وكالة الصحافة المستقلة:
2025-03-10@12:32:01 GMT

عوالم قصيدة النثر

تاريخ النشر: 14th, June 2024 GMT

يونيو 14, 2024آخر تحديث: يونيو 14, 2024

إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن

 

قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية ، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقًا ، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ .

وهذه المَنظومةُ المُعَقَّدَةُ لُغَوِيًّا ، والمُرَكَّبَةُ شِعْرِيًّا ، تَهْدِف إلى اكتشافِ العناصر الفكرية المَقموعة في العلاقات الاجتماعية ، واستخراجِ القِيَمِ المَعرفية المَنْسِيَّة في التجارب الحياتية ، وابتكارِ أنظمة شِعْرية مُتَحَرِّرَة مِنَ قُيود المَواضيع المُسْتَهْلَكَةِ ، والخَصائصِ اللغوية الشَّكلية المُبْتَذَلَة التي فَقَدَتْ تأثيرَها بسبب كَثرة استعمالها .

وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلًا ومَضمونًا ، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري ، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيًّا وعموديًّا ، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْيًا وإدراكًا ، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديدًا مُستمرًّا للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة ، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى ، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع .

وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها ، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا ، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائنًا حَيًّا قادرًا على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه ، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَانًا حُرًّا قادرًا على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ . وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق ، مِمَّا يُولِّد وَعْيًا شِعْرِيًّا خَاصًّا بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة .

وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيًّا وإبداعيًّا ، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخًا جديدًا لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع ، ومُتَجَدِّدًا في مُوسيقى اللغةِ ، ومُسْتَقِرًّا في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ ، ومُكْتَفِيًا بِذاته مَعْنًى ومَبْنًى . وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي ، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ . وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر .

إنَّ الوَعْي الذي تُولِّده قصيدةُ النثرِ يُمثِّل مَنظومةً مِن الأسئلة الوجودية التي يَتِمُّ طَرْحُها على إفرازاتِ الماضي والحاضرِ معًا، مِن أجْلِ حماية المَعنى الشِّعْري مِنَ القَطيعةِ بَيْنَ الروابطِ النَّفْسِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية، وهذا مِن شأنه تَكريسُ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ في الماضي الذي لا يَمْضِي، والحاضرِ الواقعِ تحت ضغط النظام الاستهلاكي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى دَمْجِ ثَورةِ الشِّعْرِ في كَينونةِ الزَّمَنِ ، وتَحويلِ البُنى الاجتماعية المادية إلى هياكل شِعْرِيَّة مَعنوية ، تَمتلك القُدرةَ على التواصل معَ الأجناس الأدبية كُلِّهَا، باعتبار أن الأدبَ والزمنَ نظامان مَفتوحان عَلى كَافَّةِ الأشكالِ والاحتمالاتِ .

وقَصيدةُ النثر لَيْسَتْ تاريخًا قائمًا بذاته فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا جُغرافيا رمزية تُوظِّف الخِطَابَ التاريخي في فَلسفةِ اللغةِ التي تَؤُول إلى فَن تَعبيري عَن القِيمةِ الإنسانيةِ للحياةِ ، والبُنيةِ الشِّعْرِيَّةِ الكامنةِ في عَناصرِ الوُجودِ وأنسجةِ المُجتمعِ . والترابطُ الوثيقُ بَيْنَ فَلسفةِ اللغةِ والفَنِّ التَّعبيريِّ يُؤَدِّي إلى صِناعةِ أساليب لُغَوية جديدة تُعيد بِنَاءَ الوظيفةِ الشِّعْريةِ على كَينونةِ الزَّمَنِ ، وتُعيد صِياغةَ العَلاقاتِ الاجتماعية إنسانيًّا ورمزيًّا . وهذه الإعادةُ المُزْدَوَجَةُ تُسَاهِم في إدخالِ مَصادرِ المَعرفةِ في التجاربِ الحياتية ، وإخراجِ التياراتِ الشِّعْريةِ مِن إطارِ تَقديسِ الماضي والجُمودِ على التُّراث ، مِمَّا يَقُود إلى إعادةِ تعريفِ وَظيفةِ قَصيدةِ النثر باعتبارها انقلابًا لُغَوِيًّا على القوالبِ الجاهزةِ والأشكالِ المُسْتَهْلَكَةِ . وكُلُّ عمليةِ إعادة تَعريف على المُسْتَوَيَيْن الشِّعْري واللغوي هِيَ بالضَّرورةِ تَجديدٌ في تِقْنِيَّات الكِتابةِ ، وتَوسيعٌ لِحُدودِ الأجناسِ الأدبية ، حَتَّى تَشْمَل الأفكارَ المَقموعةَ ، والأحلامَ المَكبوتةَ ، والأزمنةَ المَنْسِيَّة ، والأشياءَ المَسكوت عنها .

إنَّ الإلهامَ الشِّعْري داخلَ قَصيدةِ النثرِ لَيْسَ انتظارًا لِمَا لا يَأتي ، بَلْ هُوَ صِناعةٌ دائمةٌ للألفاظِ والمَعَاني ، وإشراقٌ مُستمر في التجارب الحياتية كَمًّا وكَيْفًا، وتَوْليدٌ مُتَوَاصِل للصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَة. والشاعرُ الحقيقيُّ لا يَنتظر مَجِيءَ الأنساقِ اللغويةِ ، وإنَّما يَندفع باتِّجَاهها ، ويَقتحمها ، ويَندمج مَعَهَا ، ويَنقلب عليها ، مِن أجْلِ تَجميعِ شَظايا الانفجارِ الشِّعْري في العَواطفِ الإنسانية المُتأجِّجة، والحِفاظِ على دِيناميَّة قَصيدة النثر في ظِلِّ ضَغْطِ الهُوِيَّةِ على الذات ، وضَغْطِ التُّراثِ على الحاضر. وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية ، لأنَّه يَمْنَح التكثيفَ الوُجودي للمَعنى الشِّعْري شرعيةً أخلاقيةً ، وسُلطةً اجتماعيةً ، وقُدرةً على اقتحامِ أعماقِ الشاعرِ في رِحلةِ البَحْثِ عَن الحُلْمِ بَيْنَ الأنقاضِ .

