخضر المصري محمد عوض، إنه "وفقا لإلتزامات حكومة مصر في مكافحة التغيير المناخي، فإن قطع الأشجار، سيقطع الدعم المالي".

"جريمة بيئية ومذابح ممنهجة"

وفي حديثه لـ"عربي21"، وصف الخبير الزراعي الدكتور عبدالتواب بركات، حملة قطع الأشجار في مصر، وتأثيرها على مصر والمصريين في ظل توجه عالمي لحماية البيئة وتقليل درجات الحرارة، بـ"الجريمة".

وقال إن تلك "الهجمة التي تنفذها الحكومة ضد الثروة الخضراء في شوارع مصر وعلى جانبي الطرق وفي الحدائق العامة هي جريمة بيئية مكتملة الأركان".

الأستاذ المساعد في مركز البحوث الزراعية بالقاهرة، عبر عن شديد أسفه من أن "وزارة البيئة المنوطة بحماية المسطحات الخضراء تتواطئ مع الحكومة لتبرير المذابح الممنهجة بحق الثروة الشجرية في مصر".

ولفت إلى أن "تبرير الوزارات والمحافظات هذه المذبحة بحق الأشجار، بدعوى التطوير تارة، وبحجة تبطين الترع لتقليل فقد المياه تارة، وبحجة أن الحكومة تغرس شتلات أشجار جديدة محل الأشجار المقطوعة تارة أخرى، هو عذر أقبح من ذنب".

الأكاديمي المصري، أكد أن "التطوير لا يمكن أن يكون سببا لتقطيع الأشجار المزروعة على جانبي الطرق والترع ونهر النيل والحدائق العامة والخاصة".

وأضاف: "ولا يمكن أن تتناسب مكاسب التطوير المزعومة مع خطر تقطيع الأشجار وتأثيراته السلبية على تلوث الهواء الذي يكلف صحة المصريين أكثر من 50 مليار جنيه سنويا، وفق تصريح لوزيرة البيئة".

"وكذلك تسببه في ارتفاع درجات الحرارة والتي سجلت في مصر أعلى المعدلات العالمية منذ اتباع الحكومة سياسة تقطيع الأشجار في سنة 2015".



بركات، قال إن "الحكومة مطالبة بالرد على المواطن الذي يتساءل عن سبب تزامن الهجمة الشرسة على الأشجار الخشبية مع إعلان كولومبيا وقف تصدير الفحم لدولة الكيان الصهيوني، والذي يوفر 30 بالمئة من إنتاج الكهرباء هناك".

وألمح في نهاية حديثه، إلى أن "جريمة مقتل رجل الأعمال الإسرائيلي زيف كيبر، في مدينة الاسكندرية الشهر الماضي، كشفت عن تورط مصر في تسيير أسطول بحري لنقل الخضروات والفواكه المجمدة من مصر إلى دولة الكيان الصهيوني في ظل تراجع الإنتاج المحلي بالتزامن مع العدوان على قطاع غزة".

"المعيار التنموي والمعيار البيئي"

وأكد المستشار الأسبق لوزير البيئة المهندس حسام محرم، لـ"عربي21"، على أهمية وجود الأشجار والمسطحات الخضراء لتحسين البيئة وتنقية الهواء.

وأشار إلى أن "للأشجار والمسطحات الخضراء دور هام في تنقية الهواء وامتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو، والتخفيف من درجات الحرارة، والتقليل من حدة تأثير التغيرات المناخية". داعيا الحكومة لزيادتها بمناطق التجمعات السكنية، "للحفاظ على نقاء الهواء والمظهر الجمالي".

وطالب محرم، بـ"منع قطع الأشجار وإزالة المساحات الخضراء"، ملمحا إلى أنه "في حال الاضطرار يجب مشاركة مختصين في ملفات البيئة والزراعة، لإيجاد البدائل والحلول دون خسارة الأشجار أو الإضرار بالبيئة".

