حينما نتحدث عن فساد النخب في أفريقيا، فإنما نتحدث عن حالة نموذجية لأشكال تفشي الفساد الهيكلي في دول العالم الثالث، وبخاصة تلك التي غادرت المرحلة الاستعمارية، وتبنت نُظمها المستقلة، تجارب أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها صفحات مشينة في هدر مقدرات الشعوب يفوح منها عفن العصابات، والفساد، والانقلابات والتداول العنيف للسلطة في متوالية لا متناهية من فقدان الأمل لدى الملايين من سكان الدول في القارة السمراء، وتقلبهم في أرجاء الأرض بين نازحين ولاجئين أو مطحونين في أوطانهم، أو ناقمين ومتربصين للوصول إلى السلطة على نحو ما.
ومع عدم دقة التعميم في مثل هذا التوصيف، إلا أنه في أفريقيا تكون استثناءاته قليلة جداً، فيكفي إمعان النظر في تجارب القارة السياسية، من بوكاسا قائد الجيش في أفريقيا الوسطى، والرئيس مدى الحياة، والإمبراطور الذي أرهب أهل بلده، والقذافي صاحب الاشتراكية الخضراء الذي أهدر مليارات الشعب الليبي على شطحاته الخاصة، وعيدي أمين، مساعد الطباخ الذي تحول إلى رجل وحشي وقتل خمسة في المئة من الشعب الأوغندي، وعمر البشير الذي تسبب في جرائم ضد الإنسانية في السودان أودت بحياة مليون إنسان، وجون أكايسو وهو رئيس بلدية في رواندا تسبب في أقل من مئة يوم بمقتل 800 ألف رواندي من أقلية التوتسي وشرد ستة ملايين منهم لاختلاف عرقي، وعشرات الديكتاتوريين والمتسلطين الذين غادروا المشهد السياسي الأفريقي ليأتي غيرهم أشد فتكاً ونهباً لثروات الشعوب الأفريقية، وآخرهم الجنرال عبد الرحمن تياني زعيم الانقلابيين في النيجر، الدولة الأكثر فقراً في العالم مع أنها تتوافر على احتياطيات كبيرة من اليورانيوم والذهب والنفط.
في عام 1995 كنت ضمن المشاركين في دورة متخصصة للدبلوماسيين الشباب في المعهد الألماني للتنمية الدولية في العاصمة الألمانية الموحدة برلين، وكان من بين المشاركين العديد من زملاء المهنة من الدول الأفريقية، وكان يبدو علينا جلياً نحن القادمين من الدول الفقيرة تواضع الحال، إلا أن زميلنا القادم من غينيا كوناكري كان نموذجاً لعارض الأزياء، يتباهى يومياً بصرخات الموضة الباريسية، وكان جميع المشاركين يتأوهون كل صباح إعجاباً وغبطة حينما يدخل ذلك الزميل غرفة الدرس، وأحاديثه الجانبية معنا عن أسعار تلك الأناقة الباريسية.
بعد أسابيع من التعارف، وبعد أن ذاب جليد التكلف بيننا، علمنا أنه مستجد في الخدمة الدبلوماسية، وأنه مدير مكتب وزير الخارجية الجديد في بلاده، الذي وصل إلى المنصب منذ عام مع الانقلاب العسكري الأخير، وأنه نظراً لتكرار الانقلابات في بلده، فهو وجد أنها فرصة سانحة لتحسين وضعه، والاستزادة من خيرات السلطة، فربما بقيت طاقة القدر تلك مفتوحة لأشهر أو لسنوات قبل مجيء انقلاب آخر وطاقم حكومي آخر، لتغادر العناصر الحاكمة حالياً إلى المهجر، في فرنسا على الأرجح، بعد أن تكون قد جمعت ما يكفيها لعيش مريح بعد سنوات الشقاء في أوطانهم.
