القاهرة … مؤتمر حوار سياسي أم مسار تفاوض عسكري سوداني؟
تاريخ النشر: 14th, June 2024 GMT
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
أعلنت جمهورية مصر العربية استضافتها مؤتمراً للقوى السياسية المدنية السودانية نهاية يونيو 2024 في إطار حرصها على بذل كافة الجهود الممكنة لمساعدة السودان على تجاوز الأزمة المُهلكة التي يمر بها، ومعالجة تداعياتها الخطيرة على الشعب السوداني وأمن واستقرار المنطقة، سيما دول جوار السودان.
ومما لا شك فيه أن مصر تحظى دائماً باحترام حقيق ومستحق في كافة الأصعدة السودانية والإقليمية والدولية لدورها المشهود في تحقيق الأمن والاستقرار في دول المنطقة، خاصة في السودان الذي تربطه بمصر علاقات أزلية تمتد جذورها لآلاف السنين. وبنفس القدر من التبجيل والتقدير تحتل المملكة العربية السعودية منزلة رفيعة ومرموقة على كافة المستويات السودانية والإقليمية والدولية لدورها الوازن في السعي لإنهاء الحرب المستعرة في السودان بين الجيش والدعم السريع عبر منبر جدة الذي ظلت ترعاه بصبر وحكمة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تميَّزت جهود مصر والسعودية المتواصلة لاحتواء الفاقرة الأمنية والإنسانية والسياسية في السودان بحرصهما الصادق على إشراك الكيانات الثنائية ومتعددة الأطراف الإقليمية والدولية في كافة المبادرات المطروحة لإكساب مخرجاتها الضمانات والشرعية اللازمة.
وعلى الرغم من هذه الجهود الحثيثة للدولتين الشقيقتين فقد ظلت الحرب في السودان تزداد ضراوة مخلفة فاجعة إنسانية وكارثة اقتصادية غير مسبوقة. وساهم في هذه الحالة المأساوية للسودانيين في مناطق الإحتراب والنزوح واللجوء رفض قيادة الجيش لمبادرات الإيقاد والاتحاد الإفريقي، بل عدم قبولها لمواصلة الحوار عبر منبر جدة بحجة نكوص الدعم السريع عن تنفيذ اتفاق مسبق بإخلاء منازل المواطنين والأعيان المدنية. ومن ثَمَّ أخذت قيادة الجيش تتبضع بين مبادرات الإيقاد، والاتحاد الإفريقي، ودول الجوار السوداني، والبحرين، وليبيا وتركيا، والتي يعوِّل جميعها على التكامل مع منبر جدة الذي ترفض قيادة الجيش العودة إليه إلا بشروط أقرب للتعجيزية بالنسبة للدعم السريع. وحتى إذا نجح الوسطاء في إرغام قيادة الجيش للعودة لمسار جدة دون شروط، فإن فرص تحقيق اختراق عبر هذا المسار لا تزال ضئيلة نظراً لافتقاد منبر جدة لآلية عسكرية ميدانية تجبر الجيش والدعم السريع على تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه دون مماطلة.
ومن واقع سد الأفق أمام منبر جدة بواسطة قيادة الجيش رغم المساعي الأمريكية والسعودية الحثيثة لاستئنافه، وفي ظل رفض الجيش لمبادرات الاتحاد الإفريقي والإيقاد التي يعطي جميعها الأسبقية للتفاوض بين العسكريين المتقاتلين، فقد أصبحت الساحة خالية من أي مبادرة ذات مصداقية لوقف إطلاق النار وتحقيق السلام الذي يمثل الشرط الضروري لنجاح أي جهد لاحق لرأب الصدع بين الفرقاء السياسيين "تقدم" و"تنسيقية القوى الوطنية". ذلك أن الأولوية الملحة في الراهن الأمني والإنساني المفجع في السودان ليست الحوار بين السياسيين بل التفاوض بين المتحاربين لوقف إطلاق النار الدائم، وإخراج قوات طرفي القتال إلى مراكز بعيدة من المناطق السكنية، ونشر قوات إقليمية/دولية للفصل بين المتقاتلين، وحراسة المؤسسات الإستراتيجية، ومعالجة الأوضاع الإنسانية السيئة الناجمة عن الحرب، وإشراك قوات الشرطة والأمن في عملية تأمين المرافق العامة. ثم أخيراً وليس آخراً يمكن البدء في عملية سياسية لتسوية الأزمة السودانية في إطار فترة انتقالية محددة المراحل والمهام المسندة.
