#ليلة_العيد : #موتى بلا #موت
د. #حفظي_اشتية
تباريح من الوجد ننسجها على بساط الخالد من الشعر، وهو جنى لهيب قلوب الشعراء الأحرار الذين خصّهم الله بعواطف شفافة، وعقول حكيمة، وألسنة ذربة تعبّر ببلاغة عن مكنوناتهم، وتكون مرآة صادقة لمشاعر الآخرين ممّن يشاركونهم آمالهم وآلامهم.
ونرى في الشعر ينابيع الجوى، ونطوف معه إلى قطوف الماضي لنستشرف المستقبل، ونغوص في نفثات مَن مضَوا وقضَوا لنجتني ذؤابة تجاربهم، ورحيق حكمتهم، ونستنطقها لعلها تشفّ لنا عن أسباب مرارة واقعنا، وتكشف علل علّتنا، وتفكّ طلاسم تضعضع أحوالنا….
أمة تشكّل ربع المعمورة تقريبا سكانا ومساحة، تغرق بالخيرات فوق الأرض وتحتها، وموقعها قلب الدنيا وعصب الاقتصاد، تتكئ على إرث مجيد من رسالة خاتمة خالدة، ونبي عظيم كريم، ووسام شرف إلهي بأنها خير أمة أخرجت للناس، وبطولات عزّ نظيرها، وثورة علمية عمّ نورها الدنيا بأسرها…..
لكنها سلكت لقرون خلتْ دروب التردّي، وما زالت تتدانى من عُلاً، وتغادر القمم التي تستحقها نحو السفوح والبقاع والقيعان حتى غدت أمثولة للتأخر والتخلف والاستكانة والهوان…..
والواقع الماثل أمامنا عيانا يصرخ في أعماقنا، ويزلزل ضمائرنا، ويجلجل نداؤه ويصكّ منا الآذان بسؤال يصدع فينا كلّ وجدان :
هل نحن حقا تلك الأمة التي طوّعت دنيا العالم القديم برا وبحرا في بضعة عقود، ودانت لها الممالك والإمبراطوريات، وأُهدي إلى أبطالها الغرّ الميامين تراب الصين في صفائح الذهب مع الجزية وضروب الولاء والطاعة؟؟!!
ولعل هذا السؤال هو الذي فجّر الحنين في قلب “عمر أبو ريشة” عندما قال :
أمتي هل لك بين الأمم مِنـبرٌ للــسيف أو للقـــلمِ
أتلقّاكِ وطرفي مُطــرقٌ خجلاً من أمسكِ المنصرمِ
ويكادُ الدمعُ يهمي عابثاً ببقــايـا كبـــريـــاءِ الألـــمِ
وما زال الصدى يردد في أجواء المدى عنجهية “عمرو بن كلثوم” وكبرياءَه الأسطوري :
بأنّا نــوردُ الــرايـــاتِ بِيـضاً ونصدرهنَّ حُمراً قدْ روينا
ونشربُ إنْ وردنا الماءَ صفواً ويشربُ غيرُنا كدراً و طينا
إذا بــلــغَ الفــطـــامَ لـنـا صبيٌّ تــخرُّ لــه الـجبابرُ ساجدينا
فأين نحن الآن من هذا النفَس العروبيّ الأبي؟؟؟!
هل كذب “أبو فراس الحمداني” عندما اختصر حكايتنا، ورسم ملامح شخصيتنا، وحدّد موقعنا بين الأمم حين وقف على حافة الأعراف بين الموت والحياة؟:
وقال أُصَيْحابي الفرارُ أو الردى؟ فقلت:هما أمران أحلاهما مُرُّ
لكن مِرجل الإباء في صدره اغتلى، فاعتلى الاختيار الأقسى والأسمى :
ونحن أُنــاسٌ لا تــوسُّطَ عنــدنـا لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ
تهونُ علينا في المعالي نـــفوسُنا ومن خَطَبَ الحسناءَ لم يُغله المَهرُ
أعزُّ بني الدنيا وأعلى ذوي العُلا وأكرمُ مَن فوقَ الترابِ ولا فخرُ
أليست هذه البذرة هي التي طرحت مقولة “عمر المختار”: نحن قوم لا نستسلم، ننتصر أو نموت؟؟؟ ثم أثمرت عبارة: وإنه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد؟؟!!
