يقول سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن حجَّ للهِ فلم يَرفُثْ، ولم يَفسقْ، رَجَع كيَوْمَ ولدتْهُ أمُّه» [متفق عليه]. إنها منزلةٌ عظيمةٌ حقاً أن يتطهرَ العبدُ من ذنوبِه ويصبحَ كيوم ولدتْه أُمّه!
إنَّ النفسَ البشريةَ خُلقتْ طاهرةً نقيةً، ولكنها تتلوثُ بمرورِ الأيامِ، تتلوثُ بشىءٍ مِن تقصيرِ الآباءِ، وبشىءٍ من آثارِ البيئةِ المحيطةِ، ثم تجنى عليها يدُ صاحبِها حينَ يَقترفُ الآثامَ غيرَ مبالٍ بها، وهذا مؤثّرٌ فيه لا شكَّ.
وفى هذا الحديثِ الشريفِ يبينُ لنا سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كيفَ يفوزُ العبدُ بالمغفرةِ التى تمحُو ذنوبَه، فيعودُ طاهراً كما ولدتْه أُمُّه، إنه يتجنبُ (الرفثَ) والرفثُ: الكلامُ الفاحشُ.
ويطلق أيضاً على المعاشرةِ الزوجيةِ، فالحاجّ منهىٌ عن الجماعِ مدةَ إحرامِه، والحجُّ يجعلُ النفسَ مسيطرةً على شهواتِها لا منقادةً لها، وإذا استطاع الحاجُّ أن يتحكمَ فى شهوتِهِ، ولم ينقدْ لها، وأمسكَ عليه لسانَه، فإنه بذلك يكونُ قد قطعَ الخُطوةَ الأُولى فى سبيلِ المغفرةِ.
ثم تأتى الخطوةُ الثانية وهى فى قولِهِ صلى الله عليه وسلم: «ولم يفسقْ»، أى لم يقترف المعاصى، ويَحسنُ بنا هنا أن نقفَ على أصلِ معنَى كملةِ (فسق)، تقولُ العربُ: فسَقَتِ الرطبَة عن قشرِها؛ أى: خرجتْ عنه، فالفاسقُ خارجٌ عن حدودِ الشرعِ الشريفِ، سواءٌ أكان مُخلاً بجميعِ أحكامِ الشرعِ أو ببعضِها.
والحديثُ الشريفُ هنا اشترطَ لحصولِ المغفرةِ عدمَ وجودِ الفسق، فكما أنَّ الحاجَّ حفِظَ لسانَهُ من الكلامِ الفاحشِ (الرفث)، وكما أنه تحكمَ فى نفسِه ولم يرتكبِ الشهوةَ التى أحلَّها الله تعالى له فى غيرِ وقتِ الإحرامِ، فكذلك عليه أن يتحكمَ فى نفسِهِ ويسيطرَ عليها فلا يدعَها ترتكبُ إثماً كبيراً أو صغيراً حتى يفوزَ بمغفرةِ الذنوبِ.
ثم تأتى البشارةُ فى قولِه صلى الله عليه وسلم: «رَجَع كيَوْم ولدتْهُ أمُّه»، وكلمةُ (رجع) تبينُ أنه يعودُ من حَجِّهِ نقىَّ اللسانِ، طاهرَ الأركان، مشابهاً يومُه يومَ ولادتِه فى خلوه من الذنوب، ومثلُ هذه النفسِ تتأثرُ بالقرآنِ الكريمِ إذا تَلَتْ، وبالذكرِ إذا ذكرَتْ، وبالصلاةِ إذا صَلَّتْ، وبالزكاةِ والصدقةِ إذا زكَّتْ وتصدقَتْ، وبالصيامِ إذا صامَتْ.
كيف لا وهى نفس نقية تقية التزمت الخير وتزودت التقوى؟ وكانت كما أمر الله تعالى فى كتابه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ}، فاجتنبتِ الرفثَ والفسوقَ والتنازعَ، وعمِلَتِ الخير، وتزودتْ مِن التقوى!