ومن الضروري التأكيد على أسبقية وقف إطلاق النار ونشر السلام والمحافظة عليه قبل القفز مباشرة للعملية السياسية التي تفتقد الطائل إذا لم تصمت البنادق بين المتقاتلين (Belligerents) بشكل مُستدام. وهذا يستدعي حصر التفاوض في المرحلة الحالية في طرفي الاقتتال، دون سواهما. وعطفاً على التجارب الدولية الناجحة في الخروج من الصراع فإن التسرُّع في إقحام تعقيدات العملية السياسية أثناء وقبل وقف الإحتراب يشكل فائضاً عن الحاجة (Superfluous)، وربما يقود لتوسيع نطاق الصراع إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. ولا يخفى أن التشظي المؤسف بين الكتلتين السياسيتين الكبيرتين (كتلة تقدم وكتلة القوى الوطنية)، والممانعة والمشاكسة حتى داخل كلتا الكتلتين، يجعل من إعطاء الأولوية لمعالجة هذا الواقع التراجيدي بَعْزَقةً لجهد إقليمي ودولي شحيح أحرى به حَمْل طرفي الإحتراب للتفاوض لإنهاء الحرب وإنقاذ حياة مئات الآلاف وإيواء ملايين النازحين واللاجئين الذين تبطش بهم إطالة وتوسيع دائرة الاقتتال.
ويؤكد رجاحة هذا النسق التراتبي بأسبقية التفاوض العسكري قبل الحوار السياسي تلك الوساطة المحمودة التي تقودها مصر لإنهاء حرب غزة بحصر التفاوض في مرحلة احتدام القتال بين حماس وإسرائيل فقط لكونهما طرفي الحرب. ويجري هذا التفاوض برعاية مصر باستبعاد تام لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تَوافَق 14 فصيلاً فلسطينياً في الجزائر في أكتوبر 2022 على أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وبرغم ذلك الوزن السياسي فقد تم استبعاد منظمة التحرير من التفاوض في هذه المرحلة لأنها ليست طرفاً في الحرب الدائرة. وذلك فضلاً عن وعي مصر بأهمية تحاشي الجدل المصاحب لتباين الرؤى الفلسطينية حول "اليوم التالي" التي ربما يقحمها إشراك الفرقاء السياسيين الفلسطينيين في مرحلة التفاوض لوقف إطلاق النار في غزة.
وعليه فإن أي جهد للتصدي للضرَّاء الإنسانية التي أطبقت على كافة السودانيين ينبغي أن يرتكز على مرحلتين متتابعتين غير متزامنتين لا مجال للتداخل بينهما. إذ تنطوي المرحلة الأولى على التفاوض الحصري بين العسكريين لوقف إطلاق النار الإنساني بمراقبة وحماية عسكرية إقليمية/دولية. ويشتمل التفاوض في هذه المرحلة أيضاً فتح الممرات الانسانية الآمنة لإيصال الإغاثة والمساعدات الإنسانية، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان وحماية المدنيين، وعودة النازحين والراغبين من اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وعودة النشاط الاقتصادي والاجتماعي في الريف والحضر وحمايته. وتقتضي الضرورة حصر هذه المرحلة فقط في طرفي الإحتراب الجيش والدعم السريع، والوسطاء الإقليميين والدوليين، بحيث يلزم استبعاد حواضنهما السياسية من المدنيين بحصر دورهم في مجرد المراقبة عن بُعد. ذلك أن إقحام السياسيين في تفاوض المرحلة العسكرية الأولى يفسدها ويحبط تحقيق مراميها باختزال قضاياها في جدال عقيم بين السياسيين الداعمين لطرفي الاقتتال تستضيفه تعسيراً وليس تيسيراً القنوات الفضائية الرائجة.