أحاط الأعداء، طُلاب ثأر الكلمة السامّة الحرّاقة بالمتنبي، فبحث عن سراب الحياة الفانية عبر الفرار، لكنّ قاتله صاح به : إلى أين يا أبا الطيب؟! ألست القائل :
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ والقِرطاسُ والقلمُ؟؟!
فردَّ عليه المتنبي : يا هذا، لقد قتلتني، ونعيتَ إليّ نفسي، فلوى عنان فرسه نحو حتفه المحتوم….. لكنه عاش حيث مات!!!
فالحياة الحقيقية تكون بطيب الذكر بعد الممات، قالها “شوقي” :
دقّاتُ قــلبِ الــمــرءِ قــائلةٌ لهُ إنّ الحياةَ دقائقٌ وثواني
فارفعْ لنفسك بعد موتكَ ذِكرها فالذكرُ للإنسانِ عمرٌ ثاني
ليت أمتنا تستقرئ التاريخ فتعتبر بأنّ الحياة الذليلة ليست حياة!!!
أدركها “عنترة” وهو يرعى الغنم، وغابت عنا فاستمرأنا المهانة:
لا تسقني كأسَ الحياةِ بذِلةٍ بل فاسقني بالعزِّ كأسَ الحنظلِ
طلبُ العزِّ ذاك كان الوقود الذي شحن قلبَ “امرئِ القيس”، فاندفع يجوبُ الفيافي نحو بلاد الروم استنصارا ليستردَّ مُلك أبيه القتيل، فجرى الحوار الشفيف المرير بينه وبين صديقه مُصاحبه في السفر نحو المجهول المخيف، فتمَّ تحديد الهدف بدقة وعناية وحزم ووضوح رؤية:
بكى صاحبي لمّا رأى الموتَ دونَه وأيـقــنَ أنّا لاحـقـان بقيــصرا
فــقلــتُ لــه لا تـبــكِ عـيــنُك إنّما نحاولُ مُلكا أو نموت فنُعذرا
ولعل مثل هذه المشاعر الجيّاشة، وتأرجح القلوب بين الحرص على حياة الأنعام، واقتحام الأهوال للظفر بمقعد في مركب المغامرة العاصفة نحو الكرامة، هو الذي أضنى “سميح القاسم”، فتناثر الأُقحوان من أشجانه، وسال دم الأَرجوان على لسانه، وإنْ كنّا لا نعذره بشطر من المشاعر عند الغمز ببعض الشعائر:
يا أيها الموتى بلا موتِ…..تعبتُ من الحياةِ بلا حياةِ……وتعبتُ من صمتي ومن صوتي…..تعبتُ من الروايةِ والرُّواةِ……ومن الجنايةِ والجُناةِ……وسئمتُ تكليس القبور……وسئمتُ تبذير الجياع على الأضاحي والنذور………
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: ليلة العيد موتى موت حفظي اشتية
إقرأ أيضاً:
إفطارهم فى الجنة.. عمر القاضي شهيد العيد وتكريم الوطن
في قلب الليل ومع تكبيرات العيد، قدّم الشهيد البطل عمر القاضي روحه الطاهرة فداءً للوطن، ليصعد إلى السماء محملًا بدماء من أروع أنواع التضحية.
كان عمر، صاحب الابتسامة البريئة والنظرة الطموحة، قد خَطا خطوة لا عودة منها نحو المصير المشرق لشهداء هذا الوطن، وفي لحظة من لحظات الفخر التي لا توصف، كان اسمه يردده الجميع، وتزين ذكراه قلب كل مصري محب لوطنه.
