الشيخ ياسر السيد مدين يكتب: كيف وصلتنا السُّنة؟ (6)
تاريخ النشر: 14th, June 2024 GMT
رأينا فى المقال السابق بإيجاز كيف كانت صورة المجالس العلمية على عهد سيدِنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمنا أن التدوين العلمى للوحى بدأ مع بدايات الوحى بمكة المكرمة، كما رأينا من خلال ما سبق من مقالات أن التدوين كان على مَنحيَيْنِ؛ فهناك تدوين أمَرَ به سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وهناك تدويناتٌ شخصيةٌ كان يقوم بها الصحابةُ الكرامُ لأنفسهم.
وتدوين الصحابة للسُّنة المطهرةِ باعتبارها وحياً شريفاً أمرٌ لا يحتاج إلى أدلةٍ بعد أن علمنا أنَّ العرب قبل الإسلام كانوا يعتنون بأمرِ الكتابة والتسجيل لما هو أقلُّ شأناً من الوحى الشريف، فليس مستغرباً أن يعتنوا بكتابة القرآن والسنة!
وكيف لا يعتنون بتسجيل الوحى الشريف وقد افتُتح بالتنويه بشأنِ العِلم وأدواتِ كتابته وتعليمه، قال سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق]، والأمرُ بالقراءة فى هذه الآيات مرتين، مع ذكرِ (القلم).
وذكرِ أنه الأداة التى علَّم الله تعالى بها خَلقه ما لم يكونوا يعلمون، كلُّ هذا يشير إلى أهمية الكتابة والتدوين للوحى، ولذا اهتم الصحابة بكتابة الوحى عملاً بالمفهوم من هذه الآيات القرآنية، ثم نزل الوحى بعد ذلك مُقْسماً بـ(القلم) هذه الأداة الكريمة وبما سطَّره الكاتبون، فقال سبحانه: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، وليس المقسَم به ما يُسطّرُ من كذبٍ أو مجونٍ، وإنما هو شىء عظيم يستأهل أن يُقسم الله تعالى به، وأيُّ شىء أعظم من الوحى؟! فهذه الآياتُ قسَمٌ بما سجّلُوه.
وادعاءُ أن التدوين كان مقصوراً على القرآن الكريم وحده دون السُّنّة المطهرة -مع كونِها وحياً مثله- ادعاء تشهد الأدلة ببطلانه.
فقد ذكرنا أنّ كتابة السُّنة كانت تتم تحت سمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبصره، هذا بخلاف ما أمر هو بكتابته، وقد بدأت هذه الكتابة مع بدايات الوحى، ولهذا كان للصحابة الكرام صُحفٌ، والصحف هى الكُتُب كما فى قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} أى: الكُتب المنزلة عليهم.
فكان لعبدالله بن عمرو بن العاص مثَلاً أكثر من صحيفة، إحداها صحيفة سمَّاها «الصحيفة الصادقة»، فقد دخل عليه مجاهد بن جبر (ت 104هـ) فأراد أن يتناول الصحيفة الصادقة فتمنَّعَ عليه، فقال متعجباً: أتمنعنى شيئاً من كُتبِك؟!
وهذه العبارة صريحة جداً فى بيان تعدُّدِ كتبه، وأنها كانت معروفة لدى الجيل التالى لجيل الصحابة وهو جيل التابعين، وأنه رضى الله عنه لم يكن يمنعهم من النظر فيها والإفادة منها.
ولكن كان لهذه الصحيفة مَنزلةٌ خاصة عند سيدنا عبدالله بن عمرو بيَّنها له بقوله: هذه الصحيفة الصادقة، هذه ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينى وبينه أحد، وعبارته هذه يُفهم منها أنّ له صُحفاً أخرى رواها عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطةٍ إضافة إلى ما سجَّله من أحكام بعض الصحابة كسيدِنا عمر في بعض المسائل الفقهية، وكان له كتاب آخر سجَّل فيه ما يكون من الأحداث إلى يوم القيامة؛ أى: الأحاديث التى ذُكر فيها ما سوف يقع قبل يوم القيامة، وهذا الكتاب كان يحفظه فى صندوق خاص.
