هكذا أثّرت الأغاني التراثية.. في هوية الأناشيد الوطنية الفلسطينية
تاريخ النشر: 15th, June 2024 GMT
كيف دخلت المعاني الوطنية إلى الأغنية التراثية الفلسطينية، وحوّلتها إلى أناشيد وطنية؟!
زارني في عام ٢٠١٠ أستاذ جامعي سويدي، يبحث في تطور الأغاني الوطنية. فلخصتُ له حالة الأغاني الوطنية الفلسطينية، بمقطع شهير منذ ثورة ١٩٣٦، نُسِب إلى الشاعر والقائد الوطني نوح إبراهيم، يقول فيه:
كنا نغني بالأعراس .
.. جفرا عتابا ودحية
واليوم نغني برصاص ... عالجهادية الجهادية
ويُفيد هذا المقطع عن غزارة الإنتاج التراثي الفلسطيني من جهة، وتحويل هذا التراث إلى أناشيد ثورية..
ويؤشر أيضاً إلى دور الفلاحين في الثورات ودور تراثهم الغزير فيها. وأن الثورات لم تغفل عن أغانيها المنبعثة من الأرض والبيئة، من حيث انبعثت الثورات المتتابعة.
ولا يخفى على أحد أن الجفرا والعتابا والدّحّيّة، هي أنماط أغاني فلسطينية، تناظر شهرتها أغاني يا ظريف الطول والدلعونا والميجنا والزجل والشروقي وغيرها..
ومنذ بواكير النضال الفلسطيني، لم تغِب الهوية الفلسطينية بما تمثله وبما تتكون منه (الأرض والشعب واللغة والدين) عن الأغاني الوطنية الفلسطينية. فقد أرّخت هذه الأغاني فعلياً للحياة الوطنية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وقبله الاستعمار الغربي.
وقد برز مساران من الشعر الوطني في تلك الفترة ضمن خط الكفاح الفلسطيني، وقادهما رجلان من رجال الثورة:
الشعر الفصيح، وكان على رأسهم الشاعر عبد الرحيم محمود (ابو الطيب)، الذي لم يكتب الشعر الشعبي.
الشعر الشعبي، وكان على رأسهم نوح إبراهيم، الذي انطلق وتبعه عدد كبير من الشعراء، لم يبرزوا جميعاً، لكن استمرارية الشعر الشعبي المنطلق من التراث كانت بهم، وعلى رأسهم: أبو سعيد الحطيني ويوسف حسون.
وبالنظر إلى الشعر الشعبي الفلسطيني المنبثق من التراث، يتبين لنا أن مرحلة التأسيس بدأت قبل النكبة، حين كانت الثورة تنطلق من الريف، وكان رجالها من الفلاحين، فكانت تصعد وتخفت قوتها مع الأحداث. بل كانت تخدم الأحداث وتساهم في تثبيت قوة الثورة وتأثيرها. وليست قصة الحطّة والطربوش ببعيدة، حيث استخدمت الثورة الأغنية التراثية مع تغيير الكلمات لِحثّ الناس على اعتمار الحطّة بدلاً من الطربوش لحماية رجال الثورة من الإنجليز، فقال الشاعر:
حطّة وعقال بعشر قروش . .. والنذل لابس طربوش
فكان تأثيرها الشعبي والعسكري والأمني كبيراً أثناء الثورة الكبرى (1936- 1939).
بدأ انخراط المعاني الثورية في الأغاني التراثية منذ بدايات الثورة في العشرينيات، بعد أن كانت الأغاني تقتصر على المواسم والحصاد والعادات الاجتماعية كالزواج والوفيات والولادات وغيرها.. وقد شجّع على هذا الأمر وجود خط شعري فصيح ومُوازٍ لخط الشعر الشعبي، يقوده مجموعة من قادة الوعي الوطني والروح الثورية على رأسهم شاعر فلسطين إبراهيم طوقان.
وكانت المعاني الوطنية في الثورة الأولى بين 1920 و 1934 تغطي معاني الثورة الشعبية والهتافات التي تنتشر في المظاهرات الحاشدة التي كانت تدعو إليها القيادات الوطنية.. وكانت ترثي الشهداء الذين سقطوا في التظاهرات أو الإعدامات أو نزلاء السجون البريطانية، وكانت تركز على الحقوق، من دون التطرّق إلى المقاومة المسلحة.
