لجريدة عمان:
2024-11-19@08:31:13 GMT

من غروب الخميس إلى ظهر السبت

تاريخ النشر: 15th, June 2024 GMT

بعد أكثر من أربعين ساعة متواصلة غادر آخر القتلة أزقةَ صبرا وشاتيلا، المكانَ الذي صار اسمُه من بعدهم عنوانا لواحدةٍ من أبشع المجازر في تاريخ القرن العشرين. أيدٍ مرتجفة سرَّبتْ لنا المشهد من المسرح المغلق على ضحاياه. لكن مشاهد الفيديو المتذبذبة لن تُذيع فينا حرارة الدم الطازج في وهج الظهيرة ولا رائحة الموت في المكان حين تختلط برائحة النجاسة.

من الواضح أن عدسات التصوير قد أصبحت اليوم أكثر دقةً مقارنةً بما كانت عليه في ثمانينيات القرن الماضي، مع ذلك، فإنها إلى اليوم لم تتطور بعدُ بما يكفي لتقول للمتفرجين شيئا عن الرائحة والحرارة، وإلا ماذا؟ ماذا لو أفصحت الكاميرات عن الرائحة والحرارة؟ سيصبح التصوير حينها سلاحا آخر كفيلا بالقضاء على الجنس البشري وسائر الكائنات الحية بفعل إشعاع صور القتلى وتلوث الهواء برائحة اللحم البشري الفاسد. فهل ستقتلنا آلات التصوير؟! ربما، ولكن ليس الآن.

الصحفي النرويجي أود كارستن تفايت، المتخصص في تغطية أحداث الشرق الأوسط لصالح هيئة الإذاعة النرويجية، كان في بيروت. يَذكر أنه شاهد القنابل الضوئية وهي تنير سماء المخيمات بعد غروب شمس الخميس، 16 سبتمبر 1982، فظن أن خطبا ما خطيرا يدور هناك. في اليوم التالي للمجزرة دخل تفايت إلى مخيم شاتيلا حاملا آلة تصويره المرتعشة، وكان من أوائل الصحفيين الغربيين الذين غطوا الحدث. صُعق بحجم الكارثة ولم يصدِّق ما رأته عيناه. أحس بالغثيان في البداية، ثم شرَع يعد الضحايا وهو يتقيأ على جانبي الأزقة بينما كانت الكاميرا مفتوحة على جثث متورِّمة لرجال وأطفال ونساء كان قد مضى على ذبحهم أكثر من يومين حتى الظهر من يوم السبت، 18 سبتمبر 1982.

قُبيلَ ظهر السبت كان قد وصل إلى شاتيلا أحد أبرز الصحفيين الغربيين الذين عرفوا لبنان والمنطقة لسنوات طويلة. تلقى روبرت فيسك، مراسل التايمز آنذاك، أخبارا عن جريمة تحدث في مخيمات الفلسطينيين ببيروت الغربية تحت إشراف الجيش الإسرائيلي. وعند وصوله كان طنين الذباب الأزرق الكبير هو أول ما لفت انتباهه إلى أن المخيَّم قد شهد خلال الساعات الماضية مجزرةً أكثر بشاعة مما كان يتخيل. وفي كتابه «ويلات وطن: صراعات الشرق الأوسط وحرب لبنان» سجَّل فيسك في شهادته قائلا: «في البدء لم نستخدم كلمة «مجزرة» ولم نتكلم كثيرا لكي لا يجد الذباب طريقه مباشرةً إلى أفواهنا وفي حين أن رائحة الموتى في صيدا سببت لنا الغثيان، فإن رائحتهم في شاتيلا جعلتنا نتقيأ».

وكما يخطر لأي صحفي سيُسأل لاحقا عن الأرقام بدأ فيسك وزميلاه بإحصاء الجثث، ولكن «بعد أن أحصينا مائة جثة، توقفنا عن العد»! كانت هذه عبارة فارقة في شهادة فيسك، الشهادة التي كان من الأسهل كتابتها «بلغة الفحص الطبي الذي لا يرحم» كما يقول، حين بدا أن الصُور تستعصي على لغة الوصف العادي. فيسك، الذي بقي حتى وفاته (30 أكتوبر 2020) واحد من أكثر المدافعين الأوفياء عن ضحايا المجزرة، ترك شهادةً هي من أهم الوثائق التي تكشف حقيقة ما دار بين غروب الخميس إلى ظهر السبت، ووصف بدقة بالغة مشاهداته التي يصعب إعادة وصفها دون أن تُقتبس منه حرفيا، كوصفه المروع لاثنتي عشرة جثة لشبان صغار كانت مكوَّمة فوق بعضها قرب مدخل المخيم: «كانوا يرتدون الجينز والقمصان الملونة التي ضاقت عليهم بعد أن انتفخت أجسادهم بسبب الحرارة».