متوالية العنف
تلك هي متوالية العنف والفشل والانقلابات، وهي حقيقة غالبية الشعوب الأفريقية التي عاشت أسوأ تجربة استعمارية شهدها العالم، ونهب منظم لخيراتها بأيدي أبنائها بعد الاستقلال تحت رعاية مستعمريهم السابقين وحمايتهم، فصارت مناجم الذهب واليورانيوم والنفط وغيرها من ثروات الأرض تجد طريقها إلى خارج البلد وتمر عبر أحياء الصفيح، والجوع، وضياع الأمل. لقد عانت الدول الأفريقية من الديكتاتوريات، والفساد السياسي، والانقلابات العسكرية، والحروب الأهلية والعرقية الدموية، فعلى رغم التطور الذي شهدته بعض تلك الدول بفعل الثروات النفطية والمعدنية، إلا أنه كان تطوراً عمّق حال عدم المساواة.
سبيل الأحزان، اختيارات النخب
تحت لافتة مكافحة الإرث الاستعماري والاستغلال الإمبريالي، لجأت الكثير من النخب الأفريقية عقب نيل الاستقلال إلى الاتحاد السوفياتي، وبنوا برعاية منه نظماً استبدادية قهرية، وحكموا شعوبهم بالحديد والنار، واستمروا في سرقة ثروات أوطانهم تحت شعارات شعبوية اشتراكية براقة، وما إن انهار الاتحاد السوفياتي، وانحسرت سحب الحرب الباردة، تحولت الكثير من هذه الدول إلى مسار الديمقراطيات الناشئة، وانفتحت على الغرب، وتوصيات المؤسسات المالية الدولية، وما كان عليها إلا تغيير ديكور السلطة ومفردات خطابها السياسي.
لقد استبشر الأفارقة خيراً في تسعينيات القرن الماضي بالحديث عن التحولات الديمقراطية على غرار أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ تحرروا من نظم الحزب الواحد التي ظلت جاثمة على صدورهم، ولكن الديمقراطية كانت جذورها محدودة في أفريقيا وكان حضورها في الغالب “مكياجي”. وعادت دول أفريقية عدة التي بدأت بالإصلاحات الديمقراطية، للسقوط في أنماط مختلفة من الديكتاتوريات المدنية والعسكرية.
وفي تقلب بين نظام ونظام، كانت النخب السياسية، تتداول السلطة بالعنف مع النخب العسكرية، التي كانت ترى أنها الأولى بكعكة السلطة من المدنيين. وحينما تطورت تجربة هذه النظم في شراكتها مع الغرب وبدأت ضغوطات حقوق الإنسان والمشاركة السياسية والمجتمع المدني بالتزايد، حنت تلك النخب المدنية والعسكرية، بتراكيبها القبلية والعشائرية إلى زمن الاستقلال بعيداً من التأثيرات الخارجية، وبدأت بالبحث عن شركاء جدد يمولون فسادهم بأقل قدر من الكلف السياسية، من ديمقراطية، وحكم القانون، والمساءلة وغيرها من المفردات التي لا تتفق مع فكر التسلط باعتباره حاضناً للوعي الجمعي في تلك المجتمعات.
في تلك اللحظة التاريخية كانت الصين قد خرجت لتوها من عقود ثلاثة جمعت خلالها ثروات هائلة، وانتقلت إلى المركز الاقتصادي الأول عالمياً، بفعل نظرية العولمة التي حولت كل موارد الغرب نحو الصين وزادت اعتماديته عليها، اعتقاداً من دعاة العولمة بأن نظام اقتصاد السوق سيدفع حتماً نحو نظام ديمقراطي في الصين، ونسي عباقرة الفكر الغربي المدافعون عن العولمة أن الشيوعية لا تتوافق مع الحرية تماماً مثل الماء والزيت.