وأكد أن "مجازر الأشجار على الطرق والحدائق والمتنزهات له انعكاسه على المناخ والبيئة"، ملمحا إلى أن كل الدول تحرص على المساحات الخضراء والغطاء النباتي لتقليل تلوث الهواء وامتصاص ثاني أكسيد الكربون والحفاظ على النواحي الجمالية".

ويرى أنه "حال إقدام الدولة على إجراء قطع الأشجار كضرورة ملحة واضطرار لا بديل عنه لابد من أن يقابل ذلك مبررات تنموية"، داعيا في تلك الحالة إلى"عدم اجتثاث الأشجار بالكامل وتقليمها فقط، أو نقلها وزراعتها في مكان آخر".

وأوضح أن "عملية ازالة الأشجار من المفترض أن تخضع أيضا لتحديد التكلفة البيئية لعمليات الإزالة والعائد من تطوير الطريق أو المكان المنزوع منه الأشجار"، ملمحا إلى أن "الاختناقات المروية تزيد الانبعاثات والتلوث ولذ قد يكون العائد مقبول في بعض الأحيان".

وأشار إلى ضرورة أن تدرك الدولة "أهمية المعيار البيئي لتقييم المشروعات"، مؤكدا أنه "أمر لازم"، موضحا أنه "على الدولة ألا تتعامل وفقا للاعتبارات التنموية فقط، وأن تزيل حدائق ومناطق خضراء وتوضع مكانها تجمعات سكنية".

وبشأن ما يثيره البعض من أن حملة قطع الأشجار في مصر هي لتعويض الصادرات الكولومبية من الفحم لاسرائيل، قال المسؤول المصري السابق: "في الحقيقة لا أعرف، وإن كنت قد سمعت من برامج في فضائيات معارضة عن شركة خاصة فيها شركاء لهم علاقة بالكيان المحتل، ولا أعرف مدى صحة هذه المعلومة".

وفي نهاية حديثه، يعتقد أنه "لو صحت هذه المعلومة فإن الموضوع له علاقة بأصحاب مصالح يستغلون انشغال الحكومة حاليا في التعديل الوزراي، وحرب غزة، وسفر رئيس الجمهورية، ومشاغل أخرى، لتمرير عملية قطع الأشجار".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية مصر الفحم الاحتلال مصر الاحتلال فحم الاشجار المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تصدیر الفحم الأشجار فی إلى أن فی مصر مصر من من مصر

إقرأ أيضاً:

