الحب هو الحب، والأدب هو الأدب، فليس هناك شعر لفترة زمنية معينة، وإلا لنسي العالم الشعراء، وليس هناك ما هو مطلق، بل لعل المذاهب الأدبية تتعايش، ولا تلغي بعضها بعضا، والمهم هنا الصدق الأدبي الإنساني.
ها نحن نعود مرة أخرى إلى الروائع الخالدة، من منظور أثر الشعر في التكوين الإنساني، وأثر ذلك على إنشاء نصوص متعددة؛ فالشاعر علي محمود طه رائد مدرسة أبولو الشعرية، ظل مع اختلاف مذاهب الشعر حاضرا:
إذا داعبَ الماءُ ظلَّ الشَّجرْ وغازلَتِ السُّحْبُ ضوءَ القمرْ
وردَّدتِ الطير أنفاسَها خوافقَ بين الندى والزَّهَرْ
وناحتْ مُطوَّقةٌ بالهوى تناجي الهديل وتشكو القدرْ
ومرَّ على النهرِ ثغرُ النسيم يُقَبِّلُ كلَّ شراعٍ عبرْ
وأطلعتِ الأرضُ من ليلها مفاتنَ مختلفاتِ الصُّورْ
هنالك صفصافةٌ في الدُّجى كأنَّ الظلامَ بها ما شعرْ
أخذتُ مكانيَ في ظلها شريدَ الفؤادِ كئيبَ النظرْ
أمرُّ بعيني خلال السماء وأُطرقُ مستغرقًا في الفِكَرْ
أطالعُ وجهك تحت النخيلِ وأسمعُ صوتك عند النَّهَرْ
إلى أنْ يَمَلَّ الدجى وحشتي وتشكو الكآبةُ مني الضجرْ
وتعجبُ من حيرتي الكائناتُ وتُشفِقُ منِّي نجومُ السَّحرْ
فأمضي لأرجع مستشرفًا لقاءَك في الموعد المنتظَرْ!!
سيهتف أحد: لقد تغير الزمان، وتغيرت الذائقة الشعرية، لكن ما يهم هنا، أن المشاعر الإنسانية موجودة؛ فمثل هذا العاشق، حتى ولو في هذا العصر، ما زال موجودا، بل وسيجد أن علي محمود طه يعبر عنه.
مرت عقود على إبداع القصيدة، وستمر قرون وهي خالدة، حتى لو تغيرت أساليب الحياة، لسبب بسيط عميق أن المشاعر الإنسانية خالدة.
هنا في هذا القسم، سنقرأ قصة حب قريبة المضمون من القصيدة، فماذا يعني ذلك بعد مرور 80 عاما على القصيدة، بل ثمة نصوص عمرها قرون أيضا ما زلنا نعيشها.
فهذا عاشق يتساءل: كيف مرّ هذا اليوم!
ها هو الماء في غروب الشمس يصير كأنه مرآة مصقولة، أرى فيها نفسي، لأجلس قليلا هنا قال لنفسه، فيما راح يتذكر قصيدة علي محمود طه، فكأنه رأى نفسه بطلها.
راح يتأمل تفاصيل المكان، انسجام جميل بين الطبيعة، سيمفونية هديل الحمام وتغاريد البلابل، موسيقى تودع ما بقي من نهار. ومع كل هبة هواء تتحرك أشرعة القوارب الصغيرة، فيتحرك معها قلبي. ما أجمل كل ما أرى وأسمع.
شرب صاحبنا القهوة، ثم نهض ونظر حوله، يبدو أنه لا يدري إلى أين سيذهب، وبدأ الليل يحل، قادته ابتعد عن الشاطئ حيث حركة الناس النشطة، قادته قدماه الى داخل الحديقة، لم تكن مضاءة، لكن بعض النور كان يصلها.
تلك هي الصفصفافة العظيمة التي يحبها دوما، كم جلس عليها طفلا وفتى وشابا، قديمة الشجرة، حين سأل مرة عامل الحديقة عن عمرها، أجابه أنه طوال عمره من طفولته وهو يراها هكذا.