أما المرحلة الثانية لإنهاء الإحتراب فتتطلب تهيئة فضاء آمن للعمل السياسي يمهد لاستعادة ألق وبريق شعارات ثورة ديسمبر المغدورة بمشاركة واسعة من القوى الحية المدنية سيما النساء والشباب. ويلعب الحوار بين القوى المدنية الديمقراطية الداعية لوقف الحرب وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي/تقدم، وقوى الحرية والتغيير/تنسيقية القوى الوطنية الدور الوازن في المرحلة الثانية، شريطة استيعابهم لمفهوم التسلسل والتدرج في معالجة التناقضات الجوهرية مع مناصري النظام السابق، والتناقضات الثانوية بين مناصري أهداف ثورة ديسمبر. ويعني هذا حصر دور الجيش والدعم السريع في حوار هذه المرحلة الثانية في المراقبة عن بُعد بحيث يؤدي هذا الدور الرقابي لانسحابهما التام من الساحة السياسية بعد الاندماج في جيش مهني قومي واحد وموحد، قانع بدوره النمطي المتمثل في حماية الحدود وحفظ الأمن في إطار المرجعية الدستورية، وتأمين التحول المدني الديمقراطي.
ومن ثَمَّ فإن أي جهد ذي مصداقية لإنهاء الحرب في السودان يستدعي نأي السياسيين عن تفاوض المرحلة الأولى بين العسكريين والاكتفاء بمراقبتها عن بُعد، كما يتطلب استبعاد العسكريين عن حوار المرحلة الثانية بين السياسيين والاكتفاء بتأمينها وحمايتها. إذ أن أي مشاركة من الجانبين في مرحلة الآخر ستفسد المرحلتين معاً وتقود لتأجيج النزاع المسلح.
وعلى قدر كبير من الأهمية تجب الإشارة إلى أن مساهمة مصر في وقف إطلاق النار في السودان لا تمثل إضافة مبادرة جديدة للمبادرات العديدة السابقة، بل هي استئناف لمبادرة قمة دول الجوار التي استضافتها القاهرة في يوليو 2023 والتي ركَّزت على إعطاء الأسبقية لوقف إطلاق النار. إذ اشتمل الإعلان الختامي لقمة جوار السودان على 8 بنود أولها "الإعراب عن القلق العميق إزاء استمرار العمليات العسكرية والتدهور الحاد على الوضع الأمني والإنساني في السودان، ومناشدة الأطراف المتحاربة على وقف التصعيد والالتزام بالوقف الفوري والمستدام لإطلاق النار، وإنهاء الحرب وتجنب إزهاق أرواح السودانيين وإتلاف الممتلكات". كما تم في هذه القمة الاتفاق على تشكيل آلية وزارية لوضع خطة عمل تنفيذية تتضمن وضع حلول عملية وقابلة للتنفيذ لوقف الاقتتال والتوصل إلى حل شامل للأزمة السودانية عبر التواصل المباشر مع الأطراف السودانية المختلفة في تكاملها مع الآليات القائمة بما فيها الإيقاد والاتحاد الإفريقي. وعليه فقد التأم الاجتماع الأول لوزراء خارجية دول جوار السودان في إنجامينا، تشاد في أغسطس 2023 وأكد على أهمية الاتصالات المباشرة والمستمرة مع المتحاربين من أجل تحديد محددات وقف دائم لإطلاق النار، ووضع حد لإزهاق أرواح الأبرياء وتدمير البنى التحتية. وقد وضعت لجنة وزراء خارجية دول جوار السودان خطة عمل للعرض على رؤساء الدول والحكومات لاعتمادها. وتنقسم خطة العمل إلى 3 أجزاء تشمل أولاً الحصول على وقف نهائي لإطلاق النار، ثم يعقب ذلك تنظيم حوار شامل بين الأطراف السودانية، وإدارة القضايا الإنسانية. وقد أمَّن الاجتماع الثاني لوزراء خارجية دول جوار السودان المنعقد بنيويورك في سبتمبر 2023 على حصر أولويات التحرك خلال المرحلة القادمة في التدابير عملية للتوصل لوقف إطلاق نار مُستدام في السودان.
