يونيو 14, 2024آخر تحديث: يونيو 14, 2024
إبراهيم أبو عواد
كاتب من الأردن
قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية ، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقًا ، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ .
وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلًا ومَضمونًا ، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري ، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيًّا وعموديًّا ، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْيًا وإدراكًا ، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديدًا مُستمرًّا للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة ، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى ، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع .
وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها ، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا ، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائنًا حَيًّا قادرًا على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه ، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَانًا حُرًّا قادرًا على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ . وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق ، مِمَّا يُولِّد وَعْيًا شِعْرِيًّا خَاصًّا بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة .
وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيًّا وإبداعيًّا ، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخًا جديدًا لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع ، ومُتَجَدِّدًا في مُوسيقى اللغةِ ، ومُسْتَقِرًّا في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ ، ومُكْتَفِيًا بِذاته مَعْنًى ومَبْنًى . وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي ، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ . وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر .
إنَّ الوَعْي الذي تُولِّده قصيدةُ النثرِ يُمثِّل مَنظومةً مِن الأسئلة الوجودية التي يَتِمُّ طَرْحُها على إفرازاتِ الماضي والحاضرِ معًا، مِن أجْلِ حماية المَعنى الشِّعْري مِنَ القَطيعةِ بَيْنَ الروابطِ النَّفْسِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية، وهذا مِن شأنه تَكريسُ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ في الماضي الذي لا يَمْضِي، والحاضرِ الواقعِ تحت ضغط النظام الاستهلاكي ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى دَمْجِ ثَورةِ الشِّعْرِ في كَينونةِ الزَّمَنِ ، وتَحويلِ البُنى الاجتماعية المادية إلى هياكل شِعْرِيَّة مَعنوية ، تَمتلك القُدرةَ على التواصل معَ الأجناس الأدبية كُلِّهَا، باعتبار أن الأدبَ والزمنَ نظامان مَفتوحان عَلى كَافَّةِ الأشكالِ والاحتمالاتِ .
وقَصيدةُ النثر لَيْسَتْ تاريخًا قائمًا بذاته فَحَسْب ، بَلْ هِيَ أيضًا جُغرافيا رمزية تُوظِّف الخِطَابَ التاريخي في فَلسفةِ اللغةِ التي تَؤُول إلى فَن تَعبيري عَن القِيمةِ الإنسانيةِ للحياةِ ، والبُنيةِ الشِّعْرِيَّةِ الكامنةِ في عَناصرِ الوُجودِ وأنسجةِ المُجتمعِ . والترابطُ الوثيقُ بَيْنَ فَلسفةِ اللغةِ والفَنِّ التَّعبيريِّ يُؤَدِّي إلى صِناعةِ أساليب لُغَوية جديدة تُعيد بِنَاءَ الوظيفةِ الشِّعْريةِ على كَينونةِ الزَّمَنِ ، وتُعيد صِياغةَ العَلاقاتِ الاجتماعية إنسانيًّا ورمزيًّا . وهذه الإعادةُ المُزْدَوَجَةُ تُسَاهِم في إدخالِ مَصادرِ المَعرفةِ في التجاربِ الحياتية ، وإخراجِ التياراتِ الشِّعْريةِ مِن إطارِ تَقديسِ الماضي والجُمودِ على التُّراث ، مِمَّا يَقُود إلى إعادةِ تعريفِ وَظيفةِ قَصيدةِ النثر باعتبارها انقلابًا لُغَوِيًّا على القوالبِ الجاهزةِ والأشكالِ المُسْتَهْلَكَةِ . وكُلُّ عمليةِ إعادة تَعريف على المُسْتَوَيَيْن الشِّعْري واللغوي هِيَ بالضَّرورةِ تَجديدٌ في تِقْنِيَّات الكِتابةِ ، وتَوسيعٌ لِحُدودِ الأجناسِ الأدبية ، حَتَّى تَشْمَل الأفكارَ المَقموعةَ ، والأحلامَ المَكبوتةَ ، والأزمنةَ المَنْسِيَّة ، والأشياءَ المَسكوت عنها .
إنَّ الإلهامَ الشِّعْري داخلَ قَصيدةِ النثرِ لَيْسَ انتظارًا لِمَا لا يَأتي ، بَلْ هُوَ صِناعةٌ دائمةٌ للألفاظِ والمَعَاني ، وإشراقٌ مُستمر في التجارب الحياتية كَمًّا وكَيْفًا، وتَوْليدٌ مُتَوَاصِل للصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَة. والشاعرُ الحقيقيُّ لا يَنتظر مَجِيءَ الأنساقِ اللغويةِ ، وإنَّما يَندفع باتِّجَاهها ، ويَقتحمها ، ويَندمج مَعَهَا ، ويَنقلب عليها ، مِن أجْلِ تَجميعِ شَظايا الانفجارِ الشِّعْري في العَواطفِ الإنسانية المُتأجِّجة، والحِفاظِ على دِيناميَّة قَصيدة النثر في ظِلِّ ضَغْطِ الهُوِيَّةِ على الذات ، وضَغْطِ التُّراثِ على الحاضر. وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية ، لأنَّه يَمْنَح التكثيفَ الوُجودي للمَعنى الشِّعْري شرعيةً أخلاقيةً ، وسُلطةً اجتماعيةً ، وقُدرةً على اقتحامِ أعماقِ الشاعرِ في رِحلةِ البَحْثِ عَن الحُلْمِ بَيْنَ الأنقاضِ .