كولومبيا ست الأسم

علي أيام الطلب في سبعينات القرن الماضي وحتي ثمانياته في فترة الدراسات العليا، وفي أعقاب حركة التحرر الوطني جمعتنا الدراسة مع مجموعة من الطلاب من بلدان مختلفة أفريقية وآسيوية ولاتينية أو فيما كان يطلق عليها آنذاك بلدان العالم الثالث. كانت نظرتنا كمجموعة من الطلاب السودانيين الي زملائنا الطلبة الآخرين لا تخلو من نظرة دنيوية للطلبة الآسيويين واللاتينيين أما بالنسبة للأفارقة فكانت النظر اليهم نظرة أستعلائية أقرب الي الأسترقاق ، كما تم وصفنا للعرب بالأجلاف تلطفاً بهم . لم نخالط طلاباً من الخليج أو السعودية حيث كان يتم أبتعاثهم الي أمريكا أضافة الي أن التعليم لم يكن منتشراً بهذه الدول . كان الأعتقاد السائد أن بلدانهم تشبه الي حد كبير سوداننا الحبيب ونحن نتفوق علي بعضهم بنيلنا الأستقلال قبلهم . كنا نحمل جواز السفر السوداني ونفتخر بأننا سودانيين وكأن البشرية لم تنجب أمثالنا . نسير في شوارع مدن الدنيا المختلفة مرفوعي الجباه والأنوف . وفي نهاية الأمر أتضح أن جميع هذه الدول بدون أستثناء سبقتنا اليوم في مجال التنمية والتقدم والأستقرار. بعضها أن وقف اليوم في مكانه ولم يعبد طريقاً واحدا فاننا سنحتاج الي قرن كامل لكي نصل الي ما هو عليه . لا أمل لنا باللحاق بهذه الدول فما بالك بدول العالم الأول والثاني والنهضة الأسيوية .
هذا ما كان عليه الحال قبل أن تأتي هذه الحرب التي وقعت علي رؤوسنا وفضحتنا وعرتنا بالكامل حتي أصبحنا نتواري خجلاً أمام سودانيتنا. أصبحنا نتسول ونبيت في الطرقات ونمد يدنا للمارة ونقتل ونغتصب ونبقر بطون الحوامل ونأكل أحشاء المقتول ونتسلي ونلعب بجماجم الضحايا في تراجيديا همجية لم يعرف فيها المقتول من قاتله والقاتل لم يتشرف بمعرفة المقتول مع أن الكل يتبع الشريعة المحمدية التي حرمت قتل النفس المؤمنة . حامل جواز السفر السوداني أصبح لا يسمح له بالدخول حتي في أسرائيل.
في هذا الشهر زرت دولة كولومبيا (ست الأسم) بأمريكا اللاتينية وليس تلك التي تم فض أعتصام القيادة العامة بذريعة أسمها علي يد المجرمين القتلة عبدالفتاح البرهان وحميدتي وكباشي ولجنة البشير الأمنية ، بعد زيارات شملت بلدان عربية وأخري في دول الكاربي . أصبح بحكم العادة ، كلما أزور بلدٍ وأثناء تواجدي به أندب حظي علي هذه الزيارة ويرجع السبب الأساسي في ذلك لمقارنة وضعها بحالنا في السودان . هذه الرحلات أفقدتني طعم المشاهدة والمذاق ورؤية جمال المدن والشوارع وحدائقها رغم فوائد السفر السبعة في رأي الأمام الشافعي "تغرَّبْ عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد" . الملاحظة الأولي في كولومبيا ومدنها السياحية ، رغم دخلوها في حرب أهلية لفترة تزيد عن خمسين عاماً والتي سنتطرق لها في مقال مُفصل الأ أنك حينما تتجول في هذه المدن لا تشعر بأي فرق بينها والمدن الأوربية المختلفة ، لا فرق بينها وبين نيويورك وباريس وتورنتو. معرفتنا بكولومبيا شحيحة أو تكاد تكون معدومة ، كل الذي تلقيناه عنها أما عن طريق سمعتها في كارتيل المخدرات أو الحرب الأهلية التي دخلت فيها أو روايات الكاتب الكولومبي " غابريل غارسيكا ماركيز" الحائز علي جائزة نوبل للآداب وأخيراً بفضل المطربة شاكيرا التي ساعدت في التعريف بها أمد الله في عمرها.