بعد العام 1934، وفي بدايات حركة الشيخ عز الدين القسام، انطلقت الأغاني الشعبية والتراثية إلى مضمار جديد، هو مضمار التحفيز على المقاومة ورفض الاحتلال وخصوصاً بين عنصر الشباب والعمال والفقراء.. وحققت انتشاراً واسعاً بين الأوساط الشعبية.
ومما انتشر في تلك الفترة، الموال الشروقي الرائع للأسير عوض، الذي وُجد بعد إعدامه مكتوباً على حائط زنزانته:
يا ليل خلي الأسير تيكمّل نواحُو
رايح يفيق الفجر ويرفرف جناحو
تـَ يْمرجِح المشنوق من هبة رياحو
وعيون بالزنازين بالسرّ ما باحوا
وفي أثناء الثورة الكبرى (1936 -1939) تحررت الأغاني من معانيها الأولى، وانطلقت بقوة في المعاني الثورية وتمجيد السلاح والشهداء والقادة، وكانت تلك المرحلة فاصلة في الاتجاه الوطني للأغاني الفلسطينية مثل "يا ظريف الطول" و "جابوا العريس" وغيرها، حيث سيطرت المعاني الوطنية على معظم الأغاني الفلسطينية، حسب كتاب غسان كنفاني "ثورة 36- 39 في فلسطين".
وعلى سبيل المثال لا الحصر، أغنية "هز الرمح"، ومطلعها:
هزّ الرمح بعود الزين .. وانتو يا نشامي منين
نحنا شبابك فلسطين .. والنعم والنعمتين
وقد أضاف لها الفنانون بعد معركة بيت أمرين (شمال نابلس)، فقالوا:
في بلعا ووادي التفاح .. ريح الثورة يا عالم فاح
واستشهد فيها الفلاح .. حَطّ السِّنجة في المرتين (بندقية)
في هذه المعركة الفاصلة التي دامت عشر ساعات بين القوات البريطانية ورجال الثورة في نابلس، وأسقطوا فيها طائرتين بريطانيتين.
وفي تمجيد الشهداء، قالوا:
طلّت البارودة والسبع مما طلّ
يا بوز البارودة من دمّه مبتل
حتى أن السحجة في الأعراس صارت:
ويل يللي نحاربه .. بالسيف نقطع شاربه
يابو العريس لا تهتم .. احنا شرّابين الدم
وما لبثت أن همدت الأناشيد الثورية بعد الهدوء الذي عمّ المنطقة بسبب الكتاب الأبيض والاتفاق مع البريطانيين على تحقيق المطالب، وانشغال العالم بالحرب العالمية الثانية.. حتى بدأت تظهر إرهاصات نكبة 1948، فاستعاد الناس روح ثورة 1936، وقامت الثورة من جديد وقدمت الكثير من الشهداء الذين رثاهم الشعراء.
وحين حلت النكبة على الفلسطينيين، تغيرت الأغاني من الثورة إلى الحسرة والشوق والحنين..
والأغاني الثورية بعد النكبة لها بحث مستقل، سنكتبه قريباً إن شاء الله..
*كاتب وشاعر فلسطيني
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير تقارير الفلسطينية الأغاني دور الهوية فلسطين أغاني هوية دور تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير تقارير سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الوطنیة الفلسطینیة الشعر الشعبی على رأسهم
إقرأ أيضاً:
الزينة التراثية الشعبية في رمضان بين الأمس وتقنيات اليوم
دمشق-سانا
الفوانيس والقناديل التي تنير الطرقات والبيوت أحد أبرز مظاهر احتفال السوريين بقدوم شهر رمضان المبارك، وعلى مر السنين تغيرت الأشكال وتنوعت مع تطور التصاميم والتقنيات، لكنها ظلت تراثاً أصيلاً ورثوه عن أجدادهم حاضراً في تفاصيل يومياتهم خلال الشهر الفضيل، وحمل هذا العام فرحةً مضاعفة مع الخلاص من النظام البائد.
فانوس رمضان الذي يعد أحد أهم علامات الزينة، بدأ المسلمون باستخدامه وفق الباحثة في التراث الدكتورة نجلاء الخضراء، حين جاء الصحابي تميم بن أوس من الشام إلى المدينة المنورة حاملاً معه قناديل وزيتاً، أضاء فيها مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي عندما خرج إلى المسجد في تلك الليلة وجده يضيء بشدة فقال: “من فعل هذا”؟ قالوا: تميم يا رسول الله فقال: “نورت الإسلام، نور الله عليك في الدنيا والآخرة”.