وظلت كتب عبدالله بن عمرو بن العاص هذه متوارثة فى أحفاده، وكانوا يُحدّثون منها، فكان حفيده فقيهُ أهل الطائف ومحدُّثهم عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص (ت 118هـ) يروى منها، ولهذا تكلَّم البعض فى روايته عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو باعتبار أنه اعتمد فى أغلبِ روايتِه على هذه الكُتُب المتوارثة دونَ سماعٍ لأكثرها.
وهذا له دلالات مهمة، وهى أن ثبوت هذه الكتب أمرٌ مقطوع به غيرُ مشكوك فيه عند العلماء، وأن المحدّثين كانوا يرون أن الأوثق وجود السماع مع الكتابة وعدم الاقتصار على الكتابة وحدها، وهذا تعمُّقٌ منهم فى التدقيق فى نقل السنة المطهرة.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: السنة النبوية المطهرة رسول الله صلى الله علیه وسلم عمرو بن
إقرأ أيضاً:
حكم القرض جبرًا لخاطر الناس في الإسلام
القرض.. قالت دار الإفتاء المصرية إن إقراض المال للناس مِن أقرب القُرُبات، والأصل فيه أن يكون عن تراضٍ لا سيما وأنَّه من عقود التبرعات، وإن شَابَهُ شيءٌ من كراهة باطنة فلا تُؤثِّر في صحة العقد ما دام تَمَّ بإيجابٍ وقبولٍ.
القرض من أعظم القربات إلى الله تعالى:وأوضحنت أن القرض مِن الأمور المندوب إليها لما يرمي إليه من تنفيس الكُرُبات وإقالة العثرات وإعانة المحتاج والرِّفْق به والإحسان إليه دون نفعٍ يبتغيه الـمُقرض أو مقابلٍ يعود عليه؛ ولذا يضاعف الله به الأجر والثواب، كما جاء في قول الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: 245]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: 11].
القرض في السنة:
وهو أيضًا ما نَصَّت عليه السُّنَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» أخرجه الإمام مسلم.
حكم إقراض الناس جبرا لخاطرهم مع كراهية ذلك
والأصل الذي تُبنَى عليه العقود المالية من المعاملات الجارية بين العباد هو أن تكون عن طِيْب نَفْسٍ وتراضٍ مِن كلا الطرفين، لا سيما عقد القرض؛ لأنه مِن عقود الإرفاق والتبرعات، فعن أبي حُرَّة الرَّقَاشِيِّ، عن عمِّه رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» أخرجه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى".
قال المُلَّا عليٌّ القَارِي في "مرقاة المفاتيح" (7/ 1974، ط. دار الفكر): [«إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ» أي: بأمرٍ أو رضا منه] اهـ. ولما كانت حقيقة الرضا -المدلول عليه في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].- أمرًا خفيًّا وضميرًا قلبيًّا اقتضت الحكمة رد الخلق إلى مرد كلي وضابطٍ جلي يُستدل به عليه، وهو الإيجاب والقبول الدالان على رضا العاقدين، كما أفاده الإمام شهاب الدِّين الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول" (ص: 143، ط. مؤسسة الرسالة)، والإمام صفي الدِّين الهندي في "نهاية الوصول في دراية الأصول" (2/ 314-315، ط. المكتبة التجارية).
القرض
والإيجاب والقبول هو التعبير الشرعي الظاهر عما في القلب من اتفاق على العقد، فكل ما دلَّ على الإيجاب والقبول فهو كافٍ في انعقاده، ومن ثمَّ فلا يؤثر كُرهُهُ الباطن في صحة العقد؛ لأن من قواعد الإسلام الثابتة أن الحكم في دار الدنيا إنما هو باعتبار الظاهر، وأما باعتبار البواطن والسِّرِّ فأمر ذلك ليس إلى الخلق؛ إذ حسابهم -أي: حساب بواطنهم وسرائرهم- على الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو المطَّلِعُ وحده على ما فيها.
فقد روى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ».
ومعنى ذلك أنَّه أُمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتفي بظواهر أحوال المسلمين ولم يؤمر بالبحث عن أحوالهم والاطلاع على ما هو مطوي عنه في قرائر نفوسهم؛ لأن الناس لهم الحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. كما أفاده الإمام النووي في "شرح النووي على مسلم" (7/ 163، ط. دار إحياء التراث العربي)، والأمير الصنعاني في "التنوير" (4/ 219، ط. مكتبة دار السلام).