وفي ظل الاحتباس السياسي الذي خيَّم على السودان وساهم جوهرياً في إشعال حرب أبريل 2023، لا جدال حول الأهمية الكبيرة لمؤتمر تستضيفه القاهرة لإطلاق حوار بناء بين القوى السياسية في السودان التي ساهم تشظيها في انسداد السياسي والعسكري في السودان. ذلك أن مؤتمر القاهرة، الذي يَحْسُن أن يعقب التفاوض بين العسكريين لوقف إطلاق النار، يمثل سانحة طال انتظارها لمساعدة مصر في تيسير إيجاد الحد الأدنى من القواسم المشتركة بين قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي (تقدم) وقوى الحرية والتغيير التكتل الديمقراطي (تنسيقية القوى الوطنية) باعتبارهما الكيانين اللذين ساهم غالبيتهما في نجاح ثورة ديسمبر في إنهاء النظام البائد. بيد أن هذين الكيانين أنهكا بعضهما البعض بالانخراط في تناقضات ثانوية باعدت بينهما وبين تحقيق أهداف ثورة ديسمبر ضد النظام العسكري السابق.
لقد ظلت التناقضات في السياسة السودانية خلال الفترة الانتقالية مدفوعة بالطبيعة المعقدة والديناميكية للعلاقات الاجتماعية والأيديولوجيات في السعي للسيطرة على السلطة. وتجلَّت هذه التناقضات الجوهرية والثانوية بين اللاعبين الرئيسيين بطرق مختلفة، مما أدى إلى التوترات والصراعات المسلحة والإحتراب. وتضمنت التناقضات الرئيسية خلال الانتقال السابق عداءات أساسية بين الأيديولوجيات والكيانات السياسية المختلفة. إذ كشفت ثورة ديسمبر أن التناقض بين النظام السابق (الإسلاميين) وعامة الشعب السوداني هو التناقض الأبرز والمهيمن. حيث فاقم هذا التناقض الجوهري تهميش النظام السابق لمعارضيه من غالبية الشعب عبر "التمكين" الذي أفرز فساداً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً فاسقاً، شهدت به قيادة "الإسلاميين" التاريخية ممثلة في أمينهم العام، وقيادات الحركة الإسلامية أنفسهم على مرأي مشاهدي القنوات الفضائية الرائجة. وبالتوازي مع ذلك، فإن التناقض بين القيم الديمقراطية المتمثلة في المساواة الاجتماعية والسياسية التي طرحتها ثورة ديسمبر، وواقع عدم المساواة المفضوح الذي يتبناه مناصرو النظام (الإسلامي) كان ولا يزال تناقضاً جوهرياً لدوره في تقويض شرعية المؤسسات الديمقراطية وبالتالي إشعال السخط السياسي الذي أدى لإجهاز الشعب على نظام الإنقاذ ورفضه القاطع لأي محاولة لإعادته.
وفي المقابل، كانت التناقضات الثانوية بين قوى ثورة ديسمبر خلال الفترة الانتقالية بداية نسبية وعابرة، انطوت على اعتبارات شخصية كمية، ولكنها في غياب الحنكة السياسية تحولت إلى عداء نوعي بين فصائل الثورة المتمثلة في قوى الحرية والتغيير. وقد أدى سوء التقدير في تسلسل معالجة التناقضات الجوهرية والثانوية إلى عرقلة تحقيق أهداف ثورة ديسمبر. وكان هذا السلوك هو المسؤول الأول عن تورُّم مؤيدي النظام السابق، الذين لعبوا دوراً بارزاً في إشعال الحرب وتأجيجها. ولا يخفى أن العامل الأبرز وراء نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط النظام (الإسلامي) كان إدراك مناوئي سلطة الإنقاذ لتقديم التناقض الأساسي مع النظام الشمولي الفاسد على التناقضات الهامشية بين معارضي ذلك النظام الشمولي. وبالمثل، كان العامل الوازن وراء تعثر الفترة الانتقالية السابقة هو استمرار قوى الحرية والتغيير في الإلتهاء بالتناقض الثانوي بين قوى ثورة ديسمبر وإغفال تناقضها الجوهري مع النظام البائد. فبدلاً عن تفعيل وتعظيم التناقض الجوهري العدائي مع مناصري النظام السابق الذي هبَّ كل الشعب السوداني لإسقاطه، حوَّلت قيادة قوى الحرية والتغيير تناقضها الفرعي غير العدائي مع حلفائها المدنيين والعسكريين إلى تناقض جوهري وعدائي، مما سمح للدولة العميقة المترنحة السعي لاستعادة حكمها المنزوع والانقضاض على مكتسبات ثورة ديسمبر.