وقد جاء تكريمه من الرئيس السيسي ليُكمل صورة عظيمة من العزة والكرامة، كما تقول والدته بكل فخر: "لقد شرفني ابني الشهيد حياً وميتًا"، فتضيف بكلمات تخالطها مشاعر الألم والفخر: "الرئيس السيسي لم يكرمني فقط، بل طمأنني بكلامه الذي كان بمثابة دواء لجرحي، كان حديثه إنسانيًا بحتًا". وكأن كلمة الرئيس كانت بمثابة بلسم على جراح قلب أم فقدت أغلى ما تملك، لتشعر بأن دماء ابنها لم تذهب سدى.
تستمر والدته، بصوت يحمل عبق الفخر، قائلة: "التكريم لم يكن لي فقط، بل كان تكريمًا لدماء شهدائنا جميعًا"، مؤكدة أن تضحيات ابنها وعشرات الآلاف من أبناء الوطن تظل حية في قلوبنا جميعًا.
وعلى الرغم من دموعها التي لم تنقطع، ظلت عيناها تحمل طمأنينة حقيقية، كما تقول: "دموعي لم تتوقف طوال الحفل، كان كل شيء يعيدني إلى لحظات وداع ابني، لكنني شعرت بالطمأنينة، لأنني أعلم أن بلادي تقدر تضحيات أبناءها".
ثم تتابع، وفي حديث لا يخلو من القوة والحزم: "إننا كأمهات للشهداء لا نتمنى شيئًا سوى أن نرى بلادنا في أمان، وأن يشعر أبناؤنا بأنهم قدموا شيئًا عظيمًا، وأن التضحية التي قدموها كانت ذات قيمة".
لقد أصبح تكريم الشهيد عمر القاضي ليس مجرد لحظة تكريم لأمه فحسب، بل هو تكريم لكل أم مصرية قدمت فلذة كبدها على مذبح الحرية، وفاءً لهذا الوطن الذي لا ينسى أبناءه الأوفياء.
في هذا الوقت العصيب، حينما يقود الرئيس السيسي حربًا ضد الشائعات ويرتقي بمصر إلى أفق جديد، تظل روح عمر القاضي حية، ترسم في السماء خريطة للبطولة والعزيمة، وتجسد معنى التفاني في سبيل الوطن.
في قلب هذا الوطن الذي لا ينسى أبنائه، يظل شهداء الشرطة رمزًا للتضحية والفداء، ويختصرون في أرواحهم أسمى معاني البذل والإيثار، رغم غيابهم عن أحضان أسرهم في شهر رمضان، يبقى عطاؤهم حاضرًا في قلوب المصريين، فالوطن لا ينسى من بذل روحه في سبيل أمنه واستقراره.
هم الذين أفنوا حياتهم في حماية الشعب، وسطروا بدمائهم صفحات من الشجاعة والإصرار على مواجهة الإرهاب، هم الذين لم يترددوا لحظة في الوقوف أمام كل من يهدد وطنهم، وواجهوا الموت بابتسامة، مع العلم أن حياتهم ليست سوى جزء صغير من معركة أكبر ضد الظلام.
في رمضان، حين يلتف الجميع حول موائد الإفطار في دفء الأسرة، كان شهداء الشرطة يجلسون في مكان أسمى، مكان لا تدركه أعيننا، ولكنه مكان لا يعادل في قيمته كل الدنيا؛ فإفطارهم اليوم سيكون مع النبين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
مع غيابهم عن المائدة الرمضانية في بيوتهم، يظل الشعب المصري يذكرهم في صلواته ودعواته، تظل أسماؤهم محفورة في ذاكرة الوطن، وتظل أرواحهم تسكن بيننا، تعطينا الأمل والقوة لنستمر في مواجهة التحديات.
إن الشهداء هم الذين حفظوا لنا الأمان في عز الشدائد، وهم الذين سيظلون نجومًا مضيئة في سماء وطننا، فلهم منا الدعاء في كل لحظة، وأن يظل الوطن في حفظ الله وأمانه.
مشاركة