ظهيرة يوم الجمعة، وفي الوقت الذي كان فيه أرئيل شارون يراقب العمليات بمنظاره من على سطح إحدى البنايات المطلة على المخيم، كان أربعة جنود إسرائيلين يفتشون بيت بيان نويهض بحثا عن زوجها شفيق الحوت، مدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، الذي كان في طريقه إلى نيويورك لمناقشة القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة. وقبل أن ينصرف الجنود كانت صدمة بيان نويهض حين سألها قائدهم، روبرتو براك، واحدا من أصعب الأسئلة التي مرَّت عليها طيلة حياتها: «أتشهدين على أننا كنا متحضرين معك؟» لكن صدمتها الكبرى كانت بانتظارها ظهيرة اليوم التالي حين تلقت صوت مذيع مونت كارلو الدولية وهو يعلن عن المجزرة ويسرد أحداثها بصوت مختنق بالبكاء.

بعد عشرين عاما تستعيد المناضلة والمؤرخة الفلسطينية، بيان نويهض الحوت، هذه الحادثة وهي تكتب مقدمة كتابها «صبرا وشاتيلا أيلول 1982» الصادر عام 2003 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية. يأكلها شعور بالذنب كلما تذكرت إجابتها المترددة على سؤال الضابط الإسرائيلي، قائلةً له: «لقد كُنتم معي أكثر تمدنا مما تصورتُ، لكنني لم أكن معكم في بيوت أخرى لأعرف كيف تتصرَّفون». هذا الكتاب هو رد بيان نويهض الحقيقي، بل هو رد الضحايا الناجين أنفسهم على المجزرة. فهو مشروع للتاريخ الشفهي حيث يروي الشهود وذوو الضحايا رواياتهم كما عاشوها. وإلى الآن ما زال هذا الكتاب هو المرجع الأشمل والأكثر تفصيلا عن ساعات صبرا وشاتيلا بين غروب الخميس إلى ظهر السبت. ولم يفت المؤلفة أن تشير إلى أن رواية صبرا وشاتيلا لن تكتمل بصوت الضحية وحدها، محورِ هذا الكتاب، دون أن تُكتب وتقرأ شهادات واعترافات من الجانب الإسرائيلي ومن جانب الميليشيات المسيحية: «لا تكتمل الصورة إلا حين يكبر بما فيه الكفاية هؤلاء الشهود من الضباط والجنود الإسرائيليين، أو من المهاجمين؛ فهؤلاء الذين كانوا بالمئات، هؤلاء الذي راقبوا المجزرة أو شاركوا فيها، وهم في سن العشرينيات أو الثلاثينيات، هؤلاء لا بدَّ من أن يتحدث بعضهم عن ذكرياته بعد أن يتقاعد».

وبالرغم مما كُشف وكُتب عن مجزرة صبرا وشاتيلا على مدى العقود الأربعة الماضية، لا بدَّ أن صوتا غائبا أو روايةً مفقودةً أو مشهدا مهددا بالنسيان يستحق منا- نحن ورثة الحكاية- أن نبحث عنه، وأن نحجز له مساحةً من النص كي نعيده للتداول. إنني أكتب عن صبرا وشاتيلا اليوم، بعد اثنين وأربعين عاما، لأنها -ببساطة- حدث لم ينته؛ لأن القتلة لم يحاسبهم أحد، ولأن الضحايا لم يعوضهم أحد، ولأن صبرا وشاتيلا قد أصبحت كما يقول روبرت فيسك: «نُصبا تذكاريا لمجرمين أفلتوا من المسؤولية كما أفلتوا من العقاب». بل ردوا عليها ببجاحة عنصرية تذكر بمناحيم بيجن حين علَّق على المجزرة أمام الكنسيت: «أشخاص غير يهود ذبحوا أشخاصا غير يهود، ففي أيّ شيء يعنينا ذلك؟».