زرنا عاصمة كولومبيا (بوقتا) التي سحرتنا بجمالها ومتاحفها الاثرية الشهيرة وباحاتها في وسط المدينة حيث يتم الرقص اللاتيني بجميع أنواعه ومنها كان خط السير الي مزارع البن الكولومبية في وادي أرمينيا حيث شاهدنا هذه المزارع علي مد البصر. كولومبيا تقع في المرتبة الثالثة عالمياً من حيث أنتاج البن ، تتفوق عليها البرازيل وفيتنام في المرتبة الثانية . في فترة الثمانينيات كان دخل المخدرات في كولومبيا يفوق صادرات البن الكولومبي . وبجانب أشجار البن تجد أشجار الخزيران أضافة الي أشجار الموز. شجرة الخزيران تشبه الي حد كبير شجرة قصب السكر الأ أنها تفوقها طولاً حيث يصل في بعض المناطق طولها الي ما يقارب الخمسين متراً ولها أهمية قصوي في كولومبيا حيث تدخل في البناء والصناعات اليدوية المختلفة. وتتم الأستفادة من كل أجزائها كما هو الحال عندنا في أشجار النخيل .
حقيقة هذا الشعور بالتحضر والنظام ينتابك في اللحظة التي تطأ فيها قدماك مطار بيقوتا العاصمة . أنتهي العهد الذي يقلك فيه البص من سلم الطائرة الي مدخل المطار . من باب الطائرة تجد نفسك أمام سلالم متحركة ويافطات واضحة تؤدي بالواصلين الي المكان الذي يجب عليهم الوقوف به لأستلام حقائبهم ومنها الي الجوازات هذا الترتيب معمول به في كل مطارات الدنيا الصغيرة والكبيرة الأ خرطومنا أستثناءً . الملاحظ أنك تجد المرأة تعمل جنباً الي جنب بجانب الرجل في كل الأعمال بالمطار من صيانة الطائرات الي أستقبالها في المدرجات الي الجوازات الي أدارة الأسواق الحرة وبيع المعروضات المحلية والمستوردة الي اللبس الأنيق والخدمات السريعة في البوفيهات وأروقة المطار المختلفة . لا تجد من يتحدث علي الهاتف ولا من يكون جالساً علي كرسيه حتي يأتي المشتري . الكل في حركة دائبة ، تحس فعلاً أنك في دولة متحضرة . أما بوفيهات الطعام المنتشرة علي أروقة المطار فحدث ولا حرج . علي الحال تذكرت مأكولاتنا السودانية التي يسيل لها لعاب السواح ، التقلية والنعمية التي يمكن أن يودع بها المسافر الأجنبي صالة مطار الخرطوم أذا تم تحضيرها وعرضها بطريقة تليق بمأكولات المطارات الدولية وفي طقس السودان الحار يحبذ أن تكون في صالات وبوفيهات الأسواق الحرة عصائر الكركدي ، والحلو مر ، والتبلدي . الشرط الأساسي أن تخضع هذه الأطعمة والمشروبات الي معاير جودة عالية . ولا غضاضة في أن يُعدل الحلو مر لكي يباع مجففاً أسوة بالبطاطس االذي يجد قبولاً منقطع النظير من المسافرين في كل بقاع العالم .
من الأشياء الملفته للنظر في هذه البلاد حتي أصبحت جزء من ثقافة المواطن ، وضع النفايات سواء في المطارات أو في أماكن السكن في براميل معده لهذا الغرض خصيصاً وبالتفاصيل . أحدها للأواني البلاستيكية والآخر للزجاجية والثالث للمخلافات الورقية . التوعية البيئة بدأت من رياض الأطفال وصولاً الي من هم في سن الشيخوخة . هذه المخلفات تخضع لأعادة تدوير لكي تتم الأستفادة الكلية منها، وكما هو معلوم فرز هذه المخلفات من بعضها عالي التكلفة لذا تقوم الدول بوضع براميل مختلفة لهذه المخلفات لتقليل تكاليف إعادة تصنيعها . لذا تجد هذه البراميل البلاستيكية في الشوارع والحدائق