هذا هو مكاني، قال لنفسه وجلس كمن يلجأ لها.
تذكر كيف أنه التقى بها هنا أول مرة وهي تعود مع صاحباتها من الكلية، وكيف التقت عيونهما معا، وكم فرح عندما أومأت لصاحباتها بالجلوس هنا.
كأنها أمامه الآن، وكأنه يسمع صوتها، فقد جمعتهما الصفصفافة في أكثر من لقاء سريع، فيما راح يتذكر آخر لقاء بينهما في الجامعة، حين شعر أنها متضايقة، وأنها تتجنب الاقتراب من المكان الذي يكون فيه.
فيما بعد، صارت الصفصافة بريدنا اليومي، نضع في مكان رسائلنا، وفيها مواعيد اللقاء، وكم فرحت يوما حينما ضرت لي موعدا في مكان بعيد عن طلبة الكلية، على الضفة الأخرى من النهر. كنت أعبر النهر كأنني أول مرة أعبره، وهناك في المكان المحدد سبقني قلبي. جلست هناك، كان كل شيء مختلفا، صار أكثر جمالا.
إنه أول لقاء لي مع سعاد، لا أدري كم انتظرت وكيف، كنت مبتسما داخل قلبي. أخذت بالتفكير ماذا سأقول لها، صرت شاعرا في لحظات. خطر في بالي أن أكتب لها حتى لا أنسى، لكن لم أفعل. كنت أنتظرها، توقعت أن أراها وهي تقترب من بعيد، لكن يبدو أن سرحت في خيالي لدرجة كبيرة.
- مرحبا!
- .....
هكذا فجأة رأيتها أمامي، بدون مقدمات، فلم أدر من أين دخلت المكان. انتبهت لتأثري، ثم جلست.
- هل هذا مكانك المفضل؟ قالت ذلك كأنما لتكسر الجليد.
- كل مكان هنا جميل وأنت فيه. انتبهت سعاد وأنا أشرب الماء لعلّ احمرار خدودي يخفّ.
ولا أدري كيف مرّت ساعتان ونحن هناك، لم نترك حديثا إلا تحدثنا به، كان كل منا يحب الاستماع للآخر، كنت أحب سماعها، وأحب ابتسامتها، ولا أدري ذلك المساء هل عدت الى البيت سيرا أم طيرانا.
وتواصلنا، وفي كل لقاء كنت أطير، بل نطير.
"لا أدري ماذا بها" قال لنفسه، ونظر الى صفحة السماء التي بدأ القمر بدرا.
"لعلها تضايقت من حديثي مع تلك الطالبة التي اعترضت طريقي لتسألني عن محاضرة الأمس..ربما"..
هي زميلتنا الجميلة، وهي بالطبع لا تعرف ما بيني وبين سعاد. هي فقط من حين لآخر تلقي علي تحية الصباح، ولا يطول حديثا لأكثر من نصف دقيقة.
راح أحمد يتذكر الأيام السابقة كأنها شريط، ليرى ما الذي أثّر على سعاد. لم يجد شيئا، فهو يعرف نفسه وما يفعله كل يوم، ربما هناك شيء آخر لا يتعلق بي.
"كل شيء هنا يدعو للفرح لكنني حزين". قال في نفسه، منتبها أنه تأخر تحت الصفصافة، فنهض متجها الى الشاطئ، فما ذنب هذا الليل كي أزيد وحشته.
الليل جميل بنجومه، كأنه الأمل أيضا.
كتب رسالة قصيرة ووضعها في المكان المتفق عليه بينهما تحت الصفصافة:
لا أدري كيف مرّ النهار اليوم، ولا أدري كيف سيمرّ الليل، ما بك؟ لماذا تبتعدين؟ إن كان هناك أمر ما اعلميني لكن لا تتركيني هكذا حزينا.
سأنتظرك غدا في مكاننا الذي تعرفين بعد المحاضرات، سلام لك.