إن فك شفرة الحرب المتسعة رقعتها في ولايات السودان يتطلب إيلاء مصر الشقيقة الأهمية اللازمة لتوسيع مسار القاهرة (دول جوار السودان) ليشمل كيانات متعددة الأطراف مثل الاتحاد الإفريقي والإيقاد والاتحاد الأوربي والأمم المتحدة لتيسير التفاوض والحوار المستنير حول مدة الفترة الانتقالية والتسلسل والتدرج في تنفيذ مهامها المسندة بدءاً بمفاوضات وقف إطلاق النار بين المتحاربين، ووصولاً للحوار بين السياسيين حول التحول المدني الديمقراطي. ذلك أن ضخامة المهام المنوطة بهذه الفترة، وعلى رأسها تنفيذ العقد الاجتماعي بين سلطة الانتقال والشعب السوداني، تتطلب فترة انتقالية لا تقل مدتها عن خمس سنوات لإتاحة الفرصة للتدرج والتسلسل في تنفيذ مراحلها المتعاقبة الثلاث بواسطة العسكريين والمدنيين كل في مجاله ومرحلته، برغم الترابط المنهجي والتداخل الزمني بين تلك المراحل. وتنحصر هذه المراحل المتتابعة فيما يلي:
1. التدخل المباشر لقوات إقليمية/دولية لبسط الأمن (12 شهراً): وتنطوي هذه المرحلة على أولويات فورية (لا يمكن تحقيقها عبر منبر جدة) تشمل نشر قوات إقليمية/دولية لحفظ السلام ونزع السلاح، وتسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم، وإرساء العدالة الانتقالية، وإضفاء الطابع المهني على الجيش والشرطة، ووضع خطة شاملة لدمج قوات الدعم السريع والحركات المسلحة في الجيش السوداني الواحد الموحد، وإعادة تنظيم وبناء قدرات قوات الشرطة بمراعاة التوازن الإقليمي. كما تشمل الأولويات الفورية أيضاً السياسات الإنسانية المتمثلة في عودة وإعادة توطين اللاجئين والنازحين، وتوفير الأمن الغذائي، وإعادة توطين المقاتلين.
2. ترسيخ التحول والانتقال (12-36 شهراً): وتشمل هذه المرحلة أولويات قصيرة الأجل تتضمن الاستمرار في السياسات الأمنية وإصلاح قطاع الأمن (الجيش والشرطة والنظام القضائي والسجون)، وإزالة مخلفات الحرب. ومواصلة إعادة وتوطين اللاجئين والنازحين داخلياً، وتقديم الخدمات الأساسية، وتنفيذ الإصلاحات السياسية، ومواصلة الاستعداد لإجراء الانتخابات، ومكافحة الفساد، وإصلاح الخدمة المدنية، وعقد مؤتمر نظام الحكم لإصلاح اللامركزية والفدرالية المالية. وفي المجال الاقتصادي مواصلة الإصلاحات المالية وبرامج تعبئة الإيرادات، وتنفيذ الانفتاح التدريجي للاقتصاد بمساعدة المؤسسات الاقتصادية الإقليمية والدولية، وخفض عجز الميزانية، وتوسيع البنية التحتية التنموية والخدمات الأساسية.
3. تمكين القدرات المحلية لتحقيق الاستدامة (36-60 شهراً): وتنطوي هذه المرحلة على أولويات متوسطة المدى تشمل تراجع الانفاق العسكري والأمني، وتمكين القوات الأمنية الوطنية من شغل محل القوات الإقليمية/الدولية، ومواصلة إصلاح القطاع الأمني، ومتابعة جهود مكافحة الفساد، والاستمرار في إصلاح الخدمة المدنية. وفي الإطار الاقتصادي مواصلة الإصلاحات الاقتصادية، وزيادة استثمارات القطاع الخاص الوطني والأجنبي، والاستعداد لاستكمال عضوية منظمة التجارة العالمية ومنظمات التجارة الحرة، وتهيئة السودان لانطلاق التنمية المستدامة بعد استكمال استحقاقات الفترة الانتقالية في تحقيق السلام والانتعاش الاقتصادي، وإجراء الانتخابات الحرة النزيهة واستكمال التحول المدني الديمقراطي.