والمسلمُ بالحجِّ قد أكملَ أركانَ دينِهِ، ولا يصحُّ أن يكملَ أركانَ دينِهِ فى الصورةِ الظاهرةِ ثُم يخلُّ بها فى الباطنِ، والبعضُ قد يعودُ بعودتِهِ مِن الحجِّ إلى ما كان قد هجره من سيِّئ الأخلاقِ والأفعالِ والأقوالِ، وهذا انتكاسٌ لا يليقُ بمسلمٍ عاقلٍ أن يرتكبَه، خصوصاً بعد أن غُفرَتْ له ذنوبُه وأعطىَ فرصةً عظيمةً فى أن يبدأَ الحياةَ بدايةً جديدةً يجمعُ فيها بينَ طهارةِ الولادةِ وخبرةِ النضجِ الذى اكتسَبَهُ فى أيامِ عُمرِةِ، إنه مكسبٌ عظيمٌ لا يليقُ بعاقلٍ ناضجٍ أن يَفقده.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: فريضة الحج صلى الله علیه وسلم ولدت ه
إقرأ أيضاً:
حكم حفظ القرآن الكريم وبيان فضل حفظه
أوضحت دار الإفتاء أن حفظ القرآن واجبٌ كفائيٌّ على أهل كل بلدة، وذلك حتى يظل القرآن الكريم محفوظًا بينهم، مؤكدًا أنه واجب عيني على كل فرد فيما يتأدى به فرض الصلاة، ومن مقاصد الشرع تيسير حفظ القرآن الكريم؛ فقد قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ القمر: 17.
قال الإمام الرازي في "تفسيره" (29/ 300، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه وجوه؛ الأول: للحفظ، فيمكن حفظه ويسهل، ولم يكن شيء من كتب الله تعالى يُحفظ على ظهر القلب غير القرآن، وقوله تعالى: ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ أي: هل مَن يحفظ؟] اهـ.
وقال الإمام القرطبي في "تفسيره" (17/ 134، ط. دار عالم الكتب): [أي: سهَّلناه للحفظ وأعنَّا عليه مَن أراد حفظه، فهل مِن طالبٍ لحفظه فيعان عليه؟.. وقال سعيد بن جبير: ليس مِن كُتُبِ الله كتابٌ يُقرَأُ كلُّه ظاهرًا إلا القرآن] اهـ.
وأضافت الإفتاء أن المسلمون مكلَّفون بما في وسعهم وطاقتهم، ولم يحمِّلهم الشرع إلَّا على قدر ما آتاهم الله من الوسائل لتحقيق المقاصد؛ قال الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقال سبحانه: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: 7]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فائتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم» رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فضل حافظ القرآن الكريمقالت الإفتاء إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أن متعلمَ القرآن ومعلِّمَه خيرُ الأمة؛ فقال: «خَيْرُكُمْ -وفي رواية: إِنَّ أَفْضَلَكُمْ- مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رواه البخاري من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
قال الإمام أبو الحسن بن بطال في "شرح البخاري" (10/ 256، ط. مكتبة الرشد): [حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان مَن تعلم القرآن أو علَّمه أفضلَ الناس وخيرَهم دلَّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيريةُ والفضلُ مِن أجل القرآن، وكان له فضلُ التعليم جاريًا ما دام كلُّ مَن علَّمه تاليًا] اهـ.
وبيَّن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن حافظ القرآن وقارئَه مع الملائكة في المنزلة؛ فقال: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ» رواه الإمام البخاري في "صحيحه" من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وتابعت الإفتاء، قائلة: وحافظ القرآن لا تمسه النار؛ فروى الإمام أحمد في "مسنده" والدارمي في "سننه" عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ فِي إِهَابٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ»، قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: [«في إهابٍ» يعني: في قلب رجل، هذا يُرْجَى لمَن القرآنُ في قلبه أن لا تمسه النار] اهـ. نقلًا عن "الآداب الشرعية" للعلامة ابن مفلح (2/ 33، ط. عالم الكتب). وممَّا سبق يُعلَم الجواب عما جاء بالسؤال.