«أثر» بثينة .. عندما يصبح «الشخصيّ» عامًّا
تاريخ النشر: 15th, June 2024 GMT
كتبتْ الشاعرة المصرية إيمان مرسال في كتابها «في أثر عنايات الزيات» أنه يحدث أحيانًا أن يهز كياننا عمل إبداعي، دون أن يعني ذلك أنه عمل غير مسبوق في تاريخ الإبداع، أو أنه أفضل ما تلقينا من إبداعات في حياتنا، بل «إنها الصدف العمياء التي تبعث لك رسالة تساعدك على فهم ما تمرّ به، في اللحظة التي تحتاجها تمامًا».
يتتبع الفيلم الذي تصنفه الجزيرة «فيلما وثائقيا شخصيا» صدى الخسارة العميقة التي تركتها وفاة جدّ المخرجة في أرواح أسرته الصغيرة المؤلفة من زوجته وابنيه، ويسرد تأملاتهم وهم يسترجعون حبّهم له وذكرياتهم معه، متأملين اللحظات الحميمة والأوقات الجميلة التي قضوها معه، وإذا ما بحثنا في دقائقه الثماني عن قصة مشوّقة أو حبكة درامية فلن نجد، إذْ إن ما يسرده هو حكاية عادية تتكرر في حياتنا آلاف المرات، وأعني بها حكاية فقْد عزيز، ولكنه مع ذلك قادرٌ على التسرّب في دواخل مشاهديه شيئا فشيئا، إلى أن يجدوا أنفسهم منغمسين في هذه المشاعر الإنسانية ومتأثرين بها، وهو ما يذكّر بعبارة الشاعر الإنجليزي كوليردج التي فحواها أن أي حياة، مهما كانت عادية، ستكون ممتعة إذا ما رُوِيَتْ بصدق.
أعترف، أنني في مشاهدتي الأولى للفيلم -التي كانت قبل وفاة خالي بيوم- كنتُ أكثر حيادية في التعاطي مع موضوعه الذي بدا لي أقل من عادي، فهو أقرب إلى مرثية عاطفية من فتاة لجدّها الذي تحب، وكنتُ أقول لنفسي إن سبب فوزه هو الأماكن الطبيعية الخلابة وزوايا التصوير الفاتنة التي اختارتها مخرجتُه، دارسة الفنون الإبداعية، تخصص صناعة الأفلام، في جامعة ويسكونسن ميلواكي الأمريكية، إضافة إلى طبيعية وتلقائية شخصيات الفيلم؛ الجدة فاطمة، وابنيها ناصر (والد المخرجة) وبدر. لكنني بعد أن أعدتُ مشاهدته وأنا عائد من المقبرة، ممتلئا بذكريات أكثر من أربعين عاما مع خالي عبدالله، منذ أن سكن في بيت مجاوِرٍ لبيتنا في الردة، مستعيدا شريطا طويلا من الذكريات معه، بدا لي أن الفيلم أجمل بكثير مما ظننت، وأنه فيلمي «الشخصيّ» أيضًا.
يبدأ الفيلم بصوت فيروز «كنا نتلاقى من عشية /ونقعد على الجسر العتيق/ تنزل على السهل الضبابي/ تمحي المدى وتمحي الطريق» ممتزجًا بلقطة بعيدة لمدينة نزوى ما تلبث أن تتحول إلى حقول خضراء فاتنة، ثم تظهر الجدة بظهرها متوجهة إلى بيتها يتبعها قط أسود، سيجتمع بعد قليل مع قطّ أبيض لتقدم لهما الجدة الطعام وهي تتحدث إليهما بحنان. بعد هذه المقدمة التي أراها ضرورية حقًّا لإعطائنا صورة عن شخصية الجدة وطيبتها، يصيح ديكٌ أبيض في قنّ الدجاج مؤذنًا ببداية السرد عن الجدّ الغائب، الذي سنعرف بعد قليل أنه هو من اشترى هذا الديك، بديلًا لديكٍ آخر كان قد اشتراه أيضًا، لكنه مات. تقول الجدة: إن مات هذا الديك فسأشتري أنا أيضًا ديكًا آخر، في إشارة إلى أن الحياة مستمرة، ولا يستطيع الموت إيقافها.
بعد قليل ستصبح التفاصيل الصغيرة التي يسردها أبطال الفيلم دليلًا إضافيًّا على أنه فيلمي الشخصيّ، فناصر مثلًا الذي يتحدث عن أبيه بمحبة بدا لي كثير الشبه بمحمد ابن خالي عبدالله، أو لعلي أردتُ أن أراه كذلك. وحين سرد بدر أنه في أيام مرض الجدّ الأخيرة حملوه أولًا إلى مركز طبي خاص، ومنه نُقِلَ إلى المستشفى، ثم بعد أيام من العلاج كان قد بدأ يتماثل للشفاء قبل أن تنتكس حالته الصحية من جديد، عندما سرد بدر كل هذا بدا لي أنه يسرد حكاية خالي حرفيًّا.