وإذا كانَ الشاعرُ مُهَاجِرًا أبديًّا إلى أعماقِه وذِكْرَياته ، فَإنَّ قصيدة النثر مُسافرة أبدية إلى رُوحِ اللغةِ وفلسفتها . وهذه الحَركةُ الشِّعْرية الدؤوبة النابضة بالحَيَاةِ والحُرِّيةِ تَمْنَع كَينونةَ الزَّمَنِ مِنَ التَّحَوُّلِ إلى أُسطوانة مَشروخة ، وبالتالي يُصبح الزَّمَنُ تَيَّارًا للوَعْي ، وفَضَاءً إبداعيًّا ، ولَيْسَ سِجْنًا للإبداع .
مرتبطالمصدر: وكالة الصحافة المستقلة
كلمات دلالية: الم س ت یة الم ق صیدة
إقرأ أيضاً:
«حجّاج» مساعد قانوني ذكي يُبسط المفاهيم القانونية ويوفر إجابات دقيقة
وسط زحام التحديات القانونية التي تواجه المواطن اليمني، حيث تقف اللغة القانونية عائقًا أمام الفهم، وتغيب الاستشارات عن متناول الكثيرين، يطل علينا ابتكار يمني غير مسبوق: «حجّاج» – أول مساعد قانوني ذكي يفهم القانون اليمني ويترجمه بلغة بسيطة مفهومة.
في هذا اللقاء الحصري، نحاور الدكتور عاصم عبدالخالق، العقل اليمني الشاب المقيم في ألمانيا، وصاحب مشروع «حجّاج»، الذي قرر أن يسخّر خبرته في الذكاء الاصطناعي وهندسة الأنظمة الذكية لخدمة أبناء بلده وتمكينهم من حقوقهم القانونية، والذي سيحدثنا عن فكرة المشروع، مراحل تطويره، التحديات التي واجهها، وطموحه في تحويل «حجّاج» إلى منصة قانونية عربية شاملة:
الثورة/ هاشم السريحي
بدايةً، من هو المهندس عاصم عبدالخالق؟
أنا مهندس يمني نشأت في بيئة شغوفة بالعلم والتقنية، دفعتني الظروف إلى مواصلة دراستي في الخارج، حيث نلتُ الدكتوراه في هندسة أمان الأنظمة الذكية، وركّزت أبحاثي على أمن المركبات ذاتية القيادة. أعمل حاليًا في ألمانيا كباحث ومطور لدى شركة سيارات ذكية، وأؤمن بأن التكنولوجيا قادرة على تمكين المجتمعات، خاصة في منطقتنا العربية، ولهذا أركز على ابتكار حلول تقنية تخدم الإنسان قبل أي شيء آخر.
كيف وُلدت فكرة «حجّاج»؟ وما سبب تسميته بهذا الاسم؟
الفكرة انطلقت من ملاحظة بسيطة لكنها محورية: المواطن اليمني يجهل كثيرًا من حقوقه بسبب صعوبة اللغة القانونية وقلة المصادر الموثوقة، ومن هذا التحدي تولدت لديّ الرغبة في بناء مساعد قانوني ذكي يُبسّط المفاهيم القانونية ويوفر إجابات دقيقة وسهلة. استعنت بفريق من القانونيين اليمنيين، وبدأنا رحلة تطوير «حجّاج» ليكون أداة توعوية لكل مواطن.
أما اسم «حجّاج» فله دلالة تاريخية ولغوية دقيقة، مستمدة من التراث العربي القديم. ففي الثقافة العربية، كان يُطلق لقب «الحجّاج» على من يتولى مهمة عرض قضايا الناس أمام القضاة بطريقة فصيحة ومُحكمة، وهو بمثابة المحامي في عصرنا الحديث، وقد جاءت التسمية من الفعل «يُحاجج»، أي يُقيم الحجة ويُدافع عن الموقف بالحُجّة والمنطق، وهي الوظيفة الجوهرية التي يسعى «حجّاج» لأدائها اليوم، ولكن بلغة تكنولوجية معاصرة.
ما الذي يُميز «حجّاج» عن غيره من التطبيقات القانونية؟
تميز «حجّاج» يكمن في تركيزه الحصري على البيئة القانونية اليمنية، وفهمه للسياقين الثقافي والاجتماعي للمستخدم، لقد دربناه على قوانين وأحكام يمنية، واستعنا بمحامين محليين لضمان دقة الإجابات، كما حرصنا على تبسيط اللغة القانونية بحيث تصبح مفهومة حتى لغير المتخصصين، والأهم من ذلك، أن «حجّاج» لا يقدّم إجابات جاهزة فقط، بل يحلل السؤال وسياقه ويوجه النصيحة بناءً على ذلك.