وحتى تستعيد ثورة ديسمبر زخمها المسلوب ومسارها القاصد نحو تحقيق "الحرية والسلام والعدالة" يجب الإقرار بأن المسؤولية التاريخية لانحراف الثورة عن استكمال أهدافها تقع على عاتق جميع اللاعبين الرئيسين خلال الفترة الانتقالية السابقة، بما في ذلك الجيش المُسيَّس، والدعم السريع المُخترَق، والحركات المسلحة المتأرجحة والقاصية عن قواعدها، والنسخ المنسلخة والنموذج المتحور من قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين المتشظي، ولجان المقاومة المتزمتة. ويظل فهم "التدرج والتسلسل" في معالجة التناقضات الجوهرية مع النظام السابق والتناقضات الثانوية بين فصائل الثورة هو العلامة الفارقة بين السياسي الحصيف، ومن هو دون ذلك. وتبقى السياسة هي مهارة تحقيق المُمكن بأقل الخسائر. ويا لها من خسائر فادحة تكبدها السودان بسبب قصور جميع اللاعبين الرئيسيين خلال الفترة الانتقالية عن استيعاب الأسبقيات والتسلسل في معالجة التناقضات "الجوهرية" و"الثانوية" بالانخراط في حلبة عراك في غير معترك بين المدنيين والعسكريين وبين العسكريين والعسكريين.
ويا له من أمل ومُبتَغى في نجاح جهود مصر الشقيقة لتيسير تفاوض عسكري يحقق وقف دائم لإطلاق النار وحقن الدماء السودانية، توطئة لحوار سياسي لاحق يستلهم مقاصد ثورة ديسمبر الشعبية ليفرز سوداناً مشرئباً للاندماج في مجتمعه الإقليمي والدولي في إطار احترام سيادته ووحدة أراضيه وتحقيق المنافع المشروعة له ولغيره.
melshibly@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: خلال الفترة الانتقالیة قوى الحریة والتغییر الجیش والدعم السریع دول جوار السودان لوقف إطلاق النار المرحلة الثانیة وقف إطلاق النار الشعب السودانی النظام السابق بین العسکریین القوى الوطنیة إقلیمیة دولیة لإطلاق النار الثانویة بین قیادة الجیش هذه المرحلة ثورة دیسمبر بین السیاسی التفاوض فی فی السودان منبر جدة فی إطار ذلک أن فی هذه
إقرأ أيضاً:
ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية (4-6)
مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، "ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)"، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، *خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر*، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.
عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.com
قيام حركة الأنيانيا في جنوب السودان
شهد العام 1963 ميلاد التنظيم العسكري للأنيانيا القائم على فكرة المعارضة المسلحة. مع قيام حركة الأنيانيا في جنوب السودان واندلاع الكفاح المسلح للشعب الأريتري بدأ التوتر والتأزم في العلاقات السودانية- الإثيوبية. يضاف إلى ذلك أن أقاليم دارفور والبجة وجبال النوبة طالبت، بعضها منذ الخمسينات، بالتعبير عن ذاتها وتطلعاتها في اطار نظام إقليمي. فقد أفضى التخلف والإهمال والتوزيع غير المتوازن للسلطة والثروة إلى قيام جبهة تنمية دار فور واتحاد جبال النوبة ومؤتمر البجة. مع تطور الأوضاع في هذه الأقاليم وبلوغ مشكلة الجنوب بحلول عام 1964 أبعادا خطيرة وجديدة، غدت وحدة القطر في خطر. كما اخذت القضية بعدا اقليميا، وقدرا كبيرا من التدويل. ساهمت كل هذه المعطيات في تغذية مناخ الثورة وخروج الجماهير.