العامة وأمام المطاعم بأختصار في أي مكان يتوجب عليك أن تلقي فيه بمخلافات الطعام أو الشراب . الخرطوم حتي قبل الحرب تحولت الي مصب للنفايات المختلفة حتي أصبح المواطن يخاف أن يسير في شوارعها كي لا تطئ قدماه ما لا يحسب عقباه . أما الولاية الشمالية فتحولت الي مخزون للنفايات النووية . ومن نافلة القول أن نذكر أن كل هذه المدن التي كنا نصف أقطارها بالعالم الثالث بها شوارع مرصوصة ، مضاءة ، السرعة فيها محدودة ، أشارات المرور في كل مفترق طرق ، أشارات للعبور وطرق لراكبي الدرجات ، حدائق عامة مزدهرة ومجهزة لجلوس العائلات حولها ، كما توجد بها أماكن مخصصة لملاعب الأطفال . شرطة المرور ليس من مهامها تنظيم حركة المرور وأنما لمراقبة المخالفات ، حركة المرور تنظمها أشارات تعمل اليكترونياً . تجد بكولومبيا ودول أفريقية أخري أنفاقاً يمتد طولها الي عشرات الكيلومترات لتسهيل حركة المرور . عندما تشاهد كل هذه الإنجازات تلعن فيه اليوم الذي زرت فيه هذا القطر لانه ببساطة سيعري لك حقيقتنا التي تقع في ذيل قائمة الدول .
عاصمتنا الخرطوم مدينة تخلو من المتاحف والآثار، بأستثناء المتحف القومي (سابقاً) ومتحف التاريخ الطبيعي وبيت الخليفة والطابية . لا تجد أثراً لتاريخ بداية هذا القطر ، ولا أثراً للذين ناضلوا وضحوا من أجل أستقلاله ولا لنضال نسائه . قطر بكامله يخلو تماماً من أي تمثال وكأننا أمة بلا تاريخ . نحن لا نحترم ماضينا ولا حتي حاضرنا . جوامعنا التي يمكن أن نجعلها أماكن لزيارة السواح مع العبادة فيها بحالة يرثي لها . يكفي أن تزور دورة المياه بأحدي الجوامع حتي يصيبك الندم والغثيان من أنك زرتها للتعبد .
في هذه الزيارات لبلدان العالم المختلفة شاهدت أحياء قديمة وحتي بعض المدن وأسوارها التي كانت تحميها من المعتدي تحت حماية اليونسكو حيث يمنع فيها التعمير والبناء وتشييد المباني الجديدة ، ولو لا الدمار المتعمد الذي نتج من جراء هذه الحرب لطالبت القائمين علي أمر اليونسكو بجعل أحياء أمدرمان القديمة وسوقها الذي أصبح أنقاضاً تحت حماية اليونسكو .
في أثناء تواجدي بكارتجينا دي أندياس التي تعتبر المدينة الثالثة بكولومبيا ذهبنا الي مطعم لتناول وجبة . الملاحظ أن طاولات المطعم تخلو من دفتر قائمة الطعام وعلي كل طاولة (بار كود) وعن طريقة تلفون الزبون يتم عرض قائمة الطعام علي تلفونه ويأتي النادل الذي له المعرفة بأستعمال الهاتف النقال ليسجل طلبات الزبون حيث يتم الأتصال اليكترونياً بين النادل والمطبخ لتحضير الوجبة . النادل يعرف أن الطلبات تم تحضيرها عن طريق رسائل لهاتفه الجوال . وفي أثناء تناول الوجبة قامت فرقة موسيقية بعزف رقصة الفالس وتم أداؤها من قبل راقصين من الفرقة . لاحقاً علمت أن مصدر رقصة الفالس هي الأرجنتين . علي الحال تذكرت مطعم البربري بالمحطة الوسطي الخرطوم عندما يصيح الجرسون أربعة عدس ، أثنين كبده وواحد شيه وتلاته بلطي . أختفي مطعم البربري وأختفي الجرسون وحتي هذه الطلبات أختفت بسبب التتر الذين جاؤا في ليل بهيم ودمروا العاصمة بعضهم بالطيران والآخرين بالقذائف والدانات وسبقهم من أدعي أنه يريد تطبيق الشريعة الأسلامية بسن قوانين سبتمبر سيئت الصيت . أتي بعضهم بزي عسكري والآخرين بزي مدني الي قصر غردون ولم يقرأوا تاريخ هذا البلد ولا التضحيات التي قُدمت في سبيل أستقلاله ناهيك من المحافظة عليه ولا حديث عن تعميره . دمار في دمار في دمار . وحينها برز السؤال الي متي نستمر أن نعيش في القرون الوسطي ؟