حدثنا عن الجانب التقني لتدريب «حجّاج»؟
اعتمدنا على تقنية استرجاع المعرفة (Retrieval-Augmented Generation)، حيث يقوم «حجّاج» أولًا بتحليل السؤال ثم يستدعي المعلومات من قاعدة بيانات قانونية يمنية، وهذه القاعدة تتضمن الدستور والقوانين والأحكام وأمثلة حقيقية، كما استخدمنا نماذج مفتوحة المصدر متقدمة، مثل LLaMA وFalcon، وخصصناها لتفهم اللغة القانونية العربية.
هل يمكن الاعتماد على «حجّاج» كمصدر قانوني رسمي؟
نحن نؤكد دائمًا أن «حجّاج» أداة توعوية، لا بديلًا عن المحامي أو الاستشارة القانونية المتخصصة، وهدفنا أن نمكن المواطن من الفهم الأولي للقضية، وفي القضايا المعقدة نحثه على مراجعة محامٍ مؤهل.
هل كان للمحامين اليمنيين دور في تطوير المنصة؟
بلا شك، فإنه منذ انطلاقة المشروع، شارك معنا محامون يمنيون في مراجعة المحتوى وتحديثه، ولا يزال بعضهم جزءًا من الفريق إلى اليوم، كما أننا نرحب بملاحظات المحامين والمستخدمين لتطوير الأداء باستمرار.
ما أبرز التحديات التي واجهتكم؟
أبرز الصعوبات كانت في ندرة المصادر الرقمية القانونية، وصعوبة تبسيط المصطلحات دون إخلال بالمعنى، أيضًا، تدريب النماذج على بيانات قانونية متخصصة في ظل محدودية الموارد كان تحديًا كبيرًا، أما على المستوى الاجتماعي، فواجهنا ترددًا في تقبل فكرة الذكاء الاصطناعي في المجال القانوني.
كيف تضمنون وضوح اللغة القانونية لجميع المستخدمين؟
نعيد صياغة الردود بلغة قريبة من المستخدم العادي، ونشرح المصطلحات القانونية عند استخدامها، نستخدم أمثلة واقعية وأسلوب «السؤال والجواب» لتقريب الفهم، كما نطوّر واجهات صوتية ولغة عامية مبسطة لتسهيل الاستخدام.
ما مدى شمولية تغطية «حجّاج» للقوانين؟
يغطي «حجّاج» حاليًا قوانين الأحوال الشخصية، والعمل، والقضايا المدنية، وبعض جوانب القانون الجنائي، ونعمل على توسيع التغطية لتشمل فروعًا قانونية أخرى بحسب الأولوية والحاجة.
هل من خطة لتوسيع «حجّاج» إلى دول عربية أخرى؟
نعم، نخطط لتوسيع نطاق «حجّاج» إلى بلدان مثل مصر والمغرب والسعودية، لكننا بدأنا من اليمن لأن الحاجة كانت ملحة، وبعد التأكد من فعاليته محليًا، نسعى ليصبح منصة قانونية ذكية تخدم العالم العربي.
كيف كان تفاعل المستخدمين مع «حجّاج»؟
التفاعل فاق التوقعات، تلقينا آلاف الأسئلة خلال الفترة التجريبية، واهتمامًا كبيرًا من الشباب وخريجي القانون، حتى أنه تواصل معنا محامون لإبداء الإعجاب وتقديم اقتراحات.
هل هناك تعاون مرتقب مع الجهات القضائية؟
نعم، نحن منفتحون على التعاون مع الجهات القضائية والحكومية، وأجرينا محادثات أولية مع بعض الجهات ونأمل أن تتطور إلى شراكات رسمية قريبًا، ويمكن التواصل بنا في أي وقت عبر الإيميل:
asim.abdulkhaleq@outlook.de
ما هو دور الذكاء الاصطناعي في خدمة العدالة من وجهة نظرك؟
الذكاء الاصطناعي يعزز الكفاءة ولا يلغي دور الإنسان، وفي العدالة، يمكنه تسريع الوصول للمعلومة، وتسهيل الفهم، وتمكين المواطن من معرفة حقوقه، وفي بلد كاليمن، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يردم الفجوة بين الناس والقانون.
هل تخشون من إساءة استخدام «حجّاج»؟
نعم، ولذلك أدرجنا تنبيهات واضحة داخل النظام للتأكيد على أنه أداة توعوية. ونعمل على خوارزميات ترصد الأسئلة التي تتطلب تدخلًا بشريًا.
ما خططكم القادمة؟
نعمل على تطوير خاصية قراءة العقود والشكاوى قانونيًا، وإضافة قاعدة بيانات لمحامين يمنيين موثوقين، وتوفير نسخة صوتية تخدم ذوي الإعاقة البصرية.
ما رسالتك للمواهب الشابة في اليمن؟
رسالتي بسيطة: لا تنتظروا الفرصة، اصنعوها.. لديكم عقول مبدعة، فابدأوا بمشاريع صغيرة وستكبر مع الوقت، واليمن بحاجة إليكم، والذكاء الاصطناعي فرصة عظيمة لخدمة أوطاننا.