كانت بداية الثورة في مساء 21 أكتوبر، حيث أقام طلاب جامعة الخرطوم ندوة لمناقشة تطورات الحرب الأهلية، فواجهت السلطات ندوة الطلاب بقوات شرطة الطوارئ بهدف إيقافها، ولكن الطلاب رفضوا وواصلوا ندوتهم. هاجمت الشرطة الندوة، ووقع صدام أدى إلى مقتل الطالب أحمد قرشي طه وجرح كثيرين وإصابة آخر بجروح خطيرة. كان استشهاد القرشي الشرارة. وتحول تشييع جثمانه في صباح اليوم التالي إلى مظاهرة سياسية قادها أساتذة الجامعة وطلابها وانضمت إليهم المنظمات الأخرى. تطورت الأحداث حتى جاء اعلان الإضراب السياسي العام. وتكونت في الحال جبهة الهيئات من المحامين والقضاة وأساتذة الجامعة والنقابات المهنية والعمالية. وشهدت الفترة من 24 حتى 26 أكتوبر اتساع الاضراب السياسي الذي بلغ قمته بدخول عمال السكة الحديد. وتحرك الضباط الأحرار ورفضهم نزول الجيش للشارع لضرب المتظاهرين، وضغطهم على الرئيس عبود ليحل المجلس الأعلى، وكانت تلك نقطة حاسمة في مسار الثورة. وفي مساء 26 أكتوبر أعلن حلّ المجلس العسكري. وهكذا سقط الحكم العسكري بعد ستة أيام من الصراع الضاري.
تولت جبهة الهيئات مع الجبهة الوطنية التي كونتها الأحزاب، قيادة الأحداث والتفاوض مع القيادات العسكرية لتسليم السلطة للمدنيين. ووضعت "ميثاق أكتوبر". وتشكلت حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة. وفي أول خطاب له في 10 نوفمبر 1964 عن قضية الجنوب، أعلن سر الختم الخليفة رئيس الوزراء أن حكومته تعتقد اعتقادا راسخا أن القوة ليست حلا لمشكلة الجنوب، وتشعر بأن استعمال القوة قد زادها تعقيداً. ثم قال إن حكومته "تعترف بكل شجاعة ووعي بفشل الماضي وتواجه صعوباته، كما أنها تعترف بالفوارق الجنسية والثقافية بين الشمال والجنوب التي تسببت فيها العوامل الجغرافية والتاريخية". وعلى أساس الاعتراف بمثل هذه العناصر في المشكلة، أعلن رئيس الوزراء أن حكومته تنوي اتخاذ سياسة تهدف إلى إعادة الثقة في الجنوب، وستأخذ بعين الاعتبار آراء المثقفين من أبناء الجنوب. ومن ثم فتحت حكومة أكتوبر الانتقالية قنوات اتصال مع القيادات الجنوبية بالخارج وأعلنت في 10 ديسمبر 1964 العفو عن جميع السودانيين الذين هاجروا للخارج من أول يناير 1955. وتبنت الحكومة اقتراح حزب سانو بالدعوة إلى مؤتمر المائدة مستديرة للنظر في موضوع العلاقة الدستورية بين الشمال والجنوب.
