روايات سودانية مأساوية عن الموت عطشا في الصحراء
تاريخ النشر: 14th, June 2024 GMT
القاهرة- في منزل بسيط بالعاصمة القاهرة، تحاول أسرة أحمد مصطفى (اسم مستعار) السودانية تمالك نفسها والتصالح مع محنتها بعد فقدان الزوجة وابنها المصاب بمُتلازمة داون، حيث توفيا في رحلة مرعبة عبر الحدود مع مصر بسبب ضربة شمس على الأرجح.
وشهدت الطرق الصحراوية الرابطة بين السودان ومصر حوادث مروعة خلال الأسبوعين الماضيين، وتناثرت جثث عشرات السودانيين الذين حلموا بالأمان حين غادروا جحيم الحرب في بلادهم بعد أشهر من الصبر والأمل دون أن يحصدوا ما يعينهم على البقاء.
وكان ركوب المجهول مصيرا قاتما قاد بعضهم إلى نهايات مأساوية تسببت فيها درجات الحرارة المرتفعة والعطش، علاوة على تعامل قاسٍ من المهربين الذين تركوا العشرات يغالبون الموت وسط الصحراء.
شبح الحربوكانت أسرة أحمد مصطفى تعيش حياة رغيدة في مدينة "الدويم" بولاية النيل الأبيض جنوبي السودان، إلى حد أن التفكير في الهجرة لم يخطر لهم إلا بعد تهديد شبح الحرب لمنطقتهم.
تقول الابنة الوحيدة للأسرة -وسط 3 أشقاء- للجزيرة نت إنه بعد هجمات قوات الدعم السريع على منطقة "الأعوج" (على بعد نحو 30 كيلومترا من الدويم)، قررت العائلة التوجه إلى مصر ولمتابعة حالة شقيقها الذي يعاني من متلازمة داون.
وفور وصولهم إلى مدينة عطبرة بولاية نهر النيل شمالي السودان، قبل أسبوعين، أمضت الأسرة ليلتها في المدينة وتوجهت فجرا إلى المنطقة المخصصة للتهريب حيث تتوافر السيارات المخصصة للرحلة. وأضافت الابنة "بعد دفع ثمن الرحلة، استقلينا عربة مكشوفة (بوكس) في طريقنا إلى مصر وقالوا لنا إنها ربما تستمر 24 ساعة أو يومين على الأكثر، وكان يقود السيارة سائق سوداني حتى وصلنا إلى منطقة تسمى التخزينة".
والتخزينة منطقة فاصلة بين الحدود السودانية المصرية شُيدت فيها خيام بطرق بدائية صُنعت غالبها من القش والخشب، يبقى فيها المهاجرون حتى يتسنى للمهربين معرفة أحوال الطريق والبحث عن طرق بعيدة عن أعين حرس الحدود المصري.
تواصل الشابة رواية تفاصيل رحلة الموت المفزعة قائلة "بعد 6 ساعات في التخزينة، تحركت السيارة وكانت الساعة حوالي الثانية بعد الظهر، وبعد نحو ساعة، شعرت بثقل جسد أخي المريض وعدم تجاوبه مع حديثي". حاولت تحريكه وشعرت بالرعب عندما رأت عينيه تتسعان، مما يبدو وكأنه في اللحظات الأخيرة من حياته، فطلبت المساعدة من والدها الذي كان منشغلا أيضا بصمت أمها وقلة حركتها، كما تضيف.
وتتذكر أنه مع صراخها على الآخرين ومطالبتهم بإيقاف السيارة، تحول الوضع إلى حالة من الرعب لا توصف عندما رأت رأس والدتها متدليا للأسفل وشقيقها ميتا. وفقدت وعيها على الفور ولم تستيقظ إلا في منطقة "الكسارات" داخل الحدود المصرية. ووسط دموع الحزن تساءلت "رحلت أمي وشقيقي ولا نعلم لماذا، استفقت من صدمتي ووجدت عليهما أثوابا بيضاء ووالدي منهار يخبرني بوفاتهما".