أذا قدر الله أن وضعت هذه الحرب أوزارها يتوجب علي الذين بقوا علي قيد الحياة أن يجعلوا من هذا القطر بلداً يصلح للسياحة كبقية أقطار الدنيا وهذا يتطلب بنية تحتية جديدة . السائح للسودان الجديد يود أن يتعرف علي مشروع الجزيرة حيث الري الأنسيابي ويجد متعة في التجول في مزارع القطن وشرح كيفية زراعة القطن من أين أتت هذه الفكرة ومتي تمت أولي التجارب لزراعة هذا المحصول حتي يتم تصنيعه لبنطلون الجنز الذي يلبسه السائح . هكذا تم تعريفنا عندما زرنا حقول البن بأرمينيا الكولومبية . البرنامج السياحي يتضمن السفر الي جبل مره بعد أن يتم بناء مطار بالقرب منه . زيارة مدينة بورتسودان وبناء مصايف حول البحر الأحمر وتأهيل كادر مناسب من السباحين والغطاسين لمساعدة السائح في التعرف علي كنائز البحر الأحمر . والسياحة بالباخرة علي نهر النيل وتأهيل المدابغ وفتح أماكن بداخل هذه المصانع للمصنوعات الجلدية المختلفة لبيعها للسواح ،كما يشمل برنامج السياحة زيارة مصانع السكر وما حولها . أهرامات المصورات والبجراوية والبركل مناطق ذات قيمة سياحية عالية . سباق الخيل والأبل مع الرقصات الشعبية لهذه القوميات التي تقطن بهذه المناطق مع أضافة مأكولات بلدية كل هذه تعتبر مصادر للعملة الصعبة . بعض الدول صار دخلها من السياحة ينافس صادراتها والسودان ليس أستثناءً. شاهدت كيف تستغل الدول الشمس والقمر في الشروق والغروب وبيع مشاهدتها للسواح . هنالك إبل في بعض هذه الأقطار معدة لركوب السائح عليها لفترة تصل الي عشرين دقيقة بتكلفة خمسين دولاراً ويتسابق عليها السواح ويسبقها حجزاً مُبكراً.
هذه المقترحات التي يمكنها أن تجعل من السودان قطراً صالحاً للسكن والسياحة تتطلب في المقام الأول تفعيل شعار ثورة ديسمبر المجيدة ( العسكر للسكنات والجنجويد ينحل ) وثانياً قيام دولة تفصل بين السياسة والدين ( الدين لله والوطن للجيمع ) وثالثاً علي المتصارعين علي قتل الشعب وأذلاله أن يذهبا الي حيثما يريدان ويتركا لنا الأرض والنيل لتعمير وبناء الوطن .

حامد بشري
19 مارس 2025

hamedbushra6@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • لا تتركيني.. حضنك وطن وعطاؤك عمر لا يعوض
  • كيف رسم الفنانون الأشجار عبر التاريخ؟ .. دراسة تكشف
  • تعليق الرحلات البحرية مجددا بين طريفة وطنجة جراء عاصفة مارتينو
  • من فرنسا.. أول تعليق أوروبي على تهديد إسرائيل بـ"ضم غزة"
  • من فرنسا.. أول تعليق أوروبي على تهديد إسرائيل بـ"ضم غزة"
  • سوريا.. إسرائيل تجدد الغارات وسط إدانات واسعة وأوروبا تدرس تمديد تعليق العقوبات
  • في عيدها.. الأم الفلسطينية بين حزن مقيم وفقد لا يعوض
  • إعدام أشجار يثير استياء مواطنين بكلميم
  • موسم توريد القمح المحلى ..الحكومة رفعت أسعاره 3 مرات منذ 2022.. والسعر الحالي أعلى من المستورد..خبراء: نحتاج سياسة تحفيزية لزيادة المساحات المزروعة وتشجيع التوريد ومواجهة السوق السوداء
  • كولومبيا ست الأسم