كانت الصناعات الصينية بحاجة إلى الأسواق، والموارد الأولية، فوجدت الباب مفتوحاً في القارة السمراء للتوسع في كل أرجائها كالنار في الهشيم، تبني شبكات الطرقات، وقصور المؤتمرات الفاخرة، والفنادق، والاستراحات، وقصور النخب السياسية والعسكرية، والمدن الحديثة، مقابل الثروات الأفريقية التي هي بحاجة ماسة إليها لمواصلة نهضة التنين الصيني. وخلفت هذه الهجمة الصينية مليارات الديون التي ستكبل القارة لعقود مقبلة، وهي التزامات لا تعني النخب الحاكمة لأن لسان حالها يقول “اليوم خمر وغداً أمر”، وسيقع على الأجيال القادمة سداد الديون للصين، وحينها تكون هي حتماً قد غادرت المشهد السياسي.
التنين الصيني لم يأبه بالحياة الداخلية للبلدان الأفريقية، ولا يعنيه ما إذا كانت الدولة ديمقراطية أو تسلطية، عسكرية أو مدنية، وهذا كان ولا يزال شأناً محفزاً للنخب الأفريقية التي فتحت الباب على مصراعيه للتنين الصيني، إلا أنه مع مرور بعض الوقت تبين لها أن التنين جاء ليشتري ويبيع، وهو تنين لا يطلق النيران من فيه، ولا يمتلك القوة لدعم النظم أو صد الأذى عنها، فبدأت تلك النخب تخشى غياب الراعي القادر على حمايتها، فتلفتت بحثاً عنه.
زمن فساد “فاغنر”
اقتنصت موسكو تجربة أفريقيا، وقررت العودة إليها مجدداً لمنافسة القوى العظمى في نهب دول القارة، وكانت التجربة الصينية شاخصة أمامها بقصورها الأمني، ليظهر في المشهد الأفريقي اختراع “فاغنر” الروسية، وهي عصابات مسلحة تساعد النخب الأفريقية سواء كانت مدنية أو عسكرية على النهب، وتحميها من غضب شعوبها في حال طفح الكيل، ولا تعنيها القيم الإنسانية، وحقوق الإنسان، بل هي على استعداد لارتكاب أبشع الجرائم خلف لافتة الشركات الخاصة البعيدة من مسؤولية الدولة الروسية.
واليوم تنتشر “فاغنر” في العديد من الدول الأفريقية تنقل الذهب واليورانيوم وغيرهما من المعادن الثمينة إلى تجار الأسواق السوداء المعروفين، وتقوم بدعم طرف في الصراع مثلما يحدث في السودان، وتحمي الديكتاتوريين من شعوبهم مثلما تقود الحرس الرئاسي في أفريقيا الوسطى، أو تحت مسمى المساهمة في مكافحة الإرهاب بمقابل، ويزداد الطلب عليها فقد ظهرت المناشدات جلياً من خلال رفع الأعلام الروسية، لجلبها لدعم انقلاب الجنرال عبد الرحمن تياني خلال التظاهرات التي نظمها العسكر دعماً لهم والتي شهدتها عاصمة النيجر نيامي، خلال الأسبوع الماضي.
أفريقيا على موعد مع سقوط آخر، وشعوبها على موعد مع مزيد من الإفقار والجوع، ومواطنوها على موعد مع المزيد من الشتات والقهر، فمتى تتعلم أفريقيا، ومتى نتعلم منها، فهي الأصل ومنها كانت البداية.
*خالد اليماني: وزير الخارجية اليمني الأسبق
*نشرت أولاً في “اندبندت عربية”
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
شاهد أيضاً إغلاق اخترنا لكم
مقال ممتاز موقع ديفا اكسبرت الطبي...
مش مقتنع بالخبر احسه دعاية على المسلمين هناك خصوصا ان الخبر...
تحليل رائع موقع ديفا اكسبرت الطبي...
[أذلة البترول العربى] . . المملكة العربية السعودية قوة عربية...