وخلال الأسبوعين الماضيين، كثّف مغردون سودانيون -على مواقع التواصل- حملات تحذيرية للعائلات السودانية من السفر إلى مصر عن طريق المهربين بسبب ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية، حيث تلامس حاجز الـ50 درجة.
وتداول المغردون بحزن بالغ فقدان الأمين أحمد مدير بنك النيلين بأم درمان -خلال لحظات- 3 من أبنائه بعد تعرضهم لضربة شمس أثناء محاولة الأسرة عبور الحدود بالتهريب. وكان الشباب الجامعيون يأملون في إكمال دراستهم في مصر، لكن مع تعطل سيارة المهرب في الصحراء في وضح النهار وارتفاع درجة الحرارة، "تساقطوا" أمام أعين والديهم دون أن يتمكن أحد من إنقاذهم.
وأعلن قنصل السودان بأسوان عبد القادر عبد الله، في تصريح الأسبوع الماضي، دفن 51 جثمانا -خلال 3 أيام- لسودانيين قادمين إلى مصر عبر التهريب، ماتوا بسبب العطش والحوادث المرورية وضربات الشمس، فيما لا يزال آخرون في انتظار استكمال إجراءات الدفن. وحذر السودانيين من مخاطر الدخول إلى مصر عبر التهريب، بعد تقارير عن تزايد رحلات العبور غير القانوني بين البلدين.
ودائما ما تحدث صعوبات كثيرة أثناء الرحلة المهلكة التي يرتبط توقيتها بتحرك القوات المصرية على الحدود، كما يؤكد الإمام عبد الإله، الذي يعمل في الحجز للمسافرين إلى مصر من مدينة عطبرة.
وفي حديث للجزيرة نت، يعتقد الإمام أن الاحتياطات الضرورية التي يقوم بتوفيرها المسافرون كافية لوصولهم سالمين، بيد أن سائقي سيارات التهريب يضغطون على الركاب للاستغناء عن بعض الاحتياجات المهمة مثل الماء بحجة تخفيف الوزن.
ويؤكد أن عددا من الأشخاص وأفراد أُسر بأكملها توفوا بسبب العطش، مع صعوبة العثور على الماء في تلك الصحاري الواسعة وامتناع السائقين عن حمل المياه بكميات كافية.
وذكرت وكالة الأنباء السودانية، منتصف الأسبوع الماضي، أن سوء الطقس تسبب بموت عشرات المسافرين إلى مصر عبر الصحراء.
الموت عطشاوفي تصريح للجزيرة نت، أكد تاجر سوداني يعمل بين السودان ومصر، وفاة أسرة كاملة مكونة من أب وأم و3 أبناء تتراوح أعمارهم بين 10 و25 سنة. ويقول إنه شاهد جثث العائلة "التي ماتت بسبب العطش وارتفاع درجة الحرارة"، كما أكد له طبيب مصري في إحدى مستشفيات أسوان.
وحدثت وفيات عديدة كذلك -مثلما يقول- بسبب حوادث سيارات يقودها السائقون بسرعة عالية جدا، كما توفي آخرون جراء السقوط من المركبات أثناء الرحلة حيث يرفض البعض توثيقهم بالحبال لمنع السقوط من السيارات المكشوفة.
وبحسب الشاهد، فإن الأسرة، التي تابع بنفسه إجراءات دفن موتاها، تحركت من ولاية الجزيرة بوسط السودان إلى ولاية نهر النيل شمالا وسافرت وصولا إلى الحدود السودانية المصرية ومن هناك انتقلت إلى عربة ثانية، وكانت هذه "العائلة المنكوبة" بين 16 شخصا آخرين في سيارة واحدة.