بدأ النور يزداد أكثر فأكثر، ازداد صوت الباعة، لم يجد إلا نفسه بين البشر الكثيرين هنا. نظر الى الماء والقوارب، واستمع لأغنية لأم كلثوم جاءت كلماتها معبرة عما يجول في خاطره، ابتسم، وأخبره قلبه أنه غدا سيلقاها بابتسامتها الجميلة.
لا يدري لم عاد مرة أخرى الى صفصافته، وتعجب حين رأى رسالته ليست في مكانها، وأن رسالة أخرى مكانها، ما إن لمسها حتى فاح عطر منها، لا يدري بأي قلب يفتحها:
"ليس هناك يا أحمد الا ما هو جميل وأجمل، لكن في بلادنا لا تجري أمور المحبين بشكل عاديّ، لقد ابتعدت قليلا حتى لا يؤذينا أحد بكلمات، سنلتقي في الكلية دوما برفقة الزملاء والزميلات فقط، لكن دوما ستجدني هناك، على الضفة الأخرى من النهر، غدا نلتقي. (ثمة منظور سوسيولوجي هنا عن العلاقات داخل المجتمع)
ما تحدثنا عنه هو نوع من أدبيات تتعلق بالشعور والأدب، وكيف يؤثر الأدب في تكوين الإنسان، ومحاكاة النص، وصولا الى التساؤل عن مدى تأثير النص في هندسة النفوس والمشاعر، أو إن شئنا، يمكن تناول توارد الخواطر بين المبدع والقارئ، فيصير القارئ-العاشق مبدعا.
تلك منطلقات نفسية تستحق تأملها، ونحن نقيس الإنسان الشاهد على الغائب، وكيف يمر الإنسان المعاصر برحلة القديم النفسية، فتذوب فوارق الزمن.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: لا أدری
إقرأ أيضاً:
درة: أصبح هناك توجهات لطمس هوية الفلسطينيين
تحدثت درة على هامش محاضرة " السينما الفلسطينية واللبنانية" التي أقيمت اليوم ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي عن فيلمها الوثائقي " وين صرنا" بجانب عدد من مخرجات الدول العربية قائلة: "مبسوطة إني موجودة النهاردة وسط هؤلاء المخرجات لأنني أتعلم منهم كوني ممثلة بالاصل وكل مخرجة منهما لديها عدة أفلام أعجبتني للغاية ووجودي معهم يعطيني خبرة أكبر".
سبب إخراج درة لفيلم “وين صرنا ”
أضافت درة قائلة: "ما دفعني لإخراج هذا الفيلم ليس فقط حبي للسينما، ورغبتي في الإخراج ولكن إصراري على تقديم نموذج هذة الأسرة الفلسطينية، أنا تربيت على أن القضية الفلسطينية هي قضية كل العرب وكل إنسان وأذكر أنني سمعت شخصا مع ما يحدث في فلسطين يقول " ليس هناك دولة فلسطين أو شعب فلسطيني" أصبح هناك توجهات لطمس هوية الفلسطينين بشكل كبير".
تستكشف هذه الندوة قوة السرد في تحفيز قدرات الأفراد على المقاومة والتحمل في أصعب اللحظات والمواقف، ويحكي الحضور عبر خبراتهم ووعيهم الثقافي الفريد عن تجاربهم في تشكيل السرد السينمائي وروايات الهوية الشخصية والجماعية، ومحاولات البقاء والخلافات والنبرات الانهزامية.
يناقش الضيوف تحديات صنع الأفلام في مناطق الصراع والنزوح وتلك المحاصرة بالقيود السياسية، وعن خبرة كل منهم في استخدام الإبداع للدفاع عن رؤيتهم والنجاة من الأسى والمآسي.
تسلط الحلقة النقاشية الضوء على التقنيات السردية التي يمكنها تحوّل قصص الصراع الشخصي إلى سرديات مهمة إعجازية تلهم الجماهير وتحفّز المجتمعات على الاستمرار والمقاومة.