وإذا كانَ الشاعرُ مُهَاجِرًا أبديًّا إلى أعماقِه وذِكْرَياته ، فَإنَّ قصيدة النثر مُسافرة أبدية إلى رُوحِ اللغةِ وفلسفتها . وهذه الحَركةُ الشِّعْرية الدؤوبة النابضة بالحَيَاةِ والحُرِّيةِ تَمْنَع كَينونةَ الزَّمَنِ مِنَ التَّحَوُّلِ إلى أُسطوانة مَشروخة ، وبالتالي يُصبح الزَّمَنُ تَيَّارًا للوَعْي ، وفَضَاءً إبداعيًّا ، ولَيْسَ سِجْنًا للإبداع .

مرتبط

المصدر: وكالة الصحافة المستقلة

كلمات دلالية: الم س ت یة الم ق صیدة

إقرأ أيضاً:

"المركزي" يصدر مسكوكات تذكارية خاصة بمئوية الشاعر سلطان بن علي العويس

أصدر مصرف الإمارات العربية المتحدة المركزي، بالتعاون مع مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، مسكوكة تذكارية من الفضة بمناسبة مئوية الشاعر سلطان بن علي العويس (1925 ـ 2025).

ووفق بيان صحافي، اليوم الإثنين، يأتي إصدار المسكوكة التذكارية في ظل احتفالات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو " بالشاعر الإماراتي سلطان بن علي العويس، الذي يعد أحد أبرز الأصوات الشعرية في دولة الإمارات ودول مجلس التعاون الخليجي.
وارتبط اسمه بجائزة "سلطان بن علي العويس الثقافية" التي كرمت عشرات الكتاب والمبدعين العرب منذ تأسيسها في عام 1987 وحتى اليوم.
ويتضمن الوجه الأمامي للمسكوكة نصاً شعرياً من أشعار الراحل سلطان بن علي العويس "وطني دمي ينساب بين جوانح فكأنه والروح في سواء"، أما الوجه الخلفي للمسكوكة، فيتضمن رسماً لصورة المؤسس سلطان بن علي العويس، والعبارات التالية: "مصرف الإمارات العربية المتحدة" و"مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية" باللغتين العربية والإنجليزية، بالإضافة إلى عبارة "مئوية سلطان بن على العويس" باللغة العربية، والأعوام 1925-2025، والقيمة الإسمية للمسكوكة.
وتبلغ زنة كل مسكوكة فضية 60 غراماً وبقيمة اسمية تبلغ 100 درهم، حيث سيتم إصدار 1000 قطعة. وسوف يتم تسليم الكمية المطروحة بالكامل إلى مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية وستكون متاحة للبيع في مقرها الرئيسي فقط.
وأعرب سيف حميد الظاهري، مساعد محافظ المصرف المركزي للعمليات المصرفية والخدمات المساندة، عن فخره بهذا التعاون الذي يعكس اهتمام المصرف المركزي في تكريم رواد الفكر والثقافة والذين أسهموا في إثراء ثفاقة الإبداع في دولة الإمارات والوطن العربي.
ويأتي إصدار المسكوكات التذكارية الخاصة بمئوية الشاعر الإماراتي سلطان بن علي العويس تخليداً لذكراه وتكريماً لإسهاماته البارزة وجهوده في النهوض الفكري والعلمي في مجالات الثقافة والأدب والشعر.
ومن جانبه، قال عبد الحميد أحمد، الأمين العام لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية،: إن اعتماد منظمة اليونسكو عام 2025 عاماً ثقافياً للاحتفال بالشاعر سلطان العويس جاء بعدما اطلعت منظمة اليونسكو على ملف الشاعر سلطان بن علي العويس، الذي طرحته اللجنة الوطنية لدولة الإمارات للتربية والثقافة والعلوم، في الدورة 42 للمؤتمر العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة." ووجه الأمين العام الشكر إلى المصرف المركزي لتعاونه في إصدار المسكوكة التي ستبقى حاضرة عبر التاريخ كقيمة معنوية ومادية وإرث فكري لشاعر من الإمارات شكل حضوراً طيباً في عالم الإبداع.

مقالات مشابهة

  • "المركزي" يصدر مسكوكات تذكارية خاصة بمئوية الشاعر سلطان بن علي العويس
  • مكتب «الإيسيسكو» في الشارقة و«مقياس الضاد» يعززان الشراكة
  • نجم الفرقد
  • ما يبقى من الشعر وما يبقى للشعراء
  • غزة… أهناك حياة قبل الموت؟ أنطولوجيا شعرية توثق صمود الروح
  • شيخ الأزهر: تعلم اللغة العربية عبادة لأنها تُعين على فهم كتاب الله تعالى
  • العلماء يكشفون عن تشابه مذهل بين لغة البشر والحيتان
  • حسام الشاعر: مشاركة مصر في بورصة برلين السياحية تحقق نتائج واعدة
  • حسام الشاعر: نتائج مبشرة للمشاركة المصرية في بورصة برلين السياحية
  • هكذا استغل الاحتلال اللهجة الفلسطينية واللبنانية!