وتابع "كان هناك ضيق شديد في السيارة وعندما وصلوا على بعد 60 و70 كيلومترا من أسوان، حدث عطب في السيارة وانقلبت بهم ولم ينجوا منها غير شخص واحد من أسرة تضم 8 أشخاص وأصيب بإصابات بليغة".
وأكد أن ظاهرة الموت عطشا بين المسافرين أكثر انتشارا حيث يمنع المهربون العائلات أو المسافرين من حمل المياه بحجة "التحميل على السيارة وانغراسها في الرمال"، كما أن دوران السيارات كثيرا -لتجنب القوات المصرية- يضيع وقتا كثيرا وسط حرارة لاهبة تتضاءل معها فرص النجاة.
وذكر أن بعض زملائه صادفوا أسرة مكونة من 6 أفراد، توفي 3 منهم عطشا بعد أن فر السائق وتركهم في الصحراء خوفا من ملاحقة القوات المصرية، فيما تم نقل الثلاثة الآخرين إلى المستشفى، وتوفي أحدهم في وقت لاحق.
وقال السوداني المقيم في مدينة أسوان المصرية، أبا ذر الصديق أحمد، للجزيرة نت، إن مجموعة من السودانيين المقيمين في المدينة جمعوا بعض الأموال وتفقدوا أحوال بعض المصابين وقاموا بدفن بعض الجثث.
وأقر الصديق أحمد بخطورة رحلة السودانيين الفارين إلى مصر قائلا "الوضع أصبح صعبا للغاية ولا يمكن وصفه. هناك حرب وهنا موت. لقد دفعنا أموالنا وذهبنا كمجموعات لدفن الموتى وتغطيتهم، واستأجرنا سيارات لتمشيط المنطقة المفتوحة لإنقاذ من يمكن إنقاذهم".
وتابع أنه رغم التحذيرات "لكن كثيرا من الناس لا يستمعون للنصح". وهناك العديد من الحوادث التي وقعت بسبب العطش والحر "ووحشية المهربين واستهتارهم". وهناك حالات وفاة كثيرة، "والعدد يتجاوز 50 شخصا".
في الأثناء، دعا "حزب المؤتمر الشعبي" الأجهزة الإعلامية وناشطي الإعلام والمجتمع ومواقع التواصل، وأئمة المساجد، إلى إطلاق حملة توعوية للأسر "لتجنب مخاطر هذه التهلكة". وطالب مؤسسات الدولة المعنية باتخاذ التدابير الناجعة لمواجهة هذه المخاطر.
كما ناشد الحزب -في بيان له- الدول الصديقة -خاصة مصر-تسهيل إجراءات الحصول على تأشيرات الدخول، لافتا إلى أن هذه الإجراءات أصبحت بالغة التعقيد مما يجعل السودانيين ينتهجون طرق السفر غير القانونية التي تعرض حياتهم للخطر.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات للجزیرة نت فی الصحراء بسبب العطش إلى مصر
إقرأ أيضاً:
تقرير أممي: مستوى الدمار في الخرطوم “يفوق التصور”
أظهر تقرير أممي حديث نشر، الجمعة، أن مستوى الدمار في العاصمة السودانية الخرطوم "يفوق التصور"، وذلك بعد نحو عامين من الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، وقال محمد رفعت، رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في السودان إن الخرطوم تعيش وضعا كارثيا، مسلطا الضوء على الأوضاع المروعة التي يواجهها المدنيون في المناطق المتضررة.
وتحدث رفعت إلى صحفيين في جنيف، الجمعة، عقب زيارة استغرقت أربعة أيام للعاصمة السودانية وضواحيها، مشيرا إلى أنه زار مناطق لم يكن الوصول إليها ممكنا من قبل، وشاهد بأم عينه حجم الدمار والمعاناة التي يعيشها الناس في هذه المناطق.