لم تزل صبرا وشاتيلا صدمةً مروعةً في وعي الهوية الفلسطينية بنفسها. وهي اليوم شُرفة الأمس التي نطلَّ من خلالها على المجزرة المتجددة يوميا أمام عيوننا في غزة. فإن كان فلسطينيو صبرا وشاتيلا قد ذبحو سرا في الصمت والظلام، فها هم فلسطينيو غزة، يذبحون في عري العراء وفي البث المباشر فماذا عسانا نقول لضمائرنا؟!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صبرا وشاتیلا ظهر السبت

إقرأ أيضاً:

لتحديد أسعار الفائدة.. اجتماع في البنك المركزي المصري الخميس المقبل

أجمعت بنوك استثمار على أن البنك المركزي المصري سيبقي أسعار الفائدة دون تغيير للمرة الخامسة على التوالي، يوم الخميس المقبل، عند مستويات 27.25% للإيداع و28.25% للإقراض، بالرغم من استمرار صعود عائد أذون الخزانة الذي تصدره وزارة المالية.

ووفق بيانات منشورة على الموقع الرسمي للبنك المركزي، ارتفعت متوسطات الفائدة على أذون الخزانة بنسبة 0.5% في الأذون بأجل 91 يوما، وبنسبة 09.5% في أذون الخزانة بأجل 182 يوما، فيما ظلت العوائد على أذون الخزانة بأجلي 273 يوما و364 يوما يتم تداولها عند نفس مستوياتها تقريباً وذلك خلال الفترة الممتدة من اجتماع البنك المركزي الأخير في 17 أكتوبر حتى نهاية الأسبوع الماضي.

رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة فيما مضي من العام الجاري 2024 بواقع 800 نقطة أساس، للسيطرة على التضخم البالغة نسبته 35.7% في فبراير الماضي.

ورصدت آخر قراءات لمعدلات التضخم لدى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاعاً طفيفاً في مدن مصر وصل إلى 26.5% على أساس سنوي في أكتوبر الماضي، مقابل 26.4% في شهر سبتمبر 2024، فيما تقلصت حدة التضخم الشهري لتسجل 1.1% في الشهر ذاته مقارنة بنسبة 2.1% خلال سبتمبر المنقضي.

وفي الوقت ذاته رصد البنك المركزي في آخر قراءة لمعد التضخم الأساسي، والذي يستثني السلع المحددة إدارياً، تراجعاً طفيفاً في أكتوبر الماضي، حيث سجل معدل التضخم السنوي نسبة 24.4% خلال أكتوبر 2024، مقابل 25% في سبتمبر السابق عليه.

اجتماع البنك المركزي

يتبقى أمام البنك المركزي اجتماعا آخر غير القادم بنهاية هذا الأسبوع، حيث من المقرر أن تجرى مناقشة تحديد أسعار الفائدة للمرة الثامنة يوم 26 ديسمبر 2024، ذلك في ظل الظروف والمتغيرات الجديدة التي ستطرأ على الساحة لاسيما قراءات التضخم.

يشار إلى أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي قام بتخفيض أسعار الفائدة في آخر اجتماعين بنسبة 0.75% إلى 4.5% و4.75%، لكن استبعد مصرفيون تأثر ذلك الخفض على قرار لجنة السياسات النقدية بالمركزي المصري.

اقرأ أيضاًالبنك الدولي: العام الماضي ضاعفنا استثماراتنا في التقنيات الرقمية الخضراء إلى 700 مليون دولار

بنك القاهرة يدخل في تحالف مع 8 بنوك لتقديم تمويل مشترك بـ 10 مليار جنيه لشركة مصر للبترول

صافي الأصول الأجنبية للبنك المركزي المصري ارتفع إلى 10.638 مليار دولار بنهاية أكتوبر الماضي

مقالات مشابهة

  • مهرجان القاهرة السينمائى يستضيف عمرو سعد في جلسة حوارية.. الخميس
  • "الصحفيين" تستضيف سفير تونس الخميس المقبل
  • جلسة حوارية مع عمرو سعد في مهرجان القاهرة السينمائي.. الخميس
  • الخميس المقبل.. أبطال 6 شهور في ضيافة منى الشاذلي
  • الخميس.. "الصحفيين" تستضيف سفير تونس
  • الخميس .. القومي للترجمة يحتفي بصدور كتاب "نهضة إفريقيا الزراعية"
  • الخميس.. الحفل الموسيقي "حالة عود" في مكتبة الإسكندرية
  • الرئاسة الفلسطينية تعقب على المجزرة الإسرائيلية في بيت لاهيا
  • لتحديد أسعار الفائدة.. اجتماع في البنك المركزي المصري الخميس المقبل
  • حماس: المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال بقصف بناية سكنية على رؤوس ساكنيها في بيت لاهيا؛ إمعان في حرب الإبادة والانتقام من المدنيين العزل