عُقد مؤتمر المائدة المستديرة حول جنوب السودان من السادس عشر إلى التاسع والعشرين من شهر مارس عام 1965، وهو بمثابة "أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام"، برئاسة مدير جامعة الخرطوم، الدكتور النذير دفع الله، وثمانية عشر ممثلاً عن الأحزاب السياسية الشمالية، وأربعة وعشرين من السياسيين الجنوبيين. وبحضور مراقبين من الأحزاب الحاكمة في الأقطار التالية: يوغندا، كينيا، تنزانيا، غانا، الجمهورية العربية المتحدة، نيجيريا والجزائر. إلى جانب حضور ممثلي حكومة يوغندا للمؤتمر كمراقبين. وحددت أهداف المؤتمر فيما يلي: "بحث مسألة الجنوب بغرض الوصول إلى اتفاق يكفل المصالح الإقليمية للجنوب كما يكفل المصالح القومية للسودان". لم يتمكن مؤتمر المائدة المستديرة من الوصول إلى قرار إجماعي حول المسائل الإدارية والدستورية. كتب يوسف محمد علي، عضو سكرتارية المؤتمر ورئيس لجنة الاثنى عشر، قائلا: "وتكشف وقائع جلسات المؤتمر أن البداية لم تكن مشجعة بل كانت على العكس تنذر بالفشل. وأمكن بعد جهد الاتفاق على تكوين لجنة للمتابعة- هي لجنة الاثني عشر" التي أسندت إليها مهمة البحث عن حل في ذلك الخصوص. وفي البيان الختامي الذي أصدره المؤتمر، أكد ممثلو الأحزاب والهيئات على حتمية المصالحة الوطنية. وجاء في البيان أن المؤتمر نجح في تهيئة الفرصة للزعماء السياسيين للالتقاء لأول مرة منذ سنوات في جو ودي لتبادل وجهات النظر حول قضية جنوب السودان. وتبنى المؤتمر بالإجماع سياسات تهدف إلى تطوير الجنوب وتطبيع الأحوال فيه. لاحقاً رفعت لجنة الاثنى عشر التي كلفها المؤتمر بدراسة الهيكل الدستوري والإداري الذي يكفل المصلحة الخاصة للجنوب وكذلك المصلحة العامة للسودان، رفعت تقريرها إلى رئيس الوزراء الصادق المهدي في 26 يونيو 1966 وقد وقعت على التقرير جبهة الجنوب، وحزب سانو، وحزب الأمة، والحزب الوطني الاتحادي، وجبهة الميثاق الإسلامي، وجبهة الهيئات. وكان حزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي قد انسحبا من اللجنة بحجة استمرار أعمال العنف في الجنوب. ومثلما أخفق المؤتمر كذلك كان مصير لجنة الاثني عشر. تبع ذلك أن عُقد في أكتوبر 1966 وبمبادرة من رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي مؤتمر الأحزاب السودانية برئاسة محمد صالح الشنقيطي. كان من المفروض بمقتضى البيان الختامي لمؤتمر المائة المستديرة دعوة المؤتمر للانعقاد مرة ثانية، ولكن الأحزاب الشمالية والجنوبية اتفقت على أنه لا ضرورة لذلك وقررت رفع تقرير لجنة الاثني عشر ونتائج أعمال مؤتمر الأحزاب إلى اللجنة القومية للدستور التي بدأت أعمالها في فبراير 1967 فوضعت مشروع دستور السودان الدائم أمام الجمعية التشريعية في 15 يناير 1968. وكان ذلك الدستور أحد الكبوات الكبرى التي قادت إلى نسف السلام والاستقرار ووحدة البلاد.
القادة والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستورية
إن ثورة أكتوبر دشنت صراعاً مكشوفاً بين قوى الحداثة والتجديد مقابل القوى الرجعية التقليدية المحافظة. وحملت شعارات أكتوبر مبادئ ومطالب لدولة ديمقراطية حديثة بدءاً من قانون انتخابات جديد وممثل للتطلعات مروراً بالوحدة الوطنية وحل مشكلة الجنوب ثم إلغاء الإدارة الأهلية، نهاية بالتنمية المستقلة. لقد ثارت الجماهير من أجل استعادة الديمقراطية، وضد سياسة الحسم العسكري في جنوب السودان، وهي تتشوق لتحقيق التسوية الوطنية وبناء الوحدة. كان مؤتمر المائدة المستديرة فرصة عظيمة للانحياز لمبادئ ثورة أكتوبر وأشواق الجماهير في تحقيق التسوية الوطنية وبناء الوحدة، غير أن حكومة الأحزاب التقليدية نكصت بعهدها في تطبيق توصيات المؤتمر، وعاد قادة الكفاح المسلح لممارسة القتال، وتفاقمت حالة الحرب الأهلية بعد المجازر الجماعية للجنوبيين في واو وجوبا. أكثر من ذلك أن الأحزاب التقليدية كلها لم تكن تعمل على تحقيق مبادئ أكتوبر، بل أنها جلها عملت على اجهاض ثورة أكتوبر". فقد تآمرت على سر الختم الخليفة رئيس مجلس الوزراء، فقدم في يوم 18 ديسمبر 1965 استقالته بعد أن وجد نفسه عاجزا عن إيجاد الحلول للمسائل المتنازع عليها.
نلتقي مع الحلقة الخامسة.