وأضاف: "أستطيع أن أقول لكم إن محطات الكهرباء نُهبت، وأنابيب المياه دُمرت. أنا لا أتحدث عن مناطق معينة، بل أتحدث عن كل مكان ذهبت إليه. لقد كنت في مناطق حروب في ليبيا واليمن والعديد من مناطق الصراع الأخرى. ومستوى الدمار الذي رأيته في بحري والخرطوم لا يمكن تصوره. لم يكن هناك استهداف لمنازل الناس فقط، ولا للمناطق الإدارية، ولا للمناطق العسكرية، بل لكل البنية التحتية الأساسية التي يمكن أن تحافظ على حياة الناس".
وأعربت الأمم المتحدة عن قلق بالغ إزاء التقارير التي تفيد بنزوح المدنيين من العاصمة السودانية الخرطوم بسبب العنف والمخاوف من عمليات القتل خارج نطاق القانون، في أعقاب التغيرات التي طرأت مؤخرا بشأن السيطرة الفعلية على العاصمة.
وضع صعب ومعقد
وأشار المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إلى أن الوضع العام في السودان لا يزال معقدا وصعبا، حيث يفر المدنيون من أجل سلامتهم في بعض المواقع، ويحاولون العودة إلى ديارهم في مواقع أخرى، وغالبا إلى مناطق دمرت فيها الخدمات الأساسية بسبب الصراع، وحيث يواجهون أيضا خطر مخلفات المتفجرات والقذائف غير المنفجرة.
وأوضح أن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) يعمل على الوصول إلى السكان في مدينة كادقلي، عاصمة جنوب كردفان، من خلال تسهيل إرسال قافلة مساعدات إنسانية تحمل إمدادات التغذية والصحة وتطهير المياه. ولكن القافلة لا تزال متوقفة في الأبيض، عاصمة شمال كردفان، بسبب انعدام الأمن والعقبات البيروقراطية.
وقال دوجاريك إن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، توم فليتشر، أعرب عن غضبه، الخميس، إزاء التقارير التي تتحدث عن تصاعد الهجمات على المطابخ المجتمعية والمساحات الآمنة التي يديرها المتطوعون في السودان، وشدد على ضرورة حماية ودعم العاملين في المجال الإنساني.
وذكّر بأن القانون الدولي الإنساني يُلزم جميع الأطراف بالسماح وتسهيل الإغاثة الإنسانية، بسرعة، وبلا عوائق، وبحياد، للمدنيين المحتاجين، بغض النظر عن الموقع أو انتماء هؤلاء المدنيين.
حاجة إلى التمويل
وأشار رفعت إلى الحاجة الملحة لتوفير التمويل الإنساني للأدوية والمأوى ومياه الشرب والتعليم والرعاية الصحية، بالإضافة إلى ضمان وصول إنساني غير مقيد للمتضررين من الصراع. ونبه إلى أن محدودية الوصول الإنساني ونقص التمويل أدت إلى معاناة هائلة، خاصة بالنسبة للنساء.
وأكد أن العديد من المنظمات غير الحكومية أوقفت أو قللت عملياتها بسبب نقص التمويل، وأن السودان يواجه أكبر أزمة نزوح في العالم، حيث يوجد أكثر من 11 مليون نازح داخلي.
ودعا رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة إلى التركيز على إعادة البناء، مشيرا إلى أن ترميم الخرطوم والمناطق الأخرى سيستغرق وقتا، لكن من الممكن توفير مأوى وسبل عيش كريمة بمجرد توفر الموارد اللازمة.
وأوضح أن خطة استجابة المنظمة الدولية للهجرة في السودان تسعى للحصول على 250 مليون دولار لمساعدة 1.7 مليون شخص، لكن لم تتم تغطية سوى 9% من الأموال المطلوبة حتى يناير 2025.
وتسببت الحرب بمقتل وإصابة عشرات الآلاف ونزوح وتهجير الملايين داخل البلاد وخارجها، وخسائر مادية واقتصادية فادحة بمختلف القطاعات.
الحرة - دبي