عنوان هذا المقال مقصود لم يأت عفوًا؛ فالإبداع له شروط وخصائص عديدة، ولكني أظن أن السمة الحاسمة المميزة للإبداع تكمن في اختلافه عن التقليد، فما هو التقليد أولًا؟ التقليد هو سمة أنصاف الموهوبين وأرباعهم، وأولئك يستخدمون شيئًا مما عرفوه عن غيرهم من المبدعين، فيلجأون إلى تقليد أسلوب المبدع في تناوله لموضوع ما، بل يلجأون إلى تكرار موضوعات مشابهة لتلك التي تناولها المبدع، ويظنون أن هذا كاف ليجعلهم مبدعين.
وهذا هو أيضًا الاختلاف بين العبقري المبدع وغيره ممن يمارسون الإبداع من دون أن تكون فيهم موهبة حقيقية، فهؤلاء تكون موهبتهم في اقتفاء مصالحهم الخاصة، التي يبلغونها من خلال مسايرة المطلوب والمرغوب والرائج في عصرهم. لقد عبر شوبنهاور عن هذا الاختلاف بوضوح في قوله: «»بالنسبة إلى هذا العبقري، فإن فنه في التصوير أو شعره أو تفكيره يكون غايةً، أما بالنسبة إلى الآخرين فإنه يكون وسيلة. فهؤلاء الآخرون يتطلعون بذلك إلى مصلحتهم الخاصة، وهم بوجه عام يعرفون كيف يعززونها؛ لأنهم يتملقون معاصريهم، ويكونون على استعداد لخدمة حاجاتهم وأهوائهم؛ ولذلك فإنهم يعيشون عادةً في أحوال سعيدة، بينما العبقري يعيش غالبًا في أحوال بائسة للغاية. لأنه يضحي برفاهته الشخصية من أجل الغاية الموضوعية، فهو لا يستطيع أن يفعل بخلاف ذلك؛ لأنه في ذلك تكمن جديته. وهم يفعلون عكس ذلك؛ ولذلك فإنهم يكونون صغارًا، بينما هو يكون كبيرًا.
وبالتالي، فإن عمله يكون لكل الأزمنة ولكل العصور، ولكن الاعتراف به يأتي عادةً مع الأجيال القادمة، بينما هم يعيشون ويموتون في زمنهم». (انظر الفصل 31 من ترجمتنا العربية للمجلد الثاني من كتاب شوبنهاور: العالم إرادةً وتمثُّلًا، سنة 2024). ومعنى هذا أن المقلدين يكونون موهوبين في إرضاء وإشباع ميول وحاجات الناس في عصرهم، وهي ميول وحاجات تصنعها المتغيرات والظروف التاريخية والثقافية في مرحلة زمنية ما؛ ولهذا فإنهم غالبًا ما ينالون الرضا في زمنهم، بل ينظر إليهم العوام باعتبارهم مبدعين؛ ولكن الزمن سرعان ما يطويهم حينما يتغير مزاج العصر، فلا تصبح أعمالهم ممتعة بالنسبة إلى الجيل التالي، بل يجب أن تحل محلها أعمال أخرى تُرضي الأذواق الجديدة، ولكنها لا تدوم بدورها. أما أعمال العباقرة أو المبدعين الحقيقيين فإنها تتجاوز عصرها لتبقى عبر كل الأزمنة، حتى إن لم تنل اعترافًا أو تقديرًا في عصرها. والتاريخ يشهد بأن بعض أعمال العباقرة والمبدعين حقًا قد لا تلقى اعترافًا وتقديرًا في عصرها، بل تلقى نكرانًا وإهمالًا، ولكنها في عصر ما لاحق تبدو كما لو كانت تُبعث مجددًا من مرقدها على حد تعبير الفيلسوف الكبير هانس-جيورج جادامر. وعلى النحو ذاته، فإن التاريخ يشهد بأن هناك أعمالًا للمقلدين كانت ذائعة الصيت في عصرها، ثم طواها النسيان حتى إننا لم نعد نذكر أسماءها وإن كانت منذ عهد قريب!
وقد يبدو طرحنا السابق كلامًا نظريًّا يحتاج إلى أمثلة عيانية مستمدة من واقعنا المعيش.