وتوضح الدكتورة الخضراء أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بإنارة الجوامع وتزيينها بالقناديل بدءاً من اليوم الأول من رمضان حتى يتسنى للمسلمين إقامة صلاة التراويح وإحياء شعائرهم الدينية، وتطورت الإضاءة من أسرجة بسيطة تشعل بالزيت إلى قناديل مزخرفة بلورية متقنة الصنع، علقت بعضها على جدار الكعبة فيما بعد.
وفي العصر العباسي أمر الخليفة المأمون بالإكثار من وضع القناديل المزخرفة في المساجد، وحث الناس على إضاءتها في الأزقة وأمام البيوت في شهر رمضان المبارك، وتفنن الحرفيون بصناعة القناديل وتشكيلاتها، ولا تزال المصابيح القديمة تزين جدران بعض المساجد القديمة وأسقفها إلى اليوم.
وحول ارتباط الفوانيس بالتراث السوري في رمضان تبين الدكتورة الخضراء أنه تم استخدامها علامة تعريفية وقت الفطور والسحور في الريف، بسبب بعد المنازل عن بعضها وانتشارها على مساحات واسعة، فكانت تشعل من أذان المغرب إلى وقت السحور.
وتشير إلى أنه في حارات الشام والأماكن المكتظة كان الدومري وهو الرجل الذي يشعل القناديل في الأزقة ليلاً يضيف خلال رمضان عدداً من الفوانيس لترتدي الحارات والأسواق والمقاهي حلتها الجديدة، فكانت الأضواء تتصل بين المآذن والساحات وأبواب المنازل والشرفات، لتتألق وكأنها نجوم السماء وقد أنارت الأفق.
ومن التراث المرتبط برمضان أيضاً رمزا النجمة والهلال، حيث تلفت الدكتورة الخضراء إلى أنهما يعبران عن بداية الشهر القمري ونهايته، إضافة إلى اللافتات التي تُكتب عليها عبارات المباركة برمضان وتذكير الناس بقيمه السامية، مع الزخارف الإسلامية المطرزة على الأقمشة وأغطية الكراسي والطاولات.
وعن تطور زينة رمضان في وقتنا الحالي تفيد الدكتورة الخضراء بأنها أصبحت متنوعة تستخدم فيها الألوان والزخارف الفنية الحديثة، كما استُخدمت الإضاءة الذكية التي يتم التحكم بها عن طريق الجوال، ما جعل رموز الشهر الفضيل مزيجاً من التقاليد القديمة والعناصر الجديدة.
وترى الباحثة في التراث أن زينة شهر رمضان تعكس أجواء روحانية، وتغذي الذاكرة الشعبية وتساعد في الحفاظ على التراث الثقافي الديني، كما أن مشاركة الأطفال في صناعتها وتعليقها تغرس فيهم قيم التعاون والإبداع، وتعودهم على الاحتفال بالشهر الكريم والشعور بخصوصيته.
وتذكر أنه في الظروف القاسية التي مر بها الشعب السوري خلال سنوات الثورة، تراجع استخدام الزينة على الشرفات ومداخل البيوت، بينما عمدت بعض ربات البيوت إلى تزيين المنازل من الداخل بصورة بسيطة ليشعر الأطفال بفرحة رمضان، التي باتت منقوصة بعد أن حرم النظام البائد السوريين من المظاهر الرمضانية الشعبية كالمسحر ومدفع رمضان والحكواتي وغيرها من الخصوصية الثقافية الدينية.
وتقول الدكتورة الخضراء: إن شهر رمضان المبارك يأتي هذا العام بطعم الحرية، محملاً بالخير والأمل بمستقبل أفضل، حيث زينت المباني والشوارع احتفالاً بالشهر الفضيل وبالتحرير والخلاص من ظلم النظام البائد واستبداده، وعودة المهجرين والثوار لتجتمع العائلات مجدداً على مائدة الإفطار وتستعيد سهراتها وجلساتها الرمضانية.
وتختم الدكتورة الباحثة في التراث حديثها بالتأكيد أنه لطالما عبر الشعب السوري عن تمسكه بقيمه الدينية والثقافية وحافظ على طقوسه وتقاليده الرمضانية ببساطتها ومفاهيمها التي تحمل الفرحة بقدوم الشهر الكريم وروحانياته المباركة مهما تغيرت وتطورت، ورسخ فضائل الشهر المتمثلة بالعبادات والمعاملة الحسنة وتصفية النفوس والسمو على الخلافات، لتكون بمجملها الزينة الإنسانية التي تعكس الشخصية التي يتحلى بها المسلمون.