واحدة من أجمل تفاصيل الفيلم ما سرده الابنان عن علاقة والدهما بالأقفال والمفاتيح، حيث يُضيع الجد كل مرة مفتاح القفل فيضطر لشراء قفل آخر، فيما يؤكد أحد الابنين -وهو ناصر- أن أباه كان يتحجج بغياب المفاتيح لأنه يحب تجميع الأقفال. هذه الأقفال القديمة ومفاتيحها التي حرصت المخرجة على إظهارها في إحدى اللقطات، مضافا إليها هواتف نوكيا القديمة في لقطة أخرى، أضفت هاتان اللقطتان طابعا نوستالجيا على الفيلم، يحيلنا إلى «زمن الطيبين» كما يحلو لكثيرين وصف الماضي الجميل.
تسرد بثينة ناصر في حوارها مع بشاير حبراس لجريدة «$» أنها في مدينتها نزوى كانت تصادف الكثير من الناس الذين صوتوا للفيلم وأعربوا عن إعجابهم به، بل إن الفيلم خرج عن نطاق محليته (حيث حرصت المخرجة على ترجمته باللغة الإنجليزية) وعُرِض في أمريكا ولقي إعجابًا مماثلًا هناك. وقد انتبهت بثينة إلى أن بعضًا من الجمهور الأمريكي كان يفتقد العائلة التي أحياها الفيلم بصورة حميمة ودافئة، وتأثرّ به لدرجة البكاء. ولا بد أن هؤلاء عَدُّوا الفيلم كذلك «فيلمهم الشخصي».
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أيها «العتيق» غادرهم
عندما ينقضي أكثر من ٣٠ عامًا وأنت لا تزال تعمل في مؤسسة واحدة ثِق كل الثقة أن أي فكرة تأتي بها معتقدًا أنها عظيمة وخلاّقة ستكون «غير مُرحب بها» من قِبل الجيل الجديد الذي تعمل معه، لا تُفاجأ أبدًا إذا لم يتم الاحتفاء بالفكرة أو التصفيق لها أو تم سحقها فهي بحسب تصورهم «عتيقة» تمثل جيلا انتهى ومرحلة ولّت واندرست.
إنهم ينظرون إليك كمُعوِق للعمل بل مُثبِط تتخلف عن العالم بملايين السنوات الضوئية.. يا عزيزي، أنت -وهذا مؤسف- لا تتقن الإنجليزية ولا تجيد التعامل مع الحاسوب والأجهزة الإلكترونية المستخدمة في نظام العمل، وإن كنت مسؤولًا فإنك بلا شك تجهل أساليب الإدارة الحديثة.
ومما يزيد الأمر سوءًا أنك مُغيَّب عن عالم التواصل لا تفقهُ سوى التعامل مع الـ«واتس أب» لكن ماذا عن «تيك توك» و«سناب شات» و«إنستجرام»؟.. لنسأل سؤالًا آخر أكثر واقعية: هل بإمكانك صياغة أهدافك وإدخالها إلى منظومة «إجادة» لقياس الأداء الفردي أم سيتعين عليك ككل مرة الاستعانة بزميلك الشاب الذي بطلبك المكرر هذا تُكرسُ في رأسه فكرة أنك تعيش خارج الزمن ويجب أن تتنازل عن كُرسيك من أجل شاب طموح مُقبل على الحياة؟
فوق هذا كله يتم القبض عليك متلبسًا مرات عديدة وأنت تُنكس رأسك وتغُض البصر عندما يُجبرك اجتماع مهم تحضره شابة منفتحة تتمترس خلف «جايد نس» الذي لا يعرف الرحمة، وقد كنت قبل ذلك تسعى بكل ما أُوتيت من قوة إلى التهرب من حضور مثل هذه الاجتماعات فتختلق الأعذار تحاشيًا للفتنة.
في العديد من المناسبات تتعرض للأسئلة المُلغّمة نفسها التي لا ترغب في سماعها: في أي سنة تعينت بالوزارة الوالد؟ ما درجتك المالية العم أبو أحمد؟ متى كانت آخر ترقية حصلت عليها؟ لماذا لم تخرج للتقاعد حتى اليوم رغم أن زملاءك كلهم خرجوا؟
وأنت وهذا ما يمكن ملاحظته تجيب على الأسئلة متظاهرًا بأنك لا تعبأُ كثيرًا بما يرمون إليه مع أنك مدرك أنهم يطلبون منك الرحيل طوعًا طالما لم تُصبك سهام موجة التقاعد التي أصابت من سبقوك.. وتعي أيضًا أن المكان بات ضيقًا على استيعاب رجل قديم مثلك ترافقه أدوية السكري والضغط والكوليسترول أينما ذهب.
إنهم باختصار يتمنون رحيلك يا عزيزي؛ لأنهم يريدون أن يتنفسوا هواءً نقيًا -كما يرددون- ورغم ذلك لا تزال «الله يهديك» صامدًا عتيًا لا تُحركك الرياح تمامًا كـ«جبل شمس» متمسكًا بمقولتك الشهيرة «جالس جالس على رأسهم لين يدفروني وحدهم».
النقطة الأخيرة..
يقول الكاتب الروسي «تشيخوف»: «حين لا تحب المكان استبدله، حين يؤذيك الأشخاص غادرهم».
عُمر العبري كاتب عُماني