وإلى القارئ الحريص على أن يتعرف على أمثلة على ذلك أذكر مثالًا بارزًا يتبدى في تلك الكتابات الروائية الرائجة في واقعنا، خاصة في مصر، وهي تلك الروايات التي تتخذ عناوين أحياء معينة من مدينة القاهرة على سبيل المثال. تجد بعض الصغار ممن يفتقرون إلى الموهبة والإبداع يسلكون هذا المسلك تقليدًا للأديب العظيم نجيب محفوظ حينما وضع عناوين أحياء معينة لرواياته مثل: «زقاق المدق» و«بين القصرين» و«السكرية»، رغم أن بعضًا من هؤلاء المقلدين قد تنكروا لهذا المبدع العظيم بدعوى أنه يمثل مرحلة تقليدية في فن الرواية! ولكن ما لم يفهمه هؤلاء الصغار أن نجيب محفوظ حينما كتب أعماله هذه لم يكن مفتونًا بالعنوان في حد ذاته، وإنما كان العنوان عنده يعبر عن حالة خاصة يريد أن يصور من خلالها تاريخ مصر السياسي والاجتماعي في مرحلة زمنية معينة، بل يريد أيضًا من خلالها تجسيد حالة إنسانية عامة تتكرر في كل زمان ومكان. وربما يكون من المناسب في هذا الصدد أن أذكر من باب التأكيد على ذلك أن المخرج السينمائي الكبير توفيق صالح (رحمه الله)- وهو من أصدقاء أو حرافيش نجيب محفوظ- قد أهداني منذ أكثر من عشر سنوات بعضًا من الأفلام اللاتينية المستمدة من الأعمال الروائية لنجيب محفوظ مثل: زقاق المدق.
ذلك أن ما أراد أن يصوره ويعبر عنه نجيب محفوظ يظل بمثابة دلالة إنسانية عامة تبقى على مر الزمان. هذا ما لا يفهمه المقلدون، ولهذا يطويهم الزمان مهما وجدوا من آيات الإعجاب والتصفيق من العوام وأصحاب المصالح في زمنهم. ولذلك فإن المبدعين الحقيقيين ليسوا أولئك الذين يتبعون العناوين والأسماء، وإنما أولئك الذين يستلهمون روح الكبار من أمثال نجيب محفوظ حينما يصورون مكانًا ما من الأمكنة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نجیب محفوظ أعمال ا
إقرأ أيضاً:
انطلاق فعاليات أسبوع الأفلام اليابانية في مركز الإبداع بالأوبرا 2 فبراير
أعلن مركز الإبداع الفني بساحة الأوبرا التابع لصندوق التنمية الثقافية، انطلاق فعاليات أسبوع الأفلام اليابانية 2025، خلال الفترة من 2 إلى 6 فبراير المقبل، في إطار جهوده لتعزيز التبادل الثقافي ودعم الفنون العالمية، وبالتعاون مع مؤسسة اليابان بالقاهرة.
الأفلام اليابانية الحديثةوأضاف مركز الإبداع، أنه سيتم تقديم مجموعة من أبرز الأفلام اليابانية الحديثة، حيث يُعرض فيلم «سيدات كاجا» الأحد 2 فبراير الساعة 4:30 مساءً، ويوم الأربعاء 5 فبراير الساعة 6:30 مساءً، كما سيتم عرض الفيلم الوثائقي الدرامي «يومياتي في الجبل» يوم الاثنين 3 فبراير الساعة 6:30 مساءً، ويوم الأربعاء 5 فبراير الساعة 4:30 مساءً.
عرض أفلام أنيميشنوأوضح المركز أنه سيتم عرض فيلم الأنيميشن «منزل للتائهين» يوم الأحد 2 فبراير الساعة 6:30 مساءً، ويوم الثلاثاء 4 فبراير الساعة 4:30 مساءً، كما يُعرض فيلم الكوميديا والخيال العلمي «نراكم لاحقًا» يوم الاثنين 3 فبراير الساعة 4:30 مساءً، ويوم الخميس 6 فبراير الساعة 6:30 مساءً.
وأوضح مركز الإبداع الفني، أن هذا الأسبوع سيختتم بعرض فيلم «أب سكة حديد درب التبانة» يوم الثلاثاء 4 فبراير الساعة 6:30 مساءً، ويوم الخميس 6 فبراير الساعة 4:30 مساءً، لافتا إلى أن جميع العروض ستكون مجانية ومفتوحة للجمهور، ما يتيح فرصة متميزة لعشاق السينما لاكتشاف الإبداع الياباني والتعرف على ثقافته المتنوعة.