معي محل عطور. فيـ صنعاٵ...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: فی أفریقیا فی الیمن إلا أن
إقرأ أيضاً:
مصر بين إفلاس استراتيجي وخطة إعادة تدوير الدمار الفلسطيني
حين يصبح الضعف قوة، والاستقلال تبعية، والإعمار إعادة احتلال، يكون تقسيم الشعب بعد قرن من تقسيم الأرض، هذا ما يجسده زمن تُرسم فيه الحدود بموازين القوة لا بالخرائط، وتُعاد صياغة مصائر الشعوب خلف الأبواب المغلقة، حيث تقف مصر اليوم عند مفترق طرق بين أزمتها الداخلية، ودورها في إعادة تدوير الموت والدمار إعمار غزة، في مشهد يطرح تساؤلات جوهرية:
كيف لدولة غارقة في ديونها، تحت وطأة اقتصادٍ متعثر، وسلطةٍ عسكرية تُحكم قبضتها على مقدرات البلاد، أن تتحمل مسؤولية مشروع إعادة إعمار إنسان وبنيان، وطن ودولة؟
هل إعادة الإعمار مشروعٌ إنساني بحت، أم أنه جزء من معادلة إقليمية أوسع، تُعاد فيها هندسة الجغرافيا السياسية، وفق قواعد تُبقي الفلسطيني مجرد "مستفيد اقتصادي"، بلا سيادة ولا قرار؟
ولماذا تتزامن التحركات المصرية في هذا الملف مع لقاءاتٍ مغلقة بين القيادة المصرية ورئاسة الكونغرس العالمي، حيث تُوضع الخطط وتُرسم السياسات بعيدا عن أعين الشعوب، منذ 2020 حيث اللقاء الأول، إلى 2024-2025 قبل الإعلان عن الخطة؟
إن إعادة الإعمار، كما تُطرح اليوم، ليست إلا إعادة تدويرٍ للدمار، حيث يُعاد بناء المباني، لكن تُهدم الإرادة، ويُرمم الحجر، لكن يُحاصر الإنسان، في عمليةٍ لا تهدف إلى تحقيق العدالة، بل إلى إعادة ضبط المشهد الفلسطيني وفق مصالح قوى إقليمية ودولية؛ ترى في غزة ملفا أمنيا واقتصاديا أكثر منه قضية تحرر وطني، محوره الإنسان الفلسطيني، ومرتكزاته الوطن الفلسطيني، وعمقه التاريخ الماضي والحاضر والمستقبل!
إعادة الإعمار، كما تُطرح اليوم، ليست إلا إعادة تدويرٍ للدمار، حيث يُعاد بناء المباني، لكن تُهدم الإرادة، ويُرمم الحجر، لكن يُحاصر الإنسان، في عمليةٍ لا تهدف إلى تحقيق العدالة، بل إلى إعادة ضبط المشهد الفلسطيني وفق مصالح قوى إقليمية ودولية؛ ترى في غزة ملفا أمنيا واقتصاديا أكثر منه قضية تحرر وطني، محوره الإنسان الفلسطيني، ومرتكزاته الوطن الفلسطيني
استدلال.. مصر من أزمةٍ داخلية إلى دورٍ إقليمي مشروط
1- اقتصاد متهالك بين الديون والمشاريع غير المنتجة
الاقتصاد المصري اليوم يقف على حافة الانهيار، حيث بلغت الديون الخارجية 165.4 مليار دولار بنهاية الربع الأول من عام 2023، بعدما كانت 43 مليارا فقط في عام 2013، مما يعني أن البلاد أصبحت رهينة للديون، إذ تُوجَّه معظم الإيرادات لسداد الفوائد، بدلا من الاستثمار في التنمية.
أما الجنيه المصري، فقد فَقَدَ أكثر من 60 في المئة من قيمته خلال العام الماضي، مما أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم، وأدى إلى سحق الطبقة المتوسطة تحت وطأة الغلاء، بينما تتفاقم البطالة، ويتزايد العجز التجاري، وتتآكل القدرة الشرائية للمواطنين.
في الوقت نفسه، تنفق الدولة المليارات على مشاريع مثل العاصمة الإدارية الجديدة، التي لم تحقق أي عائدٍ اقتصادي يُذكر، بينما تُترك القطاعات الإنتاجية الأساسية مثل الزراعة والصناعة في حالةٍ من التراجع المستمر.
فكيف لدولةٍ في هذا الوضع الذي تختلط فيه الصناديق الخاصة بالميزانية العسكرية، وتختفي ميزانية الدولة في عجز مزمن يعيقها عن تحمل تكاليف إعادة تأهيل منظومة التعليم، ومنظومة الصحة، ومنظومة الإسكان، ومنظومة الاقتصاد برمته؛ أن تتحمل أو تدير تكلفة إعادة إعمار دولة كغزة والضفة (دولة فلسطين)؟
2- سلطةٌ عسكرية تُحكم قبضتها على الاقتصاد والسياسة
إذا كان الاقتصاد يعاني، فالسياسة ليست أفضل حالا.
• يُمسك النظام الحاكم بمفاصل الدولة، حيث تم تعديل الدستور في 2019 لتمديد فترة حكم الرئيس حتى 2030، بينما تم القضاء على أي شكلٍ من أشكال المعارضة السياسية.
• أصبح الجيش هو الفاعل الاقتصادي الأكبر، يسيطر على قطاعات البناء والتجارة والطاقة، ويُقصي القطاع الخاص، وهو ما أدى إلى تراجع الاستثمارات، وتزايد نفور رؤوس الأموال الأجنبية.
• في ظل هذا المناخ، تُدار المشاريع الاقتصادية والسياسية وفق رؤية لا تخدم إلا النظام الحاكم، بينما يُترك المواطن ليواجه أعباء المعيشة متنامية.
3- مجتمعٌ على حافة الانفجار الاجتماعي
• الفقر يتزايد، حيث يعيش أكثر من 30 في المئة من المصريين تحت خط الفقر، مع انهيار منظومات الصحة والتعليم والخدمات العامة.
• البطالة ترتفع، خاصة بين الشباب، الذين باتوا يشعرون بانعدام الأمل في المستقبل.
• القمع الأمني بلغ ذروته، حيث يتم إسكات أي صوتٍ معارض بالقوة، بينما يُراقب الشعب عبر أنظمة أمنية رقمية، تجعل أي محاولةٍ للاعتراض محفوفة بالمخاطر.
لكن التاريخ يُثبت أن الأزمات الاقتصادية العميقة لا يمكن احتواؤها بالقمع إلى الأبد، وأن الانفجار الاجتماعي قد يكون مسألة وقت، لا أكثر، وهو ما يجعل إعادة تدوير الدمار الاقتصادي يطال الجوار الفلسطيني.
استشراف.. إعادة إعمار غزة هي إعادة إنتاج السيطرة
1- "فصل غزة عن الضفة".. وتكريس التجزئة السياسية
بدلا من أن يكون الإعمار جزءا من مشروعٍ شامل لدعم فلسطين ككل، يُستخدم اليوم كأداةٍ لفصل غزة عن الضفة الغربية، وتحويلها إلى كيان إداري مستقل، يُدار عبر ترتيبات اقتصادية وأمنية تفرضها قوى خارجية، بينما تُترك الضفة تحت سيطرة مشاريع التوسع العمراني، التي تُغير طبيعة الأرض وتُعيد رسم حدودها بشكلٍ ممنهج.
2- "الإعمار المشروط" السيطرة عبر الاقتصاد
• لا يتم تقديم الإعمار كحقٍ طبيعي للفلسطينيين، بل كـ"حافز" بشروطٍ واضحة: عدم اتخاذ أي خطواتٍ تُعيد الاستقلال الحقيقي للقطاع، وقبول ترتيباتٍ أمنية تُحكم السيطرة على غزة.
لا يتم تقديم الإعمار كحقٍ طبيعي للفلسطينيين، بل كـ"حافز" بشروطٍ واضحة: عدم اتخاذ أي خطواتٍ تُعيد الاستقلال الحقيقي للقطاع، وقبول ترتيباتٍ أمنية تُحكم السيطرة على غزة
• هكذا يصبح الإعمار ليس وسيلة لإعادة الحياة، بل أداة لفرض واقعٍ سياسي جديد، يجعل الفلسطينيين تحت رقابةٍ دائمة، ويُفقدهم أي قدرةٍ على تقرير مصيرهم بأنفسهم.
3- مصر ليست وسيطا.. بل منفذا للخطة
• الدور المصري في هذا المشروع ليس دورا وطنيا مستقلا، بل هو تنفيذٌ لخططٍ تم وضعها مسبقا، خلال لقاءات مغلقة بين القيادة المصرية والكونغرس العالمي، وكذلك الإدارة الأمريكية، حيث وضعت الخطط، ورسمت السياسات بعيدا عن أعين الشعوب.
• هذه اللقاءات التي بدأت من 2020 واستمرت لسنوات، والتي ازدادت كثافتها قبل إعلان خطة الإعمار، لم تكن سوى جزءٍ من استراتيجية تهدف إلى إعادة ضبط الوضع الفلسطيني، وفق رؤية تُبقي غزة كيانا إداريا بلا سيادة، وتُحول القضية الفلسطينية إلى "ملف اقتصادي"، لا ملفا تحرريا.
وفي خضم الأحداث والمعطيات التخطيطية، وجب علينا التدبر في النكبات المتواصلة بين مصر وفلسطين. فمنذ نكبة 1948، لم تكن مصر مجرد طرفٍ متعاطف مع القضية الفلسطينية، بل كانت جزءا من المعادلة، وأحيانا شريكا في تعقيدها.
• بعد نكبة 1948، فرضت مصر وصايتها على غزة، بدلا من تمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم بأنفسهم
• في نكسة 1967، خسرت مصر سيناء، وخسر الفلسطينيون الضفة وغزة، وبينما استعادت مصر أرضها عام 1979، لم يكن للفلسطينيين سوى وعودٍ لم تتحقق.
• في كامب ديفيد 1979، خرجت مصر رسميا من معادلة الصراع، وتم تكريس واقعٍ جديد، جعل الفلسطينيين في مواجهة مصيرهم وحدهم.
• في 1993، دعم النظام المصري اتفاق أوسلو، الذي لم يكن سوى مقدمةٍ لتقسيم الأرض، وتحويل الحكم الفلسطيني إلى إدارةٍ محدودة الصلاحيات.
• منذ 2007، كانت مصر طرفا في حصار غزة، حيث أُغلقت المعابر، وتم التحكم في دخول الغذاء والدواء، مما جعل القطاع رهينة للمساعدات المشروطة
واليوم، تستمر هذه النكبات، لكن بأساليب أكثر تعقيدا موضوعيه، وأكثر "أناقة شكلية".
في كلمات.. الإنسان أو الموت
إن كان جيفارا قد أعلنها الوطن أو الموت، فالمواطن الفلسطيني جسّد بملحمة صمود وصعود، رسالة مفادها الإنسان والإنسانية أو الموت، فبين الاستقلال والتبعية، وبين التحرر والخضوع، يقف الفلسطيني اليوم أمام خيارات:
• رفض أي إعمارٍ مشروط، يُستخدم كأداةٍ لتقييد حريته، وتحويله إلى كيانٍ اقتصادي بلا سيادة.
• إعادة تدويل القضية الفلسطينية، وفضح المحاولات التي تهدف إلى تحويلها من قضية تحرر، إلى مجرد ملفٍ إداري.
• مواجهة مخطط فصل غزة عن الضفة، ورفض أي حلولٍ تُعيد إنتاج الاحتلال، سواء على جزء أو على كامل التراب الفلسطيني.
• إعلانها مدوية: لا لدبلوماسية الغضب، ومفرداتها المهينة حيث الشجب والاستنكار والإدارة والمطالبة والسعي والحرص والحث والرفض، إلى استراتيجية إحقاق حق وحقوق، وخطط بكل مستوياتها، وبرامج عمل دولية تنفيذية لإعلان الدولة الفلسطينية.
وليعلم العالم أن فلسطين ليست مشروعا اقتصاديا، ولا ملفا إداريا، بل قضية تحرر، لن تُحسم إلا بإرادة أهلها، لا بإعمارٍ مشروط، ولا بخططٍ